تبدأ في الرياض ظهر اليوم السبت، أعمال المؤتمر الدولي لمكافحة الارهاب بمشاركة حوالي ستين دولة، بينها دول مجلس الأمن، إضافة الى المنظمات الدولية والإقليمية كالأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي والجامعة العربية. ولقد أشرفت وزارة الخارجية السعودية على تنظيم المؤتمر الذي يستمر ثلاثة ايام، بهدف وضع استراتيجية دولية لمحاربة ظاهرة عنف الحركات الأصولية التي تضرب غالبية المجتمعات الصناعية والنامية بطريقة شرسة ألحقت الأذى بسيادة الدول وقوانينها وأنظمتها. ويُستدل من ردود فعل الدول المشاركة في المؤتمر ان دول مجلس الأمن الخمس كانت أشدها اندفاعاً لتبنّي الفكرة بسبب تعرض أمنها لاعتداءات متواصلة اضطرتها الى اتخاذ اجراءات وقائية. وكان من الطبيعي ان تؤثر هذه الإجراءات على سير العدالة وحقوق الانسان وحرية المواطنين، ذلك ان قانون مكافحة الارهاب في أميركا الذي صدر عقب اعتداءات 11 ايلول سبتمبر 2001 تجاوز كل سلطات القضاء، وبعث الحركة"الماكارثية"التي تجيز التعرض للحريات الشخصية. ونتج عن هذا القانون توسيع نفوذ دائرة الهجرة بحيث أدت تدابيرها القاسية الى إبعاد اكثر من ستة آلاف طالب عربي كانوا يدرسون في المعاهد الاميركية. كما أدت بالتالي الى إخضاع كل الجمعيات الإنسانية والخيرية في العالم لنظام الشفافية الذي عرّض المصارف ومؤسسات الاستثمار للمراقبة الصارمة، وفي هذا السياق يمكن تفسير القيود على المهاجرين الى بريطانياوفرنسا والمانيا وايطاليا واسبانيا، من زاوية الحرص على الامن القومي الذي زعزعته التهديدات والاعتداءات. ويعترف المسؤولون في فرنسا واسبانيا وبريطانيا ان عمليات العنف التي تعرضت لها المدن الأوروبية فرضت على الحكومات المعنية التخلي عن مبادئ حقوق الانسان والحريات الأساسية التي كانت تفخر بها. ومع ان الرئيس فلاديمير بوتين وعد الشعب الروسي بتحقيق نظام آمن ومستقر، إلا ان حرب الشيشان، إضافة الى ما وفّرته"القاعدة"لطلاب الانفصال من أموال وعناصر مقاتلة، جعلا النزاع يستمر أكثر من عشر سنوات. لهذا اضطرته عمليات العنف والخطف واحتجاز الرهائن، الى تحصين حدود بلاده بواسطة تكتل يضم الدول المجاورة التي عانت هي الأخرى من تهديد"القاعدة". يقول الديبلوماسيون في الرياض ان الأسباب التي دفعت السعودية الى عقد مؤتمر دولي لمكافحة الارهاب، كانت تستند الى معطيات داخلية وخارجية، خصوصاً ان محاربة هذه الظاهرة لم تعد شأناً محلياً ينحصر في حدود الدولة وقوانينها، وإنما تعدت هذا الإطار لتصبح هدفاً من أهداف النظام الدولي الجديد. ولقد ساعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية على إحداث خلل في التوازنات القائمة بحيث سمح الفراغ السياسي والأمني لتسلل الأصوليين الى مختلف المجتمعات. وبما ان هذه الفئة لا تنتمي الى دولة معينة، ولا يخضع أفرادها الى النظام الدولي المؤسس على السيادة الوطنية، فإن محاربتها تقتضي استخدام وسائل غير تقليدية، اي وسائل حديثة مستمدة من واقع الظروف التي جعلت