يكثر في أوساط المفكرين العرب المعنيين بالنفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدة طرح ثلاث مقولات تشير في رأيهم إلى جواز التفاؤل باقتراب أفول هذا النفوذ، أو على الأقل، مقارعته بنفوذ عربي إسلامي معارض. المقولة الأولى هي أن "اليهود في الولاياتالمتحدة يتناقصون". فعلى الرغم من أن العدد الاجمالي لليهود الأميركيين بقي قرابة ستة ملايين منذ منتصف هذا القرن، فإن مجموع السكان في الولاياتالمتحدة تضاعف في الفترة نفسها. فنسبة اليهود تدنت إذن من زهاء خمسة في المئة إلى أقل من ثلاثة في المئة، ثم ان التزاوج بين اليهود وغيرهم يساهم في استنزاف هذه الطائفة. وبما أن معظم الأميركيين اليهود ينتمون إلى الطبقات الميسورة، فإن نسبة التوالد في أوساطهم منخفضة. إذن، وفق هذه المقولة، فالحجم البشري لليهود في الولاياتالمتحدة إلى انخفاض ، مع ما يستتبع ذلك من تراجع في الوزن الاقتصادي والتأثير السياسي. والمقولة الثانية هي أن "المسلمين والعرب في الولاياتالمتحدة يزيدون عدداً عن اليهود. يكفي، إذن، تنظيمهم وتحفيزهم بالصيغة المناسبة لمعادلة النفود اليهودي أو التفوق عليه". فالأرقام المتداولة اليوم حول عدد المسلمين في الولاياتالمتحدة تتراوح بين أربعة ملايين وعشرة ملايين. وتوافد المهاجرين من الدول الإسلامية الى الولاياتالمتحدة مستمر. كما أن نسبة التوالد في المجتمعات الإسلامية تبقى عالية. وبالاضافة إلى هذه الزيادة الطبيعية، فإن الدين الإسلامي ترسخ في أوساط الافارقة الأميركيين. وتشير التقديرات إلى أن عشرة في المئة منهم أي قرابة ثلاثة ملايين هم من المسلمين. وحركة اعتناق الدين الإسلامي في أوساطهم ما زالت ترتفع. وبالاضافة إلى المسلمين، فإن قرابة ثلاثة ملايين من الأميركيين المسيحيين هم من أصول عربية لبنانية في الغالب، المطلوب إذن، وفق هذه المقولة، تصحيح الخطأ التاريخي الذي أدى إلى إهمال هذه القوة الكامنة لمصلحة القضايا العربية، والشروع في العمل المؤسساتي الذي يضع العرب والمسلمين الأميركيين في موقع الند لليهود الأميركيين نفوذاً وتأثيراً. والمقولة الثالثة هي أن "أغلب الأميركيين يدرك تضخم النفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدة ومستاؤون منه، وهم يترقبون الفرصة لتحجيمه". والشواهد على ذلك، وفق هذه المقولة، أكثر من أن تحصى. فهناك جمعيات انشئت لترصد هذا النفوذ، وأعضاء هذه الجمعيات ينتمون إلى مختلف التيارات السياسية والاصول العرقية. وصدرت كتب عدة لتكشف مدى التورط اليهودي والإسرائيلي في التجسس على الولاياتالمتحدة والإساءة إليها. أما استفحال الحضور اليهودي في قطاعات المال والاعلام والسياسة فمن البديهيات التي تثير من دون شك، مجدداً وفق هذه المقولة، امتعاض الجمهور الأميركي، ولربما خير دليل على هذا الامتعاض، الاعتراف الهامس الذي طالما يصدر عن المواطن الأميركي العادي بعيداً من رقابة "الصواب السياسي" والذي يصرح أن الكيل طفح من اليهود ونفوذهم ومحرقتهم وإسرائيلهم. ثلاث مقولات تصب في اتجاه واحد وتفتح المجال أمام تفاؤل وربما اطمئنان بأن المستقبل يحمل في طياته انتصاراً للقضايا العربية، ولا سيما قضية فلسطين، إلا أن كلاً من هذه المقولات ينضوي على مغالطات خطيرة تبطله جملة وتفصيلاً. فلا اليهود إلى تناقص، ولا المسلمون والعرب إلى تفوق، ولا إدراك لنفوذ يهودي مفترض في الولاياتالمتحدة، أو على الأقل، لا بد من إعادة النظر في الحتمية التي تبطنها هذه المقولات. ففي موضوع الحجم العددي لليهود في الولاياتالمتحدة، يخطئ من يكتفي باستعراض الأعداد التي تطرحها المؤسسات الدينية والاجتماعية اليهودية، فبما ان تبين الانتماء الديني لا يتم عبر الاحصاء السكاني الذي يتم في مطلع كل عقد في الولاياتالمتحدة، فإن تقدير عدد اليهود ينطلق غالباً من انتمائهم الطوعي إلى جمعياتهم الدينية وكنسهم. والعدد الاجمالي المطروح قرابة ستة ملايين يشمل فحسب المواطنين الذين يستوفون في يهوديتهم الشروط التي ترتئيها الأطراف القائمة بالتقديرات الاحصائية، من حيث الاصول العائلية والمعتقد الديني، إلا أن الوجود اليهودي في الولاياتالمتحدة يتعدى هذه الشروط، ربما أضعافاً مضاعفة، ففي مقابل كل يهودي مستوف للشروط، ثمة مواطنون عدة إما من أصول يهودية أو ذوو قرابة يهودية لا يستوفونها، فالتزاوج، كما يتخوف رجال الدين اليهود، قد يؤدي فعلاً إلى "تبديد" جزء كبير من اليهود وفق تعريفهم لليهودية وبعض رجال الدين اليهود يعتبر التزاوج محرقة يهودية جديدة، إلا أنه من ناحية أخرى يساهم في توطيد الوجود اليهودي في المجتمع الأميركي عبر تشكل فئة كبيرة من الأميركيين الذين يعتبرون اليهودية قسماً من تراثهم الشخصي، وجزءاً راسخاً من هويتهم، وقد يصعب تقدير أعداد هؤلاء، غير أنهم على الأرجح يزيدون مرات عن اليهود الأميركيين. فهؤلاء ليسوا يهوداً بالمعنى الديني، غير أنه قد يصح في العديد من الحالات اعتبارهم يهوداً بالمفهوم القومي، وتعاطفهم مع القضايا اليهودية واهتمامهم بها ليس طارئاً ولا عرضياً. أما الاعتراض بأن اليهودية هي دين وليست قومية، فهو اعتراض يصلح في فلسطين حيث استقطبت الصهيونية مجموعات سكانية ذات اصول عرقية وثقافية مختلفة لا يجمعها إلا الدين. أما في الولاياتالمتحدة حيث معظم اليهود من أصل عرقي ثقافي اجتماعي واحد، هو الأصل الأوروبي الاشكنازي الناطق بالييديشية، فلا جدل أن اليهودية هي كذلك انتماء قومي. وفي حين لم ينجح المجتمع الأميركي بتحقيق الصهر القومي الذي يشكل أحد مقوماته العقائدية، فإن قدراً ملحوظاً من الاندماج والتداخل قد تحقق. وفي حين يبقى الانتماء العرقي حاجزاً يفصل بين ذوي الاصول "البيضاء" و"السوداء" و"الهيسبانيك" الناطقين بالاسبانية، فإن الاصول القومية المختلفة انبثت فعلاً في جسم المجتمع الأميركي "الأبيض". وظاهرة الانبثاث هذه لا تقتصر إذن على اليهود، فالمواطن الأميركي، باستثناء المهاجر الجديد، يجمع في خلفيته العائلية، غالباً، العديد من الاصول. فإذا كان هذا المواطن مثلاً من أصول يهودية وايطالية وايرلندية وبولونية، فإن الجمعيات المعنية بالتراث الايطالي أو الايرلندي أو البولوني تعمد إلى اعتباره من مجموع المواطنين الأميركيين الايطاليين والايرلنديين والبولونيين على التوالي. أما الجمعيات اليهودية، فإنها تتحفظ عن ادراجه ضمن المواطنين الأميركيين اليهود. هكذا نجد ان الرقم المتداول لعدد الايرلنديين الأميركيين هو أربعون مليوناً، فيما اليهود ستة ملايين وحسب. والعامل الديني هو طبعاً السبب في الاختلاف في منهجية الاحصاء. ومن حق المؤسسات الدينية اليهودية أن تعتمد المنهجية التي تناسبها. ويبدو ان هذا الاختلاف هو مصدر العلة التي تعاني منها مقولة "اليهود إلى تناقص". وللأسف، فإن هذه العلة أدت كذلك إلى انحدار بعض الفكر العربي إلى منحى مؤامراتي واهن. فوزير الدفاع الأميركي وليم كوهين هو من اصول ايرلندية ويهودية، كما أنه ينتمي مذهبياً إلى كنيسة التوحيد Unitarianism، إلا أن بعض الصحافة العربية يصر على تغليب أصله اليهودي على سائر أصوله، بل وعلى معتقده، ليصبح من عداد "يهود