تحت عنوان"التصوير الألماني الحديث"ينظم متحف الفن المعاصر في نيم الفرنسية معرضاً استثنائياً في اهميته، لأنه يكشف بأسلوب بانورامي الاتجاهات الفنية لما بعد الحداثة في الفن الألماني. وهو يفعل هذا بربطها تاريخياً بما بعد سقوط"جدار برلين". يجمع المعرض عشرين فناناً شاباً تقع تواريخ ميلادهم بين 1953 وپ1975 كممثلين عن هذه التيارات، جُمعت اللوحات الستون العملاقة من مراكز النشاط الكثيف لصالات العرض والمعارض، وهي"المونوبولات"التي اصبحت تزاحم برلين مثل صالات هامبورغ ودرسدن وليبزيغ. توخى منظمو المعرض تجنب الاقتصار على ممثلي"البانك"او"النازية الفنية الجديدة"، وذلك بتطعيم العرض باتجاهات ليست تماماً اساسية مثل اصداء البوب الأنكلوساكسوني او إدخال آثار موجة اجتياح التصميم الصناعي أو الغرافيكي، وعلى رغم نفي المعرض خارج اضواء العاصمة فقد احتل مساحات كريمة من النقد ومن الإعلام. وتضاعفت ملفاته الفنية في المجلات المتخصصة بعد شهر من افتتاحه يستمر حتى نهاية الشهر الجاري. لنتخيل انه المعرض الوحيد بعد معرض ماكس بكمان الذي يعرّف بالفن الألماني, على رغم امتداد سنوات التناغم في البلدين ومحاولة بناء الوحدة الثقافية الأوروبية من التحالف الفرنسي - الألماني. اذا تجاوزنا كل المحبطات التي تعيق الوصول الى اهمية المعرض عثرنا على ما هو استثنائي في اصالته. هي الومضة التي لم تستطع شروط الحذر من إخمادها، وهي شعلة الروح التعبيرية الملحمية الجرمانية، التي ما زالت تتقد في مختبرات الجيل الشاب وتجاربه. نعثر في عدد من التجارب الرحبة المساحة على الانتماء الصريح والمعاند الى جرمانية جورج بازلتز. حتى ان احدى اللوحات الرئيسة مهداة الى صقوره المقلوبة في الفراغ، ذلك ان سقوط جدار برلين لا يحتل رمزاً سياسياً لإعادة وحدة الألمانيتين فقط وإنما ايضاً استعير من خربشاته التراكمية الموزعة شظاياها في اوروبا على غرار النصب المقام في حي الديفانس في باريس، خربشات عدمية اعتراضية تُنعش ذاكرة الصرخات الألمانية المكبوتة لما بعد الهزيمة. تُترجم اللوحات العملاقة التي تغلب على المعرض اصداء الحساسية التعبيرية الألمانية التي تظاهرت منذ بواكير الحرب العالمية الأولى، هي التي تعكس الروح الميتافيزيقية في الفلسفة هايدغر والموسيقى ما بين بروكنز وأورف، وهي التي تجعل من مرارة الملحمة الإنسانية مركزاً للتعبير، تجلت في معاداة الحروب منذ عهد غروز وديكس الموضوعية الجديدة والحفارة كوتي كولفيتز وانتهت بعبقرية بازلتز مروراً بماكس بكمان. نعثر في التجارب الشابة على الروح المتناسخة من هؤلاء. احتدام الشكل وصراخه السيزيفي والتدمير المتراكم للشكل الإنساني، ثم التحول به الى طقوس ادائية انتحارية تترصد السلوك الحدسي او الهمجي للفرشاة. نقع هنا على ملامسة روح الإشارات والاختزالات العبثية المستقاة من روح الشخبرات Les Graffities المتراكمة على شظايا جدار برلين. يؤكد النقد الألماني على صورة:"الجدار - الشاشة"في هذه التيارات، كمحاولة لتفسير رحابة المساحة واستقبالها لشتى انماط التعبير، بما فيه الملصقات الطباعية والفوتوغرافية. وشتى بصمات الأداء السادي من حك الى تشطيب وإلغاء، وقلع وتخديش وسواها. يسمح الفراغ الرحب في هذه الحال بإنعاش السلوك الفيزيائي للفرشاة واليد والجسد مع التعريج على اصداء"التعبيرية التجريدية"في"مدرسة نيويورك"التي تعتمد على"الفعل"الحدسي المباشر وعلى ديناميكيته الانفعالية. يجد النقاد تعبير"الجدار - الشاشة"اشارة رمزية في المعروضات لتقاطع الأساليب"ما بعد الحداثية"، والتي يجدون في تعارضها خصوبة لا يستهان بها، وذلك ابتداء من التأثيرات الفرنسية الرومانسية وحتى تيار"البوب آرت المحدث"مروراً بما سموه"الجرمانية - النيتشية"ذات الحساسية القومية والفخر الثقافي العمودي. ناهيك عن تأثيرات التصميم الصناعي في التجريد. الواقع ان المعرض متباعد المستويات وأن التيار الأشد اصالة ومتانة حداثية هو الموسوم بميراث التعبيرية الألمانية الأولى والثانية باعتبارها الثالثة، وإذا كان هناك بعض التجارب التي توازيها في الإثارة فهي بالتحديد التي تسعى للخروج من ربقة"التجريد الغنائي الفرنسي"ومن التعبيرية التجريدية الأميركية"لتصل الى تجربة بالغة الخصوصية والخصوبة والثراء. ومهما يكن، فإن المعرض يمثّل محطة بالغة الأهمية للتعريف بما يجرى بعيداً من ضجيج النقد والإعلام في مختبرات ألمانية شابة، سيكون لها دور بالغ في إثراء متاهات"ما بعد الحداثة". كما وتكشف الانحسار التام للواقعية الملتزمة الاشتراكية. هي التي ابتليت بها ألمانياالشرقية قبل سقوط جدار برلين.