قد تكون من اشد الأمور صعوبة على اي لبناني اليوم ان يتخيل حياة سياسية واجتماعية معقودة من دون رفيق الحريري. فهذا الرجل ومنذ تصدره الحياة السياسية في لبنان في العام 1992 صار الإمكان الوحيد للموالاة والمعارضة. الموالون شعروا انه الفرصة الوحيدة، والمعارضون رأوا انه وحده من يحمل تصوراً لمعنى البلد، وبالتالي هو الوحيد الذي يمكن الاختلاف معه. ثم ان للاختلاف مع الحريري طعماً ومذاقاً لا يشعرك بهما آخرون تختلف معهم. فاذا اختلفت مع ميشال عون انت مرتزق، واذا اختلفت مع السوريين ففي اضعف الإيمان السجون في انتظارك، واذا اختلفت مع سليم الحص فأنت جائر تختار الضعيف لتستهدفه."حزب الله"خط احمر بإجماع"الأمة"ولم نتمكن مرة واحدة من القول إن انسحاب اسرائيل كان من الممكن ان يحصل في العام 1996 من دون اراقة المزيد من الدماء. القوات اللبنانية كنا اجلنا خلافنا معها بانتظار ظروف تتيح لها أن تكون موجودة. وفي النهاية وحده رفيق الحريري كان من الممكن ان نختلف معه وان يصاحب اختلافنا هذا قدر من الحرارة وشيء من المتعة، وان تبنى على هذا الاختلاف وجهات نظر، وان تخرج تعليقات وان نتصرف بناء عليها، فأنت هنا على المحك مع معنى ومع فكرة، ولست في مواجهة جهاز امني، كما انك لا تهين"الأمة"بأن تشكك بأحزابها وقادتها. المرارة التي شعر بها اللبنانيون فور سماعهم خبر اغتيال الحريري، لم تكن مرارة سياسية او شعوراً بأن مستقبلهم مجهول فحسب، بل ان ثمة شيئاً من اليتم الشخصي. الحريري لم يكن شخصية عامة فحسب، فالرجل تمكن من صوغ علاقة خاصة مع ظروفنا الشخصية، اذ اننا وفي الوقت الذي كنا متحفظين او متسائلين، كان هو يتسرب الى نظام حياتنا فيبدله على نحو نقبله من دون ان نعترف بذلك. هكذا مثلاً قبلنا على مضض في البداية بالوسط التجاري الى ان تحول هذا الوسط الى احدى علامات حياتنا. صار الحريري علامة الجدة الوحيدة، فما ان يدخل عنصر جديد الى انماط عيشنا حتى نشعر ان الحريري وراءه. هذا ما شعرنا به عندما بدأت مؤسساتنا تمنحنا بطاقات التأمين الصحي، وهذا ما فعلناه ايضاً عندما بدأنا نستعمل الهاتف الخلوي، وعندما بدأنا بشراء سيارات مقسطة، او بارتياد مقاه جديدة. وهذا ما فعلته امي مثلاً عندما بدأت تخلط بين عبارتي cellulaire و solidere قائلة عندما كنا نحاول ان نصحح لها"ما الفارق فكلهم للحريري". كان الخلاف مع الحريري ترفاً ينطوي على كل هذه الجدة. اما الخلاف مع"حزب الله"او مع السوريين فكان لحظة ارتكاس وعودة الى خوف اول، اي الى ما قبل هذه الحياة المتبدلة، والخلاف مع عون او القوات اللبنانية كان بدوره عودة الى انقسام كنا سئمنا منه. انه الشيء الجديد الذي سنستقبل به فترة ما بعد الحرب، ولهذا شعر اللبنانيون لحظة شيوع نبأ اغتياله بأن من قتل هو المعنى الجديد الذي استبطنته حياتهم خلال عقد ونصف العقد، وان الطاولة انقلبت فوق رؤوسهم من جديد. شعور غامض وغير منطقي بالثقة كان بثه هذا الرجل في نفوس الكثيرين، وهو ما اهتز لحظة شيوع النبأ. هذا ما يمكنك سماعه من مئات اللبنانيين وبصيغ مختلفة، فالجميع يتحسس حياته ما بعد الحريري، والأسئلة تمتد من مستقبل مدارس الأطفال الى سعر صرف الليرة الى مصير المؤسسات التي نعمل فيها، كأن من اغتيل ليس رجلاً وانما نظام حياة. ثم ماذا عن الضجر الذي ينتظرنا في وجوه البدلاء، ماذا عن حياة سياسية شعاعها الوحيد المسافة التي تفصل بيروت عن دمشق، مع ما يتخلل هذه الطريق من شاحنات عسكرية معطلة وجنود فقراء. يتحدث اللبنانيون من دون تحفظ عمن يعتقدون انه استهدفهم بمقتل رفيق الحريري. كثيرون في الطرق يمكنك ان تسمعهم يقولون"لقد اتهموه بالوقوف وراء القرار 1559"، وانهم"قدموا مشروع قانون انتخابي استرضوا به الجميع واستهدفوا به الحريري"، و"انهم كانوا على استعداد للتحالف مع خصومهم ضد الحريري". كلمات كثيرة يهذي بها اللبنانيون في غمرة شعورهم بأنهم اليوم في مهب الريح، وان من قتل الحريري في هذا الظرف انما فعل ذلك انتقاماً منهم. فالرجل اغتيل في سياق سياسي واضح لا يقبل اللبس، واغتياله لن يوقف عجلة التغيير بل ربما سرع من وتيرته، وهو امر يعطل الوظيفة السياسية للاغتيال ويبقي على الوظيفة الانتقامية، واذا صح ذلك علينا ان نبحث مجدداً عن مهاجر تستقبلنا.