الحديث الذي يدور في مجالس البصرة ومنتدياتها عن الفساد يكاد يطال كل شيئ، ويختلط الواقع فيه مع المبالغات. وتنصب الاتهامات بالفساد المالي والاداري والتهريب والتواطؤ، على المحافظة ومجلسها والأجهزة الرسمية، خصوصاً الأمنية، التي تسيطر عليها القوى والحركات الاسلامية منذ سقوط نظام البعث في نيسان ابريل 2005. وتكشف شوارع البصرة غير النظيفة تدني مستوى الخدمات التي تقدمها المحافظة عموماً، علماً بأن مجلس المحافظة، الذي يرأسه حسن الراشد المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق يتمتع بصلاحيات واسعة وتكاد العلاقة مع المركز في بغداد، كما حال بقية المحافظات، ان تكون معدومة او في ادنى مستوى. ويشتكي البصريون من تردي الخدمات في مختلف المجالات: شحة مياه الشرب علماً بأن مدينتهم تقع على ضفاف أكبر مصدر مائي في العراق، شط العرب، فضلاً عن وقوفهم في طوابير طويلة عند محطات الوقود علماً بأن البصرة تسبح فوق بجيرة من النفط، إضافة الى قلة التغذية الكهربائية، وتدهور الوضع الأمني. وكان ساد اعتقاد لدى البصريين بأن تعيين ممثلين من المدينة في مجلس المحافظة سيساهم بتحسين مستوى الخدمات فيها، لكن حصل العكس وبات الحديث عن الفساد، وخصوصاً الرشاوى والمحسوبيات وسوء الادارة، فضلاً عن التهريب، على كل شفة ولسان. فمثلاً، تم تكليف شركات خاصة لتنظيف شوارع المدينة، وعهدت هذه الى مقاولين محليين لتنفيذ ذلك، من دون رقابة تذكر، في حين كانت مديرية البلديات التابعة لوزارة الداخلية في عهد صدام حسين تشرف على تنظيف الشوارع مع رقابة صارمة ولجان متابعة. والأمر نفسه ينسحب على كل الخدمات الأخرى في المدينة. تهريب شرعي ويأتي التهريب على رأس قائمة الفساد. وأهم المواد المهربة النفط، حيث الصيادون العنصر الاساسي في هذه العملية التي تعتمد شبكة واسعة من المسؤولين والسياسيين، فضلاً عن تواطؤ موظفين في مصفاة الشعيبة والموانئ وبعض محطات توزيع الوقود. ويتم تهريب البنزين والغاز اويل، وهما أرخص سعراً في العراق من الخارج، الى الدول المجاورة: ايران والامارات والكويت، عبر شط العرب الى مثلث الفاو على فم الخليج، بواسطة سفن صغيرة، ثم تنقل الى بواخر أكبر. وهناك"تهريب شرعي"ابطاله الصيادون ايضاً، اذ ان وزارة النفط توزع، منذ عهد صدام حسين، حصصاً شهرية من النفط على الصيادين بسعر زهيد، وبدلاً من استخدامه في مراكب الصيد وجد الصيادون طريقة أخرى يحققون من خلالها ربحاً أكيداً وأكبر، وهي بيعه، فيعمد الكثير منهم الى بيعه لتجار محليين يبيعونه بدورهم الى الخارج مستفيدين من فارق السعر. ويقول بعض المتابعين ان التهريب بين العراق والدول المجاورة مهنة قديمة لم تستطع الحكومات منعها، وبعضها يغض الطرف عنه. والمواشي والنحاس أهم السلع المهربة بعد النفط. كما تنشط بعض عصابات تهريب المخدرات والاجرام في المنطقة. وعلى رغم كثرة الحديث عن التهريب وشبكاته والمتواطئين تغيب أي أدلة. وربما هذا هو الشرط الأساسي لهذه المهنة التي لا عقود فيها ولا شهود. والاتهامات للمحافظة بالفساد لا تأتي كلها من خصوم، بل لعل أخطر الاتهامات هي التي تأتي من... الداخل. فالمحامي منصور الكنعان، عضو مجلس محافظة