كلينتون" الذين يتحكمون بمصير البلاد والعباد، ومن ضمن هؤلاء طبعاً وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت "اليهودية" هي الأخرى. فالأحرى بمن يرى ذلك ان يدرك ان عدد اليهود في الولاياتالمتحدة وفق المعايير التعسفية التي اختارها لكوهين هو أربعون مليوناً أو يزيد! وبالاضافة إلى هذا الجانب المهمل في تقويم عدد اليهود الأميركيين، ثمة ناحية أخرى لا بد من الاشارة إليها، ذلك ان التحول السكاني المهم في الأوساط اليهودية الأميركية ليس عددياً، بل مذهبي وثقافي. إذ أن أعداد اليهود في الولاياتالمتحدة ما زالت ثابتة تقريباً منذ منتصف القرن، غير أن نسبة اليهود الناموسيين منهم ترتفع بانتظام. وهذا الارتفاع يعكس تطورين يسيران باتجاهين معاكسين، فالاستنزاف الطارئ على اليهود المحافظين والاصلاحيين نتيجة التزاوج مع غير اليهود يؤدي، وفق المنهج الاحصائي المعتمد، إلى تناقص عدد اليهود الاجمالي. لكن نسبة التوالد العالية جداً في أوساط اليهود الناموسيين الذين لا يتزاوجون البتة مع غيرهم تعوض هذا التناقص، وتحافظ على استقرار العدد الاجمالي. ولكن، مع استمرار في ارتفاع نسبة اليهود الناموسيين، فإن التعويض سوف يزيد عن التناقص. ويعود عدد اليهود الاجمالي إلى الارتفاع. فالتوقعات إذن هي أن يهود منتصف القرن الحادي والعشرين، وفق التعريف الديني لليهودية، سوف يزيدون عن يهود منتصف القرن العشرين، لكنهم سوف يختلفون عنهم بارتفاع نسبة الناموسيين في أوساطهم. فاليهود الأميركيون، إذن، ليسوا إلى تناقص، لا في العدد ولا في الانبثاث. ومقولة تناقصهم باطلة. وإدراك حقيقة ظاهرة الانبثاث القومي في الولاياتالمتحدة يؤدي إلى نتائج تنهك المقولة الثانية، مقولة "المسلمون والعرب إلى تزايد في الأهمية". فالمسلمون حديثو العهد نسبياً في الولاياتالمتحدة، والتزاوج بينهم وبين غيرهم يكاد أن يكون معدوماً، فلا انبثاث لهم البتة، ولا حضور على المستوى الوطني العام. فوجودهم اليوم لا يكاد يتعدى هامش المجتمع الأميركي. ولا شك ان هذا الو ضع سوف يتطور بصورة يتوطد معها الحضور الإسلامي بشكل أو بآخر. لكن المسألة ليست موضوع أرقام، بل هي مسألة حضور تاريخي واندماج في بنى المجتمع. وسبيل المسلمين الأميركيين إلى ذلك لم يتضح بعد. ثم أن الأرقام الشائعة حول عدد المسلمين في الولاياتالمتحدة مبالغ فيها على الأرجح. فهذه الأرقام ابتدأت تقديرية، ثم استقرت، فتضاعفت، بناء على ترجيحات متفائلة. وحتى إذا صحت، وهو أمر مستبعد، فإن الانتماء الإسلامي في الولاياتالمتحدة هو فعلاً انتماء ديني، وليس انتماء قومياً ليس بعد، على الأقل. فليس من المحتم أن تتلاقى المصالح وخطط العمل لدى الفئات الإسلامية المختلفة. فالنشطون في العمل السياسي والاجتماعي من الأفارقة الأميركيين المسلمين مثلاً يتحركون في إطار المجتمع الافريقي الأميركي، وقل أن تعنيهم القضايا الخارجية، وعند اهتمامهم بهذه القضايا، فإن مشاكل افريقيا "السوداء" هي التي تنصب عليها معظم جهودهم. أما العرب الأميركيون المسيحيون، فانبثاث الاجيال الأولى منهم يكاد أن يكون تاماً. والحديث بالتالي عن ثلاثة ملايين منهم يتجاهل الطابع الجزئي لهذا التصنيف، فعروبة معظمهم هي جزء وحسب من هويتهم، وليس هويتهم الكلية. أما المسيحيون العرب من المهاجرين الجدد، فالعديد منهم جاء إلى الولاياتالمتحدة محملاً بأثقال التفرقة والتضييق الثقافي والديني. فالحديث عن تحفيزهم وتنظيمهم يجانب الواقع. وكثيراً ما ترد في الصحافة العربية التعليقات التي تلوم العرب في الوطن