يكشف المعرض الاستعادي الذي يقيمه "متحف الفن المعاصر" في "مركز بومبيدو" للفنان الألماني ماكس بمكان مدى الغبن والتظليل الملتبس الذي همّش ذكر فنان كبير مثله في تاريخ الفن، وإذا كان من الطبيعي ان يعتبره الألمان من اكبر التعبيريين الذين شهدت خصائصهم الجرمانية اهوال الحربين فإن بعض النقاد الأنكلو - ساكسونيين يعتبرونه ابرز فنان في القرن العشرين وبما يتفوّق فيه دوره حتى على بابلو بيكاسو، لذلك فإن المعرض الذي سيستمر من نصف ايلول سبتمبر وحتى منتصف كانون الثاني يناير 2003، سينقل بعد ذلك الى متحف "تات مودرن" في لندن ثم الى "متحف الفن المعاصر" في نيويورك. تغطي المئة لوحة العلاقة والستون محفورة ورقية إضافة الى ثلاثة تماثيل برونزية نادرة ملحمته الوجودية منذ ولادته عام 1884 وحتى وفاته في نيويورك عام 1950. يعتبر من أبرز مؤسسي "مدرسة برلين" التعبيرية التي تظاهرت في جماعتين كان يمثل بكمان محورهما: "البرلينيون المنشقون" و"الموضوعية الجديدة" الى جانب جورج غروز وأوتوديكس، وهي النزعة التي نمت في ظلمات الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. إذا تأملنا أبرز حداثيي هذه المدرسة اليوم وهو جورج بازلتز نجده في عالمه المقلوب رأساً على عقب قد خرج من رحم بعض عوالم بكمان الفراغية. تعلن لوحات بمكان قيامة ميثولوجية تتخلّق تفاصيلها التعبيرية من نسيج ذاتها التخييلية. تكاد هذه الصور تنفصل عن ذاكرة الأساطير الجرمانية واليونانية. هي تتقاطع وتتوازى مع رموزها من دون ان تلتزم بأمانة مضامينها، بخاصة انها منسحبة على حداثة ما بين الحربين. وحتى ندرك خصائص تكوينات بكمان علينا ان نتأمل خصائص "طوبوغرافية" العناصر في الفراغ. إنه الفراغ الملحمي الذي يقترح المناخ التعبيري او التراجيدي العام، اما اللبوس/ الميثولوجي فيرجع الى رؤية بكمان لعالم على اساس المشهد أو الكرنفال الساخر. يعانق المعرض احدى صور وجهه المرسومة عن المرآة يرفل في اقنعة المهرّج البلياتشو. إشارة رمزية الى تعددية وجوه الإنسان المعاصر وعدميته الساخرة حتى درجة العبث، يحضر في هذا المجال تأثير بابلو بيكاسو بخاصة في مرحلة "الأكروبات" والسيرك و"الآرلوكان" والمهرجين، هي الفترة التي بدأ فيها بكمان يكتشف من خلال اقاماته المديدة في باريس ما يجري في الساحة التشكيلية خلال اوائل الثلاثينات، يكتشف عمارة سيزان للأشكال وتقسيمات ماتيس للفراغ وبناءات ليجيه للشكل المعماري وطريقة رسم جورج روو بالأسود مثل فواصل الزجاج المعشّق في الكنائس الفوية. يعرف كل هؤلاء ويعرف تكعيبية براك ولكنه تأثر اكثر بالتراث الجرماني المرتبط بالذخائر التصويرية الشعبية، وتأثر اكثر بثقافته الفلسفية الميتافيزيقية الألمانية - وبالميثولوجية التي يشاركه بالاحتفاء بها الموسيقيون فاغنر وكارل اورف وسواهما. تلعب ثقافته الجرمانية حدودها القصوى في صناعة اختياراته وتمايزه، هو ما نتعرّف إليه من آرائه النقدية الثرية في جريدته الشهيرة. يتحدث ذات مرة عن إعجابه بدولاكروا ولكنه يعترف باختلاف طبيعته الذوقية الشمالية عن الروح المتوسطية لدولاكروا، هو ما يفسر اهتمامه بأدوار مونخ وسعيه للتعرف إليه في باريس. غالباً ما يعتمد بكمان في خصائص تكويناته على "هول الفراغ" وسقوط الإنسان في مساحة الوجود المطلق. في لوحة "الموت" المنجزة خلال اعتزاله في امستردام عام 1938، يبدو المحتفون والمعزّون في وضع مقلوب وكأن الميت يراهم من تابوته المتوسط في التكوين، يبدو هذا الوضع المقلوب صريحاً في لوحة "السقوط" التي انجزها في منفاه في نيويورك عام 1950 قبل وفاته بأشهر، جسد بشري هائل يسقط من برج محترق باتجاه البحر. من هنا ندرك تأثيره في بازلتز. في تكوينات اخرى يقوم بالعكس بحشر الأشخاص في اقفاص دجاج مضغوطة ممسوخة مقطوعة النفس، لم يبق من ملحمتها الإنسانية سوى لبوسها الأسطوري السيزيفي. كثيراً ما يستخدم المرآة داخل التكوين فيرسّخ البعد "الميتافيزيقي" بخاصة في كائنات الطبيعة الصامتة. لا شك في ان سلسلة اللوحات التي تصور وجهه عن المرآة في المعرض تمثّل حضوره الكثيف وشخصيته المغناطيسية المؤثرة، يذكر ذات مرة في جريدته انه يتابع ما يجري في باريس ما بين ماتيس وبيكاسو وليجيه ليضع تجربته في موقع اشد تمايزاً منهم. وهو ما يفسّر معرفته بصدقية شهادته كموقف فكري وسلوكي، هو ما يفسر تبرعه في تمريض الجرحى في المواقع المتقدمة في الحرب الأولى، لعله جزء من إدانته المطلقة للحروب، ابتداء من رسمه الأول طباعة حجرية عن عبثية "إعلان الحرب" وطريقة رسم الوجوه المرتبكة، ثم وهنا نتوقف عند رسم يمثل منعطفاً في مدى تأثير الحرب في اسلوبه بعنوان "القنبلة" منجزة في السنة نفسها 1914، وعادل حركة الرسم بالإبرة الحادة على المعدن الطباعي ما يصيب العالم من تفتت فيزيائي وبسيكولوجي. تليها لوحة "الزلزال"، ثم عام 1918 اللوحة المريعة بعنوان "الليل" تمثل جلسة تعذيب وتنكيل لا تنسى. تمثل ما كان يكتبه دوماً من ان "التصوير يمثل حقيقة اشد حقيقية من الواقع"، ثم يستبدل اسطورة سيزيف بترميزه لآدم وحواء للصراع الأبدي والذبح المتبادل بين الجنسين. في عام 1937 وبمناسبة المعرض الذي اقامه النازيون للفن الألماني، يعزلون بعض اللوحات التابعة لأسماء فنية معروفة ومنها عشر لوحات لبكمان، ويقيمون معرضاً تحت عنوان: "الفن الفاسد"، خرج بكمان إثرها من ألمانيا الى امستردام ثم الى الولاياتالمتحدة ولم يتح له بعدها ان يرى بلده. لعل اهم لوحاته هي التي تدعى ب"الرحيل" انجزها قبل رحيله، ثم تتالت موضوعات الاغتراب والنفي وطيور البحر والمراكب. وكان في اواخر حياته يعلّم في معاهد الفنون في شيكاغو ثم في نيويورك قبل ان يتوقف قلبه بصورة مباغتة عام 1950. تتناقض عبقرية هذا الفنان والأهمية التي يحتلها في تعبيرية القرن العشرين مع تواضع معرفة فنه، ومحدودية انتشار اسمه بخاصة في فرنسا. يعاني إهمالاً يثير الانتباه تتجاوز درجة تعسّفه الاختلاف الذوقي بين تراكمية الانطباعية الفرنسية وتجريد باريس الغنائي والرؤيا المأسوية التعبيرية الألمانية للوجود. قد يكون ما يحمله بكمان من إباء ثقافي جرماني وما يحمله بدوره الإيطالي سيروني من اعتداد روماني وما تعكسه لوحات جورج روو من اختلاجة روحية غوطية تقف كلها وراء الإغفال الذي لحق بهذه التجارب. معرض بكمان هو المعرض الأول الذي يعيده الى الأرشيف الفرنسي وإلى مجموعات المتاحف المعاصرة، في هذا المعرض استرداد لبعض قيمته وترسيخ للشك في حياد تاريخ الفن المزعوم وثمرة من ثمرات التقارب الثقافي الفرنسي الألماني المطلوب، هو وكل تقارب غيره بين ثقافات الأفراد والشعوب.