كنت في البحرين للمشاركة في احتفال توزيع جوائز الصحافة، وتزامن وجودي مع اغلاق جريدة «الوقت». وكنت بعد ذلك بشهر أو نحوه في دبي للمشاركة في منتدى الإعلام العربي وتوقفت جريدة «أوان» في الكويت. وأعرف أن صحفاً عربية أخرى تواجه صعوبات مالية ولا بد من أن يتوقف بعضها عن الصدور قريباً. أعترف بأن وضع الصحافة العربية الورقية فاجأني، فقد كنت أعتقد بأننا متخلفون عن بقية العالم عشر سنوات، وأن ما أصاب الصحافة الأميركية في السنوات الأخيرة لن يصل الينا إلا بعد سنوات. غير أن الأزمة تلفّ العالم، وهي لا تتوقف عند المال بل تشمل الحرية الصحافية كلها، وعندي المشاهد الآتية: - روبرت ميردوخ اشترى «التايمز» و«الصنداي تايمز» سنة 1981 وهبط بهما الى درك الصحافة الشعبية التي يتقنها. وهو خفض السعر يوماً ليضرب المنافسين، والآن أطلق نظام دفع اشتراك لكل من يريد قراءة جريدتيه عبر الإنترنت، مع أن كل شركات الإعلان يقول إن قارئ الإنترنت «سائح» يتصفح الأخبار، ولا يملك مالاً يكفي ليجتذب المعلنين. يشفع لميردوخ عندي أن خفضه الأسعار أدى الى خفض مجموعة «التلغراف» أسعارها، وهي واجهت صعوبات مالية انتهت بسجن الناشر كونراد بلاك الذي سرق جريدته، وأفول عهد زوجته الصهيونية بربارة إمييل التي حولت جريدة تاريخية الى نشرة اسرائيلية. - الحصيفة الرصيفة «لوموند» كادت أن تفلس بعد أن أصبحت مدينة بحوالى مئة مليون يورو، وجاءها الخلاص على شكل ثلاثة مستثمرين أثرياء أهم ما فيهم أنهم غير المستثمرين الذين دعم الرئيس نيكولا ساركوزي محاولتهم تسلم أمور الجريدة. لا أدّعي معرفة كبيرة بالصحف الفرنسية، غير أنني أقرأ «لوموند» وأنتقل عادة الى الترجمة الإنكليزية إذا لم تسعفني فرنسيتي المحدودة. وقد وجدت نفسي منذ الشهر الماضي أقرأ عن «لوموند» بدل أن أقرأها، فعلمت أنها تخسر 25 مليون يورو في السنة، وفوجئت بأنها ليست الأكثر توزيعاً بين الصحف الفرنسية حيث «لوفيغارو» الأولى و 315 ألف نسخة في اليوم، وبعدها «ليكيب» و 303 آلاف نسخة يومياً، ثم «لوموند» و 288 ألف نسخة في اليوم. والصحف الفرنسية تخسر من توزيعها باستمرار، كالصحف البريطانية والأميركية، إلا أنني فوجئت بأرقام التوزيع الفرنسية، فهي أقل كثيراً منها في بريطانيا حيث تبيع الصحف الرصينة بين 300 ألف عدد و 600 ألف في اليوم، والصحف الشعبية بين مليون عدد وأكثر من مليونين في اليوم. وتبقى «لوموند» فريدة من نوعها، فهي تأسست بعد التحرير سنة 1944، أي أن عمرها أيضاً أقل من نصف عمر معظم صحف لندن، والمحررون العاملون فيها يملكون غالبية أسهمها، ومع ذلك فقد أضربوا سنة 2008 احتجاجاً على قرار الإدارة إلغاء 130 وظيفة، ما سرّع الانحدار الذي أعتقد بأن الفرسان الثلاثة نجحوا في لجمه الى حين فقط. - أسوأ الأخبار كان من الولاياتالمتحدة وما يتجاوز وقوف بعض أكبر الصحف على حافة الإفلاس. فالكونغرس، بحجة التعديل الأول للدستور الذي يضمن حرية الكلام، يريد اصدار قانون يحمي الكتّاب من قوانين القدح والذم. وفهم الموضوع يقتضي أن أعود بالقارئ الى سنة 2004 عندما خسرت المؤلفة الأميركية راشيل ارنفيلد دعوى رفعها المصرفي السعودي (الراحل) خالد بن محفوظ بعد أن اتهمته في كتاب بعنوان «تمويل الشر» بأنه يموّل القاعدة. التهمة كبيرة وكانت تعني لو ثبتت أن يحكم على خالد بن محفوظ بالسجن مدى الحياة ومصادرة أمواله، إلا أن أرنفيلد لم تستطع أن تقدم دليلاً واحداً يثبت التهمة وخسرت القضية. كان يفترض أن تنتهي القضية عند هذا الحد، إلا أن حملة هائلة نظمت في الولاياتالمتحدة تحت غطاء التعديل الأول. وأصدرت ست ولايات أميركية قوانين تحمي الكتّاب من قوانين القدح والذم الأجنبية، خصوصاً البريطانية. وهناك الآن حملة داخل بريطانيا نفسها لتعديل قوانين الصحافة بهدف حماية الكتّاب والصحافيين. ويفترض أن أُسَرّ كصحافي باستحداث قوانين تحميني من القضايا، إلا أن الموضوع لا يفهم إلا بردّه الى أرنفيلد وكتابها ومحاولة تلطيخ سمعة ناس من دون دليل تقبل به محكمة. الحرية لا تقوم وتستمر من دون مسؤولية، وتكون الحماية المنصفة للصحافة ومنها. [email protected]