والمهجر للتخلف عن الاستفادة من تلك القوة الهائلة التي يشكلها الحضور العربي والإسلامي في الولاياتالمتحدة. والواقع أن جهود العاملين في المنظمات والجمعيات العربية الأميركية والإسلامية الأميركية ليست مقصرة على الاطلاق. بل العكس هو الصحيح، أن تتمكن هذه القلة القليلة من تحقيق وجود عربي وإسلامي في العاصمة الأميركية، على الرغم من محدوديته، هو شاهد على كفاءتها وصلابة التزامها على رغم انتفاء الأسباب الموضوعية لنجاحها. فهذه الجهود نجحت بالفعل في إرساء الأرضية المطلوبة لتطوير النشاط السياسي العربي والإسلامي الأميركي، ألا إنه ما زال في مراحله الأولى. فمن المبكر التكهن بالشكل الذي سوف يتخذه الحضور العربي والإسلامي في الولاياتالمتحدة في المستقبل، هل هو حضور انبثاث صرف النموذج الايرلندي الأميركي أو حضور انفراد النموذج الافريقي الاميركي أو حضور مخضرم بين الانفراد والانبثاث النموذج اليهودي الأميركي، بل هل يجوز افتراض نموذج واحد للعرب الأميركيين، أو يتوجب أخذ انتماءاتهم الدينية في عين الاعتبار؟ وعلى أي حال، فالصورة الواقعية للحال العربية والإسلامية في الولاياتالمتحدة ليست صورة قوة كامنة على وشك البروز، بل صورة بحث عن هوية وبحث عن إطار في مجتمع يصر قطاعا الاعلام والترفيه فيه على إلزام المسلم والعربي أشكالاً نمطية جارحة. فعلى النشطين العرب والمسلمين الأميركيين تصحيح هذا الواقع الذي يضني مجتمعهم قبل الشروع، وفق الوصفة المقترحة عليهم في الصحافة العربية، بإحكام قبضة النفوذ العربي والإسلامي على مراكز القوى في العاصمة الأميركية. إذن، فمقولة "نفوذ العرب والمسلمين إلى تصاعد" تعاني من الإفراط في التفاؤل ومن التفريط في الانجازات الفعلية للمنظمات والجمعيات العربية والإسلامية الأميركية. واستيعاب حقيقة الانبثاث اليهودي في المجتمع الأميركي من شأنه كذلك أن يظهر مواطن الضعف في المقولة الثالثة التي تفترض انفصاماً بين اليهود وسائر الأميركيين. نعم، ثمة خصوصية يهودية عائدة إلى الشكل الأولي الديني لهذه الفئة، بالمقارنة مثلاً مع الجالية الألمانية التي لا تعاني في انبثاثها من بروز الجانب الديني. لكن هذه الخصوصية هي اليوم خصوصية كمية لا نوعية. يذكر على سبيل المثال أن انبثاث الجاليات الكاثوليكية الايرلندية والايطالية مثلاً في المجتمع الأميركي تأخر عن انبثاث الجاليات البروتستانتية. فالنصف الثاني من القرن العشرين شهد بالفعل بلوغ الانبثاث الكاثوليكي ثم اليهودي فهل يكون القرن الحادي والعشرون قرن انبثاث المسلمين؟. والتفاعل بين الاتجاهات الدينية الثلاثة البارزة في الغرب عموماً، وفي الولاياتالمتحدة خصوصاً، أي البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، لا يقتصر على الجانب الاجتماعي. فالواقع ان مذاهب بروتستانتية أميركية عدة ابتدأت منذ مطلع القرن التاسع عشر بإعادة تقويم للعلاقة مع اليهودية، فالبعض الاصولي منها أعاد الاعتبار لليهود ضمن رؤيته الغيبية لمجرى التاريخ، والبعض الآخر، في خطوات تقدمية، بلغ حد التخلي عن حصرية الخلاص بالمسيحية، مفسحاً المجال أمام تعايش يهودي - مسيحي. ولا يخفى ان مجمع الفاتيكان الثاني في أواسط الستينات أرسى مقومات تعايش بين الكاثوليك واليهود. فالحديث في الخطاب الفكري الأميركي عن اليهودية - المسيحية كأساس مشترك ليس مجرد صيغة بيانية تهدف إلى استرضاء مجموعات متنافرة، بل هو إقرار بحقيقة في طور النشوء، وإن جابهها اعتراض من بعض الأطراف بين حين وآخر. أما عن العداء المفترض الذي يبطنه العديد من