تحتفي فرنسا بعملاق ما بعد الحداثة الألمانية المعلم غيرهار ريختر، وذلك بمناسبة بلوغه سن الثمانين، وكانت المعارض التكريمية عبرت قبل ذلك في «غاليري ناشيونال» في برلين و «تايت غاليري» في لندن. يحل معرضه البانورامي الشامل في متحف الفن المعاصر في «مركز بومبيدو» في باريس، بينما تخصص الثاني وهو معرض متحف اللوفر «بالرسوم والمائيات». وجاء التنسيق بالتعاون مع المتحفين السابقين (في برلينولندن). يرصد المعرض الأول نصف قرن من تطور ريختر الأسلوبي ومنذ تسلله من ألمانياالشرقية إلى الغربية في عام 1961، وبعد أن أصبح يملك بالتدريج أكثر من محترف أبرزها الذي اتخذه في دوسلدورف قبل أن تتكثّف معارضه في نيويورك. أما الموقع الثالث في تظاهرتنا التكريمية هذه فيحطّ رحاله في مدينة إكس إن بروفانس (مدينة سيزان) وبالذات في متحف غارني تحت عنوان «روائح متحف بوردا». تستمر العروض الثلاثة حتى نهاية أيلول (سبتمبر). في حين وجد معاصره جورج بازلتز في قلب اللوحة رأساً على عقب ضماناً نسبياً للتمايز ما بعد الحداثي في التعبيرية الجرمانية المحدثة أو المعولمة، فإن ريختر ذهب أبعد من ذلك في توخيه للتمايز والاختلاف والاستقلال المفاهيمي، وذلك بكسر تقاليد وحدة الأداء والموضوعات من طريق استبدالها بشجاعة بنقيضها، وهي تعددية الأساليب والوسائط والمواضيع والأنواع، لدرجة أنه لا يمكن معرفة لوحاته من دون التأكد من توقيعه، وهي طريقة بالنسبة إليه لإعلان موت اللوحة، وموت تقاليدها. بعكس بازلتز الذي رسّخ تقاليد لوحة الحامل كواسطة مقاومة داخل الاختيارات العبثية والتدميرية لطلائع ما بعد الحداثة. يعرض ريختر على الجدار ذاته اللوحة التشخيصية المتطرفة والمنقولة بأمانة عن الوثيقة أو الأصل الفوتوغرافي بحيث تكشف ذاكرة تدربه التراكمي والاستهلاكي على منهج «الواقعية الاشتراكية» سواء في الاتحاد السوفياتي أو في ألمانية الشرقية. وذلك إلى جانب اللوحة التجريدية الغنائية المواد المشبعة بالصباغة واحتدام سلوك الفرشاة وسخاء اللون. إلى جانب الأشباح الكابية ذات اللون الموّحد للصور الفوتوغرافية القديمة إلى جانب اللوحة التجريدية الهندسية، متوزعة ألوانها بطريقة معلوماتية. إذاً، تتصارع لوحة الوصف الفوتوغرافي المجهري المصقول مع الهيجان الحدسي الضوئي والصباغي وتلقائية مسرى الخط إلى جانب الوثيقة التشخيصية الرومانسية الشاحبة التي تعاني فقر الدم في اللون. وهي لوحة تعلن طلاقها مع الهندسيات الرياضية للوحة التالية وهكذا. لا تخلو ضبابية النموذج الأول من أصالة شفافة تطرح مشكلة المسافة بين الصورة والمتفرج، يصل أحياناً بهذه الشفافية الفياضة (والضبابية أحياناً) إلى التصوير على الزجاج تيمناًَ بمشكاة نوافذ الزجاج المعشق و «الكاليدوسكوب» من المرايا المتعاكسة، وبالنتيجة فهو لا ينقل من الوثيقة آلية نواظمها الضوئية لأن النور ينبثق من المادة المصقولة نفسها بطزاجة متمايزة. لكن حداثته - سر شهرته - تقع في الطرف النقيض من هذا التناغم أو «الهارموني»، وتقع في «جمعه ما لا يقبل الجمع» سواء من موضوعات أم سياقات متناقضة المناهج. يحضرني بقوة ما تهيأ لي من حسن حظ حضوري لمعرضه الأول في مركز بومبيدو عام 1977، وما غمرني في حينها من دهشة وغبطة، طالعت لأول مرة أعماله العملاقة، تخصص كل جدار بلوحة مستقلة، تعبيرية فوتوغرافية ضبابية أصيلة إلى جانب منظر طبيعي مستلهم بدوره من أصل فوتوغرافي إلى جانب تجريد غنائي مصقول التفاصيل. لم تكن هذه البداية بتطرفه المنمّط في معرض اليوم، وكأن الجنوح خارج السرب يمثل هدفاً بحد ذاته. كان معرضه السابق محافظاً على حميمية موهبته الاستثنائية والتأملية وكانت لوحاته مشبعة بنور روحاني كما هو الزجاج المعشق والسيراميك والفايانس والزيلليج والمرآة الأسطورية الغارقة في أبخرة بداية الكون، تحولت هذه الكمونات اليوم (ربما) إلى نمطية تثير الملل. لكن، علينا الاعتراف بأن ريختر يملك اليوم ما يرسّخ شهرته ونجوميته، ناهيك عن تنافس الصالات بعرض ولو كسرة من رسومه، وكذلك المزادات العلنية العامة، بيعت لوحة له منذ فترة قريبة من طريق مزاد «سوذبيز» في لندن بعشرين مليون دولار، هذا السعر الفلكي يكشف مدى الدالة التي يملكها، بخاصة وأنه يملك شخصية جذّابة إعلامياً.