تكشف الحالة اللبنانية منذ صدور القرار 1559، وخصوصاً مع إغتيال الرئيس رفيق الحريري، أحد أبرز وجوه السياسة اللبنانية ونقاط تمفصلها في العقدين الماضيين واستعداء المعارضة اللبنانية للخارج الأميركي - الأوروبي على الحكومة القائمة ودعوتها الى تحقيق دولي. وتسرع هذا الخارج في نسبة الإغتيال المأسوي إلى سورية بقصد تشديد الضغوط عليها، وسعيه الى تدويل القضية على حساب السيادة اللبنانية، عن حالة عربية أشمل كان المفكر العربي الجزائري مالك بن نبي وصفها قبل ثلث القرن بالقابلية للاستعمار، وهي اليوم أشد وطأة وأكثر حضورا عما كانت في الأمس. وما بين قيام دولة اسرائيل على حساب الوجود العربي في فلسطين وسقوط بغداد أمام قوات الغزو الأميركي، يكون التاريخ السياسي العربي دار حول نفسه دورة كاملة مخلفا وراءه عصر التحرر الذي بدا واعدا بالاستقلال الوطنى والوحدة القومية وانتهي بوضع ثانى أكبر وثالث أعرق العواصم العربية تحت أقدام الغزاة الجدد، ما دفع الباقين الى الركض خلف الحلول التهادنية ونزوعات الخلاص الفردي التي ارتأتها النخب الحاكمة والمحبطة سواء بالتعايش مع اسرائيل أو اللهاث خلف صداقة الولاياتالمتحدة حيث يتم اللقاء بين التحدي الاقليمي، أي المشروع الصهيوني، والتحدي الدولي، أي نزعة الهيمنة الأميركية على ارضية المسيحية الصهيونية. وتصير مركزية سورية في الصراع العربي - الاسرائيلي هدفا اسرائيلياً عزيزاً على النحو الذي مثله نفط العراق اميركيا، وكما تم احتلال العراق سيتم غالبا تركيع سورية إن حربًا وإن سلمًا طالما لم تجد دعما لوجستيا كاملا من القوى المحورية في عالمنا العربي الذي صار - لتردد هذه القوى - يمثل فراغا استراتيجيا مخيفا من الأفكار الكبرى بحجم القومية العربية، ومن الزعامات الكبرى بحجم جمال عبد الناصر، وهو ما تستغله الولاياتالمتحدة في السيطرة على المنطقة الى درجة تتيح لها حرية التصرف فيها على ذلك النحو الذي أرادته في خمسينات القرن الماضي وحاولت تدشينه عشية حرب السويس بإطلاق استراتيجية ملء الفراغ التي نادى بها دوايت ايزنهاور وفشلت في ظل الاتحاد السوفياتي والقومية العربية وعبد الناصر. ثمة حاجة، اذن، الى إعادة ملء الفراغ العربي بحضور عقلاني ومنظم، قد يكون حزمة أفكار متجددة على رأسها الديموقراطية، أو توجهات وحدوية تبث الحيوية في المشروع القومي العربي على المدى الطويل. غير أن الحاجة الضرورية الملحة والعاجلة هي تحقيق التماسك القومي في اللحظات الصعبة المحدقة من خلال قوة كبيرة قد تكون دولة كبرى، أو تحالف من الدول الكبيرة، يعمل كنقطة اسناد للنظام الاقليمى العربي الواسع ويستطيع أن يتحمل عنه أو معه أعباء اللحظة الراهنة بسرعة وفعالية سواء بتأمين المنطقة استراتيجيا ضد محاولات الهيمنة الخارجية والفوضى الداخلية، أوبقيادتها حضاريا لتتجاوز حالة التردد المزمن أمام الخيارات النهضوية الكبرى والتي يزيد من ركودها الاقتصادى ويبطىء من تطورها السياسي. وجوهر هذه المهمة يقوم على منطق بسيط: اذا كانت نتائج احتلال العراق تصب في اتجاه نظام اقليمى جديد يراد له ان يكون شرق اوسطيا، وفي ظل صعوبة الحديث عن احياء النظام العربي الآن، فلا بد من بناء نظام استيراتيجي يقوم على تحالