إذا أردنا أن نقرأ البنية العمرية والنسب العائلي لدى أفراد"النخبة السياسية"في سورية أوائل القرن التاسع عشر، حيث بداية تشكل الدولة الحديثة، لوجدنا"وحدة عمرية"تكاد تكون متقاربة جداً عند مختلف التلوينات السياسية من العثمانية إلى العروبة، ولوجدنا في نفس الوقت أيضاً نسباً عائلياً محصوراً في 21 عائلة دمشقية هي العظم بما فيها المؤيد العظم والعابد واليوسف بما فيها شمدين ومردم بك والقوتلي والشمعة والبارودي وسكر والمهايني واغريبوز وبوظو. فالعروبيون من أمثال شفيق المؤيد العظم وشكري العسلي ورشدي الشمعة وحقي العظم ينتمون نسباً ويتقاربون سناً مع اللاعروبيين من أمثال محمد فوزي العظم وعبد الرحمن اليوسف ومحمد العجلاني وسامي مردم بك، في حين أن الجيل الثاني من العروبيين، كما يلاحظ داون، من أمثال عبد الرحمن الشهبندر ومحمد كرد علي ورفيق العظم، يوازي تماماً الجيل الثاني من السياسيين الموالين للعثمانية في دمشق أيضاً. فالقراءة التاريخية لولادة المثقف في بلاد الشام تكشف ارتباطها بوعيه ب"العروبة"ودفاعه عنها، وقد انطلق هذا الوعي من عوامل ثلاثة رئيسية هي: انتماؤه لعائلات الملاك - البيروقراطيين أصحاب الثروات والأراضي الواسعة، الأمر الذي ساعده لاستكمال تعليمه في الخارج. وهذان العاملان حرضا داخله حساً عروبياً للدفاع عن هموم وطنه الذي بدأ يقارن"تخلفه"ب"تقدم"المجتمعات الغربية ونهضتها. لكن ذلك لا ينفي أن يخرج بعض"المثقفين"المنشقين على النظام التعليمي نفسه الذي تلقوه في مرحلة تلمذتهم. فمحمد كرد علي مثلاً تلقى تعليماً إسلامياً تقليدياً، لكن وعيه بالمدرسَين الإصلاحيين الأفغاني وعبده وغيرهما مكّنه من الانتساب بجدارة إلى الجيل الثاني من المثقفين العروبيين، وجميعهم شكّلوا نواة جمعية"العربية الفتاة"المُنشأة على غرار"تركيا الفتاة". ومن قراءة أسماء فوزي ونسيب وسامي البكري وجميل مردم بك وفخري البارودي ومحب الدين الخطيب وأحمد قدري، نلحظ انتماءهم إلى العائلات التقليدية إياها، وكذلك صغر سنهم الذي يؤشّر الى توالد المفهوم"العروبي"مع الإرث السلالي نفسه، واكتساب الصفة النقدية أو ميزة الاحتجاج على الوضع القائم، مما يجعل صاحبها ينخرط في سلك المطالبين بالتغيير. ومن الممكن بعد ذلك أن نقول إن دور المثقف السوري خلال تطوره التاريخي، وُلِدَ في حضن"المعارضة"للوضع القائم رغم نسبه أو استفادته من ميزات التعليم التركي العثماني القائم حينذاك. لكن صلته بمجتمعه جعلته يمحور خطابه حول مطالب إصلاحية أيديولوجية كان التعبير عنها في تلك الفترة عروبياً. غير أن تلك الرؤية تحمل بداخلها انحيازاً مسبقاً نوعاً ما إلى الدور الوظيفي للمثقف أكثر من أخذها بعين الاعتبار تكوينه المعرفي. فقد بدا واضحاً أن حكومة فيصل التي تم الإعلان عنها في دمشق في تشرين الأول أكتوبر 1918 وحتى سقوطها في 24 تموز يوليو 1920، أنها كانت بحاجة إلى المثقف السياسي أكثر من حاجتها للسياسي نفسه. فإذا كان الأخير قد برز وأخذ يمارس دوره وتأثيره في المجال العمومي، فإن طريقة أو آلية بناء الدولة الناشئة حديثاً كانت بحاجة إلى أشخاص ينظرون إلى أبعد من شخصهم السياسي الوظيفي، بل