في محاضرة أخيرة تناولت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، وصف الأستاذ غسان سلامة هذه السياسة كالآتي: "بعد تحرير الكويت في 1991، سعت السياسة الأميركية وسياسة المملكة المتحدة والقوى الكبرى الأخرى إلى الحفاظ على الوضع السياسي الراهن في المنطقة. وبعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 المأسوية، سعت هذه السياسة إلى تغيير الوضع الراهن". إن برنامج النفط مقابل الغذاء، الذي اقترحته المملكة المتحدة وتبنته الأممالمتحدة في 1996، يجب أن يفهم في سياق الزمن الذي صدر فيه. فقد قصد التخفيف من آلام الشعب العراقي، لكنه، أساساً، كان أيضاً عنصراً مهماً من عناصر السياسة الأوسع، يستهدف إبقاء الوضع الراهن في العراق سليماً تقريباً. أما النقد القوي للبرنامج الموجه الآن للأمم المتحدة من جانب السياسيين الأميركيين والناطقين باسم المجموعات المحافظة الجديدة فعبارة عن جزء من حملة معاداية للأمم المتحدة. ويتمثل الخطأ في حجتهم في أن برنامج النفط مقابل الغذاء يجرى تقويمه في ضوء الهدف الحالي للسياسة التي تسعى إلى تغيير الوضع الراهن. وليس هناك شك في أن النفط مقابل الغذاء مكّن صدام حسين من الحصول على المال من أولئك الذين اشتروا النفط بحسب البرنامج ومن منح العقود من خلال توزيع القسائم تأهيلات للشراء يمكن أن تباع إلى الآخرين على الأجانب المفترض أنهم سيكونون قادرين على تقديم بعض الدعم السياسي. وليس هناك شك أيضاً بأن تطبيق البرنامج تسبب بالممارسات الفاسدة. إن النقد الذي يقول إن صدام حسين كان يستطيع أن يحصل على العائدات من تهريب النفط الخام والمنتجات النفطية إلى الدول المجاورة موجه في شكل خاطئ إلى برنامج النفط مقابل الغذاء. لقد حصل تهريب، لكن هذا النشاط غير الشرعي لم تكن له علاقة بالأممالمتحدة أو بذلك البرنامج. كانت الحكومة العراقية قادرة على الحصول على العائدات من النفط مقابل الغذاء وتوزيع القسائم التي مكنت المتعاونين معها من بيعها إلى الآخرين أو من شراء النفط بأنفسهم، لأن فجوة كانت تقوم عادة بين سعر السوق للنفط العراقي والسعر الأدنى الذي كان يباع به. وتفاوت حجم هذه الفجوة من شهر إلى آخر، وكانت قليلة أحياناً لا تتجاوز بضعة سنتات، وفي أوقات أخرى كبيرة تبلغ نصف دولار أو أكثر. وكانت المبيعات تتم على أساس صيغ السعر الموافق عليها من لجنة الأممالمتحدة التي عملت تحت إشراف لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن. لكن لماذا وُضعت أسعار التصدير تحت سعر سوق الخامات العراقية؟ أفترض أن الهدف كان يتمثل في تصدير أكبر كم ممكن من الصادرات العراقية، أو بالضبط في الوصول الى هدف العائدات المحدد في البرنامج. لكن قامت صعوبة في هذا المجال. فشركات النفط الأميركية، المستخدم المحتمل الرئيسي للنفط العراقي، لم يسمح لها بشرائه مباشرة من "سومو" شركة تسويق النفط العراقية الحكومية. وإذا كان لها أن تحصل عليه كان يجب عليها أن تشتريه من السوق الثانوية ومن شركات يمكنها الوصول إليه مباشرة. ومن دون فرق في السعر لا تقوم السوق الثانوية. وإذا كان النفط العراقي مسعراً بسعر السوق