البصرة والمرشح في لائحة"الائتلاف العراقي الموحد"، انتقد سيطرة الاحزاب الاسلامية على المؤسسات في البصرة، خصوصاً المحافظة، ووصفها بأنها"دكاكين وواجهات لا رصيد شعبياً لها"، واتهم أعضاء مجلس المحافظة ب"عدم الكفاءة والفساد المالي والاداري ما أدى الى تردي الأوضاع، خصوصاً الخدمات، الى أدنى مستوى، فضلاً عن التدهور الأمني، حيث نشطت عصابات القتل والسلب والخطف". وينتقد الكنعان، الذي يرأس أيضاً تحرير جريدة"العشار"في البصرة، طريقة تشكيل المؤسسات في المدينة، خصوصاً مجلس المحافظة والاجهزة الأمنية، على أساس"توافق حزبي ما انعكس سلباً على المدينة، خصوصاً ان البصريين لم يكن لديهم أي رأي بتشكيل هذه الاجهزة". ويلفت الى انه"في غياب هيئات الرقابة ازداد الفساد الاداري والمالي كثيراً ما أدى الى تخمة المسؤولين وتعزيز وضعهم الاقتصادي". ويشير الى"مقاولات وهمية وتضخيم حجم العقود كما حصل في حملة ترميم المدارس في البصرة". ويضيف ان"قرارات مجلس المحافظة غير فاعلة لمراعاته التقاطعات الحزبية والشخصية التي لم يستطع الخروج منها". واتهم الكنعان أعضاء في المجلس أو أقاربهم ب"التورط مع مهربي المشتقات النفطية، تماماً كما كان يحصل في عهد صدام بين المسؤولين، خصوصاً في الأجهزة الأمنية، والمهربين". وضرب أمثلة على الفساد ومنح العقود والمقاولات الوهمية وغير الشفافة، وأشار خصوصاً الى"تقديم بعض الدول الخليجية والمانحة محطات لتحلية المياه لتوزيعها مجاناً على المواطنين الذين يعانون شحة في المياه، لكنها بيعت الى شركات خاصة حيث يضطر المواطنون الى شراء المياه منها، على مرأى ومسمع من المسؤولين". ولفت الكنعان الى ان "الفساد ترك تأثيراً سلبياً حتى على البنية الاجتماعية للمجتمع البصراوي الذي بدأ يشهد ممارسات غريبة وشاذة، مثل عمليات السرقة والسلب، التي تتم حتى في وضح النهار، فضلاً عن الخطف والقتل والاغتيالات"، مشيراً الى ان هذه"ظواهر غريبة على المجتمع البصراوي الذي كان يتميز بالتآلف والمحبة". وانتقد"ضم عناصر من الأحزاب الاسلامية الى الاجهزة الامنية فيما بقي ولاؤها لأحزابها لا الى الاجهزة التي تعمل بها ما أدى الى هذا التدهور في الوضع الأمني". وانتقد الكنعان "المتنفذين"في المدينة لاقصائهم"ديوان الرقابة المالية"و"المفوضية العليا للنزاهة"عن الاشراف على نشاطات المجلس. وقال انه اقترح تشكيل مكتب مستقل لمكافحة الفساد الاداري فرفض مجلس المحافظة الطلب وشكل بدلاً من ذلك لجنة من داخله لهذه الغاية، لكنها ساهمت بتعزيز الفساد بدلاً من مكافحته. من جهة أخرى، اتهم الكنعان رئيس مجلس المحافظة ب"التسلط ومصادرة الآراء"، موضحاً انه تم الاتفاق على الفيديرالية في الجنوب باعتبارها أفضل الحلول لاعادة اعمار المنطقة وانمائها، فتمت الدعوة الى مؤتمر يعقد في البصرة لتشكيل اقليم جنوبالعراق يضم البصرة والعمارة والناصرية،"لكن رئيس مجلس محافظة البصرة سعى الى نسف المؤتمر التداولي بعقليته التسلطية". وأشار الى ان"عمليات إعمار المنطقة، التي تخصص لها مبالغ طائلة، تتم حالياً بشكل عفوي أو ديكتاتوري أو شخصي، في حين تتطلب هذه المهمة الكبرى تضافر كل الجهود، وتشكيل هيئة عليا نزيهة باشراف