يمتلكون رؤيةً أو تصوراً عن الدولة المراد بناؤها من ناحية الدستور أولاً والمؤسسات ثانياً وشخصية الدولة نفسها من حيث السياسة الخارجية والرموز الوطنية الاعتبارية العَلَََم - النشيد الوطني - شعار الدولة. وكلُّ هذه الاعتبارات جعلت المثقف ذي التكوين الأوروبي مرغوباً أكثر من السياسي ذي النضال الوطني، وهو ما نلحظه بجلاء بالنظر إلى المقربين من الأمير فيصل والذي شكلوا حكوماته المتعاقبة، فنلحظ بشكلٍ واضح تلاشي نفوذ الأسر الوجيهة على الحياة السياسية ليحل محله نفوذ المثقفين دون تفريق بين مواطنهم ومذاهبهم ومراكزهم الاجتماعية. فقد انتقل كثيرٌ من الضباط والمثقفين من رجال الحركة العربية قبل الثورة وأثناءها إلى حكام وموظفين كبار دون أن تكون لهم مصالح أو ارتباطات محلية يتمسكون بها. غير أن ذلك لا يعني نهاية حضور أسر الملاك البيروقراطيين بشكلٍ نهائي، بقدر ما تحّول أبناؤها ليصبحوا ملاكاً دارسين. وهو ما نلحظه من اختيار أعضاء ولاية دمشق، فقد اختير الضابط علاء الدين الدروبي والياً، وهو من كبار وجهاء حمص ومن الولاة العثمانيين السابقين، واختير شكري القوتلي مديراً لرسائل الأمير فيصل، كما جرى تعيين خريجي المعاهد العالية على رأس الدواوين، كالأمراء الشهابيين فؤاد وبهجة ومصطفى وخليل مردم بك وزكي الخطيب وغيرهم. فمع صعود فئة المثقفين بدأت الطبقة السياسية المحتكرة على الأسر الدمشقية البورجوازية العريقة بالتصدع، وظهر نوع جديد من الإداريين يعتمد على كفاءته المهنية وتعليمه الغربي وخبرته في اللغات الأجنبية، وهو ما أزعج الكثير من العائلات ذات النفوذ التي شغلت على مدى عقود مراكز مهمة في العهد العثماني. وبتعبير محمد كرد علي، المثقف الناشئ في تلك الفترة،"فإن الركابي كان يعتمد على الغرباء في إنشاء حكومته أكثر من اعتماده على أبناء البلد...". والمقصود بأبناء البلد هنا الأسر العريقة في حين أن المقصود بالغرباء المثقفون الشباب ذوو التكوين العلمي الأوروبي. ومما ساعد على بروز سطوة هؤلاء المثقفين عدد من الخطوات الإصلاحية التي قام بها الأمير فيصل كإلغاء الألقاب وتأسيس قضاء عدلي. وبدأت الدعوات بعدها تظهر لإدخال القانون الغربي كأساسٍ له، ثم القيام أيضاً بعددٍ من الخطوات لإصلاح التعليم وبناء الكوادر، حيث جرى تأسيس المجمع العلمي في 1919 وأسندت رئاسته إلى محمد كرد علي وجرت إعادة فتح معهدي الطب والحقوق، كما كانت هذه المؤسسات متأثرة كثيراً بالنمط الغربي في الإدارة والتعليم، وهو ما فتح للمثقفين مجالاً أرحب وأوسع لممارسة النفوذ من الدائرة الضيقة التي كانت محصورة في أبناء الأسر النافذة. غير أن مشاركة المثقفين لم يكن مقتصراً على إدارة الدولة، وذلك أن المثقف السوري بدأ يستنسخ أشكال العمل السياسي في أوروبا ويعيد إدماجها في مجتمعه وهو ما ظهر في نشاطه في تشكيل النوادي والجمعيات وتأسيس الأحزاب السياسية التي قامت على أفكار سياسية رائدة بما حملته من مفاهيم، كمبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء وحرية تشكيل الأحزاب وحق إبداء الرأي وحرية التعبير، وغير ذلك من المفاهيم التكوينية للحياة السياسية في الغرب.