الأميركيين لليهود، فبالفعل، يمكن الاشارة إلى مجتمعات أميركية، ولا سيما في الغرب الأوسط والجنوب، حيث يكاد الانبثاث اليهودي أن ينعدم وكذلك الانبثاث الكاثوليكي. ففي هذه الأوساط، قد يسمع السائل الكثير من التهجم على اليهود والتشكي من نفوذهم وربما كذلك اتهاماً للبابا بأنه يستعد من الفاتيكان لاخضاع الولاياتالمتحدة لسلطة النظام العالمي الجديد، بالتعاون والتنسيق مع الأممالمتحدة والعائلة البريطانية المالكة. لكن هذه المواقف تبقى خارج الخطاب السياسي والفكري السائد في الولاياتالمتحدة، ولا يخطئ السائل، خصوصاً إذا كان هذا السائل عربياً، ان يخلط بين العداء لليهود وإسرائيل ونفوذها المفترض في الولاياتالمتحدة فبعض "الوطنيين" الهامشيين يطلقون على الحكومة الاتحادية في واشنطن اسم "حركة الاحتلال الصهيوني" وبين التأييد للقضايا العربية. فالنفط العربي، لدى أصحاب الطروحات التآمرية، هو سلاح آخر يهدف إلى اخضاع أميركا الحرة. ولا يعني ذلك اطلاقاً ان الساحة الفكرية والسياسية الأميركية تخلو من الذين يميزون بين العداء لليهود كمجموعة دينية أو قومية، ويتجنبونه، وبين مخاصمة الصهيونية، كحركة سياسية عنصرية، ويعتنقونها. يذكر، على سبيل المثال، الجهد المثابر الذي يلتزمه محررو نشرة Washington Report on Middle East Affairs ومحاولاتهم المستمرة، على رغم بعض التعثر، للتمييز بين الجانبين. أما خارج المجموعات الهامشية التي تتأرجح بين المؤامرة والأخرى، فالاجماع في الخطاب الفكري الأميركي هو على إدانة أي شكل من أشكال التمييز بحق اليهود، وربطها بالتجربة التاريخية اليهودية في أوروبا والغرب عامة، والتي كانت المحرقة آخر فصولها. وقد لا يعكس هذا الاجماع الاسمي واقع حال المجتمع الأميركي الذي لا يخلو من الشحن العرقي والقومي والمذهبي. إلا أن الافتراض ان هذا الشحن، أو بعض مظاهر التعبير عنه، يكشف عن تأصل حالة عداء لليهود في الأوساط الأميركية، فهو مبالغة انتقائية، ذلك أنه للمؤامرات والعداوات والكتب التي تفضحها سوق رائجة في الولاياتالمتحدة. فالمقولة الثالثة هي إذن من باب التمني، لا الواقع. وينكشف في المقولة الثالثة أن التمييز بين الصهيونية واليهودية قد ضاع، إذ تتمنى هذه المقولة أن يكون الأميركيون قد سئموا النفوذ اليهودي. فالاعتراض ليس على نفوذ سياسي للجهات المؤيدة لإسرائيل، وهو نفوذ يتمنى الطرف العربي صراحة ان يضاهيه، بل على نجاح المواطنين الأميركيين اليهود في مختلف الأصعدة، فالنجاح يمسي إذن مؤامرة بدلاً من أن يكون دعوة للتحليل والاستيعاب. فكما عممت الصهيونية المفهوم القومي لليهودية ليشمل غير الاشكنازيم شاؤوا أم أبوا، وكما استوعبت التعريف النازي لكلية الانتماء إلى اليهودية وخصوصيته وتفرده، فإن بعض الفكر العربي اليوم قد وافقها. فهكذا ترفض بيروت استقبال ثلاثة مفكرين أرادوا مشاركة مجتمع ينتمون إليه فكراً وروحاً في مناسبة ذكرى النكبة، لأنه ثمة من رأى اختزالهم يهوداً وحسب، مؤيداً بذلك المقولة الصهيونية التي تعتبر الانتماء اليهودي انتماء كلياً... وهنا بيت القصيد. فالمقولات الثلاث التي جرت محاولة نقضها هنا ليست مقلقة بحد ذاتها، إنما المقلق هو ما تبطنه من توسيع تعريف "الآخر" المعادي وتمني زواله. المقلق ان لا تكون المعطيات الموضوعية هي التي أدت إلى تشكل هذه المقولات وتداولها. بل أن تكون هذه المقولات جاءت محكومة برغبة عقائدية شمولية تفرض على اليهودي يهوديته كصفة اطلاقية، وترى في هذه اليهودية عدائية الزامية. * كاتب لبناني مقيم في الولاياتالمتحدة.