مباشر من ديوان الرقابة المالية والمفوضية العليا للنزاهة". ولفت الى ان"البصرة لم تلمس شيئاً من اعادة الاعمار من المؤتمرات التي تعقد باسمها"، علماً بأن"البصرة من أكثر مدن العراق تضرراً وحرماناً وتهميشاً"وفيها"أكبر نسبة من الأيتام والأرامل، فضلاً عن التدمير الذي لحق بها والتلوث البيئي وحقول الألغام التي لا تزال تحصد أرواح الأبرياء يومياً حتى الآن". ولفت الى تفاوت في مستوى المعيشة والخدمات بين البصرة والمناطق الاخرى في العراق وطالب ب"تخصيص نسبة كبيرة من الموارد المحلية، كالنفط والجمارك والاتصالات والموانئ، للمنطقة لاعادة اعمارها". وأكد"مع مطالبتنا بالفيديرالية لكننا لا ندعو الى التقسيم أبداً". من جهة أخرى، تتهم بعض الجهات القوى الاسلامية التي تسيطر على البصرة بمصادرة الحريات الشخصية والتعدي على الأملاك، مثل منع تجارة الخمور وفرض الحجاب على النساء. ويلاحظ ان بعض هذه الاتهامات يفتقد الى أدلة تدعمها، فيما تتهم القوى الاسلامية أحزاباً وجهات علمانية بالترويج لمثل هذه المزاعم في محاولة لتشويه صورتها أمام البصراويين. أما المحامية سبأ مكي، التي تعمل في برنامج تنمية في البصرة برعاية الحكومة البريطانية، فنفت أن تكون الاحزاب الاسلامية تمارس أي ضغوط أو تضييق على الحريات الشخصية في البصرة، وأضافت ان"عناصر الاحزاب الاسلامية تبرعت بحراسة بعض المدارس لحماية الطالبات من احتمال التعرض لهن". وبعدما أشادت بالمرجع الشيعي آية الله علي السيستاني ل"انقاذ العراق من الفوضى"أعربت عن"الخشية من استخدام الدين كغطاء سياسي". وبدوره نفى ممثل"المجلس الاعلى للثورة الاسلامية"في البصرة صلاح البطاط المزاعم التي تتهم"المجلس" بممارسات تنافي الحريات الشخصية في المدينة، مثل منع تجارة الخمور وتفجير المحلات التي تبيعها وفرض الحجاب على النساء. وقال:"اتحدى ان يقدم احد ما دليلاً واحداً على صحة هذه المزاعم". واضاف:"نحن لا نفرض رأينا على احد. بل نفتح حواراً مع كل الاطراف. ولدينا علاقات ايجابية مع كل اطياف المجتمع العراقي. واستراتيجيتنا تركز على الحوار حتى مع الاعداء". ورداً على سؤال ل"الحياة"هل يؤيد"المجلس الاعلى"اغلاق محلات بيع الخمور او فتحها اجاب:"لا مع ولا ضد". واضاف:"على رغم ايماننا بأنه لا اكراه في الدين لكننا نؤمن في الوقت نفسه بالحرية المسؤولة التي لا تتعدى على حرية الآخرين". ورداً على سؤال عن موقف"المجلس الاعلى"من علاقة الشريعة الاسلامية مع الدستور المقبل للبلاد قال:"الدستور اصبح بعهدة الجمعية الوطنية الجديدة. والمهم في ذلك أمران: ان يحفظ الهوية الدينية للشعب العراقي، ويحفظ الثوابت الوطنية مثل وحدة العراق والديموقراطية والتعددية والمساواة والعدالة والفيديرالية". ويؤكد البطاط ان"المجلس الاعلى"لا يسعى الى نسخ التجربة الايرانية في العراق، وقال:"لا نريد استيراد قالب سياسي من الخارج. قد يكون نظام الحكم الايراني يناسب الشعب الايراني. لكننا لا نريد ان نقلد الآخرين ولا ان يملي أحد سياسته علينا". من جهة أخرى أكد البطاط ان"المجلس الأعلى"يؤيد الفيديرالية في الجنوب، مضيفاً انه"كان من أول القوى السياسية التي أيدت الفيديرالية في العراق".