رفيق الحريري رجل يُنتقد أو يُكره أو يُحسد أو يُشتم أو يُقذف بما يُشتهى من اتهامات، لكنه لا يُقتل. رجل أنيق، ناجح، لديه مال كثير وتعصب قليل..."ابن دنيا"وأكثر السياسيين اللبنانيين دنيوية، رغم أنه قد يكون مؤمناً. ملائم جدا أن نعارض رجلا كهذا، أو ننأى بأنفسنا عن"معسكره"ونعرّف أنفسنا بالتمايز عنه، لكننا نُصدم لقتله لأنه يفقدنا"الآخر"الأنسب لتحديد هويتنا. إنه خصم ممتاز لا نستغني عنه، وليس عدوا نفرح بزواله. لذلك وحّد رفيق الحريري اللبنانيين في موته رغم أنهم اختلفوا عليه وعنه في حياته. كانوا يختلفون عنه، لكن بطريقة متماثلة في ما بينهم، ويختلفون عليه لكن بدوافع متماثلة، وكان غيابه مناسبة تعرفهم على تماثل اختلافهم عنه، على وحدتهم كمختلفين. مختلفين عن الناجح. فمن يختلف عن الناجح يقتبس شيئا من نجاحه، بينما يجازف من يسعى إلى الاختلاف عن الفاشل بأن يفشل مثله. وكان قتل الحريري غيلة اعتداء على كل واحد من اللبنانيين، اغتيالا للاختلاف المكوّن لهوية كل واحد منهم. وكانت بشاعة اغتياله والوحشية الحقود والقسوة الفائضة اللتان تجلّتا فيها إهانة لحسدنا له وخفضا له إلى مرتبة الحقد الوضيع. وحّد رفيق الحريري اللبنانيين في موته لأنهم اختلفوا عليه وعنه في حياته. من يقتل الحريري يحقد على كل شيء يمثله الحريري، وبالخصوص الدنيوية و"الاقتصاد"والمسالمة. ليس الاقتصاد ارتباط الثروة والاستثمار والعمل فقط، وإنما هو اللا قتل واللا ابتزاز واللا خوّة واللا سخرة واللا إرهاب. الحريري ابن المال، والمال ابن العمل، والعمل نقيض العنف كما الحياة نقيض الموت. الرجل هو النقيض التام للحرب الأهلية ورمز انتهائها. كان الحريري رأسمالياً يستغل، لكنه لم يكن مافيويا يغتصب ويقتل وينهب ويحطم. ورغم أنه لم يكن عريقا في الثروة، لم يكن محدث نعمة سقيم الذوق. من يقتل رفيق الحريري يدافع عن"نمط الإنتاج البلطجي"، الذي يقوم على"السلبطة": السلب واللبط والسلطة المحضة. في مرات زيارتي القليلة لبيروت كان اصدقائي اللبنانيون يتذمرون من الحريري، من"تخريبه"لأسواق بيروت القديمة، من اعتداء الثروة على الطراز المعماري الخاص ببيروت، من"نزعاته التوسعية"اقتصاديا وإعلاميا، من ارتباطاته العربية والدولية. لكن، اليوم فقط نرى كم أن"تخريب"الحريري لبيروت كان يطمئننا إلى أنها في مأمن من خراب القذائف والقناصين. فهو أولا تخريب"خطوط التماس". ربما احتاج البيروتيون إلى استشهاد رفيق الحريري كي يتصالحوا مع انزياح مركز مدينتهم نحو المركز التجاري، ما يسميه بعضهم"داون تاون". الحريري هو ذبيحة المركز الجديد الذي بناه. اغتيال رفيق الحريري آخر كوابيس الحرب اللبنانية، الكابوس الذي يصحو منه لبنان سلم أهلي راسخ لا يتزعزع. * كاتب سوري