في المبيعات الرسمية، يجب عندئذ أن يعاد بيعه إلى المصافي الأميركية وإلى زبائن آخرين، بسعر يفوق سعر السوق. وقليلة جداً الشركات التي كان يمكن ان تقبل الشراء بأسعار أعلى. لقد جلب وجود فجوة سعرية انخفاض سعر البيع الرسمي عن سعر السوق عدداً من الشركات، ولا سيما التجار الذين لا يستعملون النفط بأنفسهم، بل يشترونه بهدف إعادة بيعه إلى المصافي المحرومة من الوصول المباشر إليه. ولو استطاعوا، لحاولوا إعادة بيعه بسعر مكافئ لسعر السوق ووضعوا الفرق بين هذا السعر وسعر البيع الرسمي في جيوبهم. وهنا دخلت حكومة صدام حسين على الخط.. لقد توافرت لها الفرصة للحصول على مبالغ مالية من الشركات التي تتمتع بالمنافع المترتبة على الفرق بين السعر الرسمي وسعر السوق. وأعلنت بصورة غير رسمية انها ستتعامل فقط مع أولئك الراغبين في الاشتراك معها بالمكاسب الناجمة عن فرق السعر. إن وجود فرق السعر أوجد أيضاً الفرصة لإعطاء القسائم أي التأهيل للشراء إلى الأصدقاء، الفعليين أو المحتملين. فالقسائم لم تكن لها قيمة إذا كان سعر النفط في المبيعات الرسمية عند سعر السوق. إن الفجوة السعرية باب مفتوح للممارسات غير الشرعية. وربما كان لأولئك الذين ابتكروا البرنامج نية طيبة، وهي تصدير أكبر كمية من النفط العراقي للحصول على العائدات المالية الضرورية لشراء الغذاء والدواء للشعب العراقي. لكن إن لم يكونوا سذجاً جداً، وهم لم يكونوا كذلك، كانوا سيعرفون أن حكومة صدام حسين ستتمكن من استعادة الجزء المتمثل بالفرق في الأسعار. وقد استطاع الديكتاتور البقاء في الحكم أثناء الحصار بفضل هذه الأموال، وبفضل عائدات التهريب، وادارة أخيه غير الشقيق للأموال المودعة في الخارج. إن الديكتاتوريين لا يحكمون بالقهر وحده. فهم يحتاجون الى المال لشراء خدمات أولئك الذين يعملون في الجهاز القمعي، وأجهزة الأمن، وبيروقراطية الحزب، وكل أنواع المستزلمين والمؤيدين. وغضت الدول الكبرى الطرف عن هذه الظاهرة في حينه. فكل شخص راقب مشهد النفط العراقي في حينه كان يعرف أن التهريب كان قائماً على قدم وساق، وأن الكثير من أولئك الذين يشترون النفط كانوا لا بد سيتقاسمون فرق السعر مع العراق، وأن تجارة القسائم كانت قائمة. وتساهلت القوى الكبرى لأن ذلك كان مناسباً لإبقاء الوضع القائم على حاله، ليس فقط في العراق لكن أيضاً في المنطقة. ولم تكن هذه مؤامرة من ناحيتها لكنها استمرار لسياسة تضمن توازناً بين الأهداف المختلفة. وفي الحكم على النفط مقابل الغذاء يجب أن يميز المرء بين نتائج الخصائص المهمة للبرنامج والسلوك الشاذ للمسؤولين الذين يمكن أن يقبلوا الرشاوى. وعلاوة على ذلك، كان البرنامج متسقاً مع أهداف السياسة السائدة في ذلك الوقت. وقد يقبل المرء الآن هذه الأهداف أو يختلف معها. لكن هذا نقاش مختلف. وأخيراً، على أولئك الذين يختلفون مع الفكرة السائدة في التسعينات من القرن الماضي، والقائلة بالإبقاء على الوضع السياسي الراهن، أن يوجهوا نقدهم إلى واضعي السياسة، وليس للأمانة العامة للأمم المتحدة التي كانت مهمتها تطبيق ما أراده سادتها، وتحت إشرافهم. رئيس معهد اوكسفورد لدراسات الطاقة.