الضائقة المالية التي تواجهها الصحف الفرنسية الكبرى، اجبرتها على الاقدام على شراكات، ما كانت لتقدم عليها في الاحوال العادية، مع كبار المتمولين والصناعيين، حرصاً منها على استقلاليتها وموضوعيتها. فانخفاض المبيعات والمنافسة مع الصحف المجانية والالكترونية وانحسار السوق الاعلانية لمصلحة الحقل التلفزيوني، جعل صحفاً مثل "لوموند" و"ليبراسيون" و"لوفيغارو" التي يعد كل منها بمثابة معلم قائم في حد ذاته في اطار المشهد الاعلامي الفرنسي على حافة الانهيار المادي. وحفاظاً على استمراريتها، لم تجد هذه الصحف امامها من سبيل سوى القبول، على رغم الاحتجاجات الحادة الصادرة عن الصحافيين العاملين فيها، بالأيدي التي امتدت نحوها من انب أرباب مجموعات انتاجية وصناعية. وفي أحدث شراكة يجرى درسها في هذا الاطار، شراكة "لوموند" مع مجموعة "لاغاردير" التي يملكها الصناعي المعروف جان لوك لاغاردير، التي اقترحت الدخول في رأس مال الصحيفة بنسبة 15 في المئة وعبر مبلغ مقداره 35 مليون يورو، فيما يتوقع ان تنضم صحيفة "ايل باييس" الاسبانية الى هذه الشراكة عبر مبلغ 25 مليون يورو. وكانت موازنة "لوموند" سجلت عام 2003 عجزاً قدره 25 ميون يورو، في حين انها في حاجة لنحو 60 مليون يورو لتعويم اوضاعها المالية، التي عززت الرهانات الفاشلة التي اقدمت عليها الصحيفة من تدهورها. وفيما كان من المقرر ابرام هذه الشراكة رسمياً في نهاية كانون الثاني يناير الماضي، فإن ملاحظات ومآخذ جمعية الصحافيين العاملين في "لوموند"، المتعلقة بتفاصيل عملية الشراكة وبالمخاوف الناجمة عن انضمام مجموعة صناعية نافذة الى المساهمين في صحيفتهم، ادى الى تأخيرها. وسبق للصحافيين العاملين في "لوفيغارو" ان خبروا مثل هذه التجربة الخريف الماضي عند شراء الصناعي سيرج داسو، صاحب مجموعة "داسو"، مجموعة "سوكوبرس" الصحافية التي تنتمي اليها صحيفتهم. فبعدما سدد داسو مبلغ 1.3 بليون يورو لشراء المجموعة، اعتبر بديهياً ان موقعه على رأسها يسمح له بالتدخل في شؤون "لوفيغارو" عندما يقتضي الامر مراعاة لمصالح معينة، وطلب من هذا المنطلق عدم نشر مقال حول مبيعات زوارق عسكرية فرنسية الى تايوان. لكن مثل هذه الذهنية التي قد تكون مجدية في ادارة المؤسسات الانتاجية، غير قابلة للتطبيق في الحقل الصحافي الذي يضع موضوعيته فوق اي اعتبار آخر. فشهدت "لوفيغارو" تحركات احتجاج أدت الى إقالة رئيس تحريرها واستبداله بنيكولا بيتو الذي يعد اكثر قدرة على مواجهة ميل داسو لتحويل الصحيفة منبراً لآرائه. وفي هذا الاطار، ذكرت صحيفة "لوكانار انشينيه" النقدية الساخرة، ان سيرج داسو سأل بيتر "هل يمكنني ان أكتب مقالاً في لوفيغارو؟"، فجاءه الجواب: "كلا". فسأل مجدداً: "هل في وسع نجله ان يكتب؟"، فجاءه الجواب نفسه. وفي معزل عن صحة هذه الرواية فانها تكشف مدى حرص الفرق الصحافية العاملة في الصحف الفرنسية علىعدم تحول دخول رأس المال الخاص والصناعي في أسهم مؤسساتها الى اداة رقابة على عملها. ومن منطلق الحاجة الماسة الى تمويل، تمكن المصرفي الاستقراطي ادوار دو روتشيلد من الدخول في رأس مال صحيفة "ليبراسيون" اليسارية، بمبلغ 20 مليون يورو، وهنا ايضاً عقب سلسلة من الانتقادات والجمعيات العمومية للصحافيين العاملين فيها، طالبت بأقصى قدر من الضمانات بعدم المساس بالخط التحريري الذي يعتمدونه. ويبدو ان الدافع وراء دخول هؤلاء المتمولين في شراكات لن يحققوا من خلالها أي مكاسب مادية، ليس سوى معنوية، لأنهم بذلك يضفون بعداً ثقافياً وفكرياً على اهتماماتهم.