من الإرهاب التعبير الوحيد عن السخط والمعارضة وحب التغيير. ويتردد في الكويت ان الأوامر التي صدرت من"القاعدة"الى أفراد أكبر خلية تحمل اسم"المجاهدون في الكويت"، إنما كانت تمثّل دعوة الى العصيان على أمل بأن الشارع سينضم الى صفوفهم. ويبدو ان أسامة بن لادن قد أخطأ في تقدير ظروف المواجهة لاعتقاده بأن يوم الاحد الماضي أي موعد الانتخابات العراقية سيفجّر الأوضاع على امتداد جبهة الخليج. وهذا ما شجعه على تحريك عناصره القليلة في سلطنة عمان لعل هذا التحرك الخليجي يمهّد لمزيد من الصدامات. ويرى المراسلون ان احداث الكويت الاخيرة فاجأت السفراء الاجانب الذين توقعوا ان تكون هذه الدولة الصغيرة اشد مناعة واكثر تماسكاً بعد انحسار تهديد نظام صدام حسين. ويبدو ان سياسة اللين والمهادنة التي تعاملت بها الدولة مع العناصر الاصولية وجماعة ال"بدون"هي التي وفّرت لفواز العتيبي وسامي المطيري وأنس الكندري، فرص الاستفادة من ظروف التساهل. تماماً كما استفاد سبعة عشر إماماً ليطلقوا كل اسبوع 680 خطبة نارية في مختلف المساجد. إضافة الى ما ترصده على شبكة الانترنت وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية من برامج متطرفة تغذّي عقول الشباب الحائر. ومن المؤكد ان عدنان المعروف قد تأثر بهذه الدعوة عندما قرر ذبح ابنته لمساعدتها على الوصول الى الجنة الموعودة. والملفت ان ظاهرة الانتحار استمدت مضمونها الأيديولوجي من الطريقة التي أحرق بها انتحاريو 11 ايلول أنفسهم في نار الطائرتين. وكان من المنطقي ان يقارن المحللون بين دعوة أسامة بن لادن الذي غسل أدمغة أنصاره... وبين حسن الصبّاح، صاحب مذهب الحشّاشين. ويقول المؤرخون ان الصبّاح شيّد قلعة"علموت"سنة 1090 على مقربة من بحر قزوين في آسيا الوسطى. وكان يتمتع بقدرة خارقة على إخضاع أتباعه لتوجيهاته بحيث انهم كانوا يقتلون خصومه قبل الانتحار. والمكافأة كما حددها هذا الشيخ الساحر، هي عبارة عن مكان في جنّة الفردوس، حيث تنتظرهم الحوريات والملذّات الأبدية. واستمرت قلعة"علموت"في إيواء الفرق المطاردة مدة طويلة من الزمن الى ان اقتحمها القائد المغولي هولاكو سنة 1256 وهدمها. والطريف ان أسامة بن لادن لجأ الى مغاور جبال"تورا بورا"المقابلة لقلعة"علموت"داخل حدود آسيا الوسطى. وهو يحرّك أنصاره في تنظيم"القاعدة"على طريقة حسن الصبّاح، اي القتل في سبيل الله مع ثمن الحصول على مكان أبدي في جنة الفردوس. ولقد ألبس زعيم"القاعدة"تنظيمه لباس الرسالة بحيث انه جعل من عمليات القتل والترويع"جهاداً"ضد الشيعة والكفّار واليهود والصليبيين الذين يسعون الى السيطرة على العالم الاسلامي. ومع ان المؤرخين يتوقعون لمشروعه ان ينتهي نهاية حركة الحشاشين، إلا ان الدول الاسلامية تسعى الى رسم صورة حقيقية للدين الاسلامي مختلفة عن الصورة التي رسمها بن لادن وأنصاره للاسلام. في مناسبة انعقاد مؤتمر الرياض، لا بد من مراجعة سريعة لتطور ظاهرة الارهاب التي وصفها الرئيس جورج بوش بأنها"محاولة لنشر الفوضى في الولاياتالمتحدة، وإرغام بلاده على الاستسلام لشروط المعتدين". ولكن هذا التفسير المبسط لا يتناسب مع الأهداف البعيدة التي يسعى الارهابيون الى تحقيقها، خصوصاً ان الارهابي يمثل دائماً حال المستضعف، المظلوم، الشريد. وهو في هذا السياق، يرمي الى إثارة أكبر ضجة اعلامية ممكنة لكل عملية ينفذها. أي انه يريد اقناع الرأي العام بوجوده المؤثر، وبأن تصميمه على القتل والتدمير لا يمكن أن تمنعه التدابير الأمنية. ومن جهة أخرى، يحاول الارهابي ترويع السلطة التي يستهدفها على أن يؤدي ذلك الى إضعاف معنويات الشعب. وفي المرحلة النهائية يجرّب الارهابي ان يستفز الدولة بحيث تمارس ضده الأعمال الانتقامية البشعة لعل ذلك يثير الشفقة عليه ويؤلب المجتمع ضد الحاكم. وهذا ما يعُرف ب"استراتيجية الاستفزاز". خلال القرنين الماضيين كان الارهاب محصوراً في عمليات محاربة المحتل سعياً للحصول على الاستقلال والسيادة الوطنية. ولكنه في القضية الفلسطينية تبلور كسلاح الضعيف ضد قوة ظالمة قامت بطرد السكان الأصليين واحتلال بلادهم. ولقد استخدم اسامة بن لادن هذه الوسيلة العنيفة للتعبير عن سخطه بطريقة غير مشروعة، مدعياً أنه ينتقم من الدولة المنحازة الى أعداء الاسلام. ثم وسّع مجال نشاطاته ليضرب كل الدول التي حرمت أنصاره من ضرب الآمنين. يبقى سؤال أخير طرح في عدة مؤتمرات عُقدت في الولاياتالمتحدة والمانيا وبريطانيا: هل التركيز على اعتقال أسامة بن لادن أو اغتياله، ينهي نشاط"القاعدة"كما أنهى موت حسن الصبّاح أعمال أتباعه الحشاشين؟ أجابت على هذا السؤال عملية اعتقال صدام حسين الذي ضاعف أنصاره مقاومتهم عقب احتجازه. ومن الممكن أن تتكرر هذه الظاهرة في حال ركز جورج بوش اهتمامه على تصفية أسامة بن لادن، كما وعد الشعب الأميركي. ولكن خبراء مكافحة الارهاب يميلون الى إلغاء الأسباب التي عمّقت جذور العنف وجعلت الفئات المحرومة والمهمشة تؤمن بأن"القاعدة"ستوفر لها فرص العلم والعمل. كما يميل هؤلاء الى نقض طروحات الرئيس بوش الذي يؤمن بأن تجفيف منابع الارهاب يتم بواسطة نشر الديموقراطية وتحقيق إصلاحات سياسية وفق المعايير الغربية. وهو في هذا الحل المتسرّع يرمي مسؤولية انتشار موجة الارهاب على الأنظمة الإقليمية وحدها، كأن الولاياتالمتحدة براء من تهمة القمع والتسلط والهيمنة على خيرات المنطقة، والتدخل في شؤون العالم الاسلامي، بدءاً بفلسطين وانتهاءً بأفغانستان والعراق، ومعنى هذا ان اغتيال اسامة بن لادن في مغاور"تورا بورا"لن يستأصل جذور العنف في فلسطين والعالم العربي اذا بقيت الإدارة الأميركية منحازة لاسرائيل، أو إذا ظلت الدول الكبرى مقتنعة بأن الردع الذي استُخدم خلال الحرب الباردة، يمكن أن يحطم الارهاب كما حطم المنظومة الاشتراكية. ذلك أن التهديد الذي تحارب به"القاعدة"الأنظمة العربية والاسلامية القائمة هو تهديد دولي يشمل سيادة كل الدول، الأمر الذي يستدعي تعديل الأنظمة الأمنية بطريقة تضمن الحماية لكل الدول في كل القارات! * كاتب وصحافي لبناني.