ليس سراً أن الإسلام، ديناً وثقافةً وانتماءً، يتعرض لهجمة مختلفة المصادر والأغراض في الولاياتالمتحدة، سواء جاء ذلك بشكل تهكم وسخرية في البرامج الفكاهية الليلية، أو بشكل ريبة وتخوف من مواطنين عاديين إزاء جيرانهم المسلمين، أو ك"أسئلة مقلقة" حول الدين الإسلامي يطرحها بعض من يدعي اطلاعاً ومعرفة. وفي حين لا يجوز التعميم إلى حد اعتبار أن ثمة مواجهة بين "الإسلام" والولاياتالمتحدة ككل، فإن أي تشخيص موضوعي لصورة الإسلام وحال المسلمين في الولاياتالمتحدة يكشف عن تردٍ مستمر تعجز عن اعتراضه جهود المؤسسات الناشئة للجاليتين الإسلامية والعربية. ولكن مسؤولية هذا التردي لا تنحصر في الطرف الأميركي. ولا بد للطرف الآخر، لا سيما في شقه العربي، من مساءلة جدية للذات. ولا بد كذلك من التشديد على أن هذا التراجع نسبي، فالمسلمون في الولاياتالمتحدة، شأنهم شأن غيرهم، ليسوا عزّل أمام حكم تسلطي غير خاضع للمحاسبة، ذلك أن الأطر المؤسساتية كما الثقافة السياسية في الولاياتالمتحدة ما زالت تفرض على الدولة والمجتمع مسلكية تمنع انتقال التراجع من طور المضايقات المتفرقة إلى طور الاضطهاد المنظم. أي، ودون تلطيف للقول، إن أحوال المسلمين في الولاياتالمتحدة رغم التردي والتراجع، ما زالت أفضل منها في معظم العالم الإسلامي. فالنظر بهذا الشأن عائد وحسب إلى التوجه المبرر لمساءلة الولاياتالمتحدة وفق معايير أكثر صرامة وذلك لإمكانية تحقيقها الالتزام والتطبيق لطروحات العدالة والمساواة. ويلاحظ هنا أن الجاليتين الإسلامية والعربية في الولاياتالمتحدة كانتا على وشك تحقيق اختراق حقيقي للواقع الأميركي، أي أنهما كانتا على شفير الانتقال من الهامش المهمل إلى صلب الوجدان الأميركي، مع ما يستتبع ذلك من اكتساب مسموعية أعلى تمكنهما من طرح فاعل للقضايا التي تعني العالمين العربي والإسلامي في مركز القرار الأول عالمياً، أي المعترك السياسي الأميركي. ولكن حسابات هاتين الجاليتين، ومعهما المصالح الفعلية للمجتمعات والدول الأم، كانت خارج إطار اهتمام من شاء أن يشن "غزوة" عبثية قاتلة على الولاياتالمتحدة، لم تدك برجي مركز التجارة العالمي وحسب، بل بددت فرص النجاح للجاليتين العربية والإسلامية هناك. وكانت الثقافة الأميركية قد حسمت إلى حد ما مسألة الانتماء الديني للبلاد. فبعد أن كانت المحكمة الدستورية العليا قد أعلنت في القرن التاسع عشر أن الأميركيين "أمة مسيحية"، فإن ما شهدته عقود القرن العشرين من وفود مهاجرين غير مسيحيين، ثم من بروز حركة حقوق مدنية أصرّت على تطبيق فصل الدين عن الدولة بشكل قاطع، أدّى إلى إعادة نظر على مستوى الصورة الذاتية باتجاه القبول بتعددية ثقافية تنفي عن المجتمع الأميركي الطابع الأحادي دينياً. إلا أن هذا الحسم لا يعني إجماعاً حول طبيعة التعددية. ففي حين أصرّت مجموعات محافظة عدة على حصر التعددية بالتنوع المسيحي-اليهودي، فإن الأوساط التقدمية حاولت توسيع رقعة التنوع باتجاهات مختلفة، دينية وغير دينية، مع التأكيد على الحياد العلماني للدولة والمجتمع والثقافة. وفي حين شهدت العقود الأخيرة من القرن الماضي دخولاً إسلامياً على الساحة الاجتماعية والثقافية الأميركية فقد اتخذ هذا الدخول طابعاً منفصماً، إذ كان حيناً جزءاً من التنوع الواسع الذي نادت به الأوساط التقدمية، وكان أحياناً أخرى عطف بيان على التنوع المحافظ، رغم تلكؤ معظم المجموعات المحافظة عن الإذعان للصيغة اليهودية المسيحية الإسلامية التي بدا وكأنها في طريقها إلى استتباب ما. ثم كان حدث 11 أيلول سبتمبر 2001 والذي انتقل معه الإسلام من صفة أميركية عتيدة إلى نعت محصور بالعدو الظاهر والباطن. فمن كان إلى أمس قريب ممتعضاً من الدخول العربي والإسلامي، سواء لما يشكله من تعكير لرؤية دينية غيبية لا حساب للإسلام في توقعاتها، أو ما قد يؤدي إليه هذا الدخول من تعديل لمواقف سياسية راسخة إلى يومها، بما في ذلك، مثلاً لا حصراً، التأييد الواسع النطاق للسياسات والممارسات الإسرائيلية، رفعت من أمامه العقبات للتعبير عن امتعاضه من اتساع الحضور الإسلامي والعربي ورفضه له، دون تحفظ تلزمه به التوجيهات الثقافية المعتمدة أميركياً. فاهتمام المجتمع الأميركي بالشأن العربي والإسلامي كان محدوداً، مع ميل طفيف إلى معارضته لتناقضه مع المصلحة الإسرائيلية، وهذه بدورها محبذة لأسباب فكرية وتاريخية ودينية. ولكن المجتمع والفكر الأميركيين كانا منفتحين وإن بحذر إزاء تنامي الحضور العربي والإسلامي. أما بعد "الغزوة"، فالانفتاح تقلص إلى حد التلاشي، فيما أصوات النقد والنقض ارتفعت، دون تحرك فعْال مقابل عربياً وإسلامياً. وهنا موطن مساءلة الذات على مستوى الجاليتين. فالواقع أن النظم المؤسساتية للجاليتين العربية والإسلامية قد تشكلت وفق قالب معتمد لدى مختلف الجاليات الوافدة الأميركية، وهو قالب المؤسسة المعنية بالحقوق المدنية لأفراد جاليتها. وهذا النشاط بطبيعة الحال ضروري لاعتراض التآكل الذي تشهده البلاد على صعيد الحقوق المدنية. فالجاليتان هما اليوم الحلقة الأضعف في العقد الاجتماعي الأميركي، مع نجاح خصومهما بتكريس حقهم باستهدافهما كلامياً. فالمهمة التي تؤديها مؤسسات هاتين الجاليتين في الدفاع عن الحقوق المدنية لمواطنين أميركيين لا تقتصر فائدتها عليهما، بل تتعداهما فعلياً إلى عموم المجتمع الأميركي. ولكن النشاط الحقوقي في الوضع القائم اليوم، أي في سياق ما يسعى البعض إلى تصويره على أنه "صراع حضارات"، ليس كافياً لمعالجته العوارض دون الأسباب. فالمطلوب التطرق إلى جوهر المسألة فكرياً وثقافياً، لا حقوقياً وحسب، لإعادة الانتمائين العربي والإسلامي إلى إطار المقبول بل المرغوب به كمقوم للواقع الأميركي، أي إلى ما كاد أن يكون عليه حال هذين الانتمائين قبل أيلول 2001. وهذا المنحى غائب اليوم، ولكن غيابه ليس عرضياً، وهنا تكمن القضية الخطيرة التي تتوجب مساءلة للذات لا على مستوى الجاليتين وحسب، بل على مستوى الثقافتين العربية والإسلامية بشكل عام. فحين تستفيض بعض الأصوات الأميركية بتصوير الدين الإسلامي على أنه دين شمولي مقيد للحريات وملزم بالاعتداء على غير المسلمين، فإن تصويرها هذا يجد صدىً مؤكداً وداعماً في العديد من الأوساط الإسلامية والجهادية والتكفيرية، دون اعتراض يذكر خارجها. وحين تصوّر هذه الأصوات الأميركية الثقافة العربية على أنها تفتقد النسبية والانصاف في تقييمها لحالات الظلم، فهي تستهجن حال فلسطين وتسكت ولا تبالي لحال دارفور مثلاً، وتفتقد التناسبية والعدالة في اعتبارها للحلول، فلا تجد ضيراً في سقوط أعداد الأبرياء في عمليات تسمها بالاستشهادية للإضرار بقدر ما تيسر بعدوها، فإنها تستند إلى مادة دسمة في الإعلام العربي تهلل وتحتفل بهذه العمليات. والمسألة هنا ليست قبولاً أميركياً أو غربياً ما. المسألة مسألة نزاهة ثقافية وأخلاقية عربية، ليس حال الجاليتين العربية والإسلامية في الولاياتالمتحدة إلا جانب هامشي منها. والسؤال: هو هل لزمت الثقافة العربية مسؤولية التعبير عن مواقفها الفكرية والأخلاقية لتوجهات تعسفية محكومة بالعقائدية والأهوائية؟ وهل سرّ هذا التلزيم قناعة ضمنية بأن الإرث العربي والإسلامي هو بالفعل أقرب إلى التعسفية منه إلى التسامح الذي تدعيه هذا الثقافة أحياناً من باب الدعاية أو الرغبة التوفيقية؟ على أكثر من صعيد، يبدو أن الجواب هو بالإيجاب، وأنه بالفعل ثمة قناعة بأصالة للتعسفية وطارئية للتسامح في الثقافة والتاريخ الإسلاميين والعربيين، تتجسد مثلاً في انتخاب بعض الكتّاب العرب الناقدين لأهوال التاريخ الإسلامي، وجنوح المدافعين إما إلى تقويم لهذا التاريخ يغدق عليه الثناء من باب التمني، أو إلى تشذيب له دون اعتذار بغية استعماله في تعبئة وتجنيد. لكن هذه الاستعمالات تأتي خارج سياق التجربة الإنسانية العالمية المتوافقة مع الموروث الإسلامي جملة وتفصيلاً. فهل يمكن الخروج من خجل البعض الصامت أو الناطق من تاريخ مضنٍ، ومن إصرار البعض الآخر على رفع هذا التاريخ وإدراجه في رؤية أهوائية تطلق العنان لصراعات حضارية؟ الواقع أنه رغم الجهل والإجحاف في النقد التشهيري المتداول في الولاياتالمتحدة للثقافة العربية والإسلامية، فإن هذه الثقافة بحاجة ماسة إلى مساءلة جدية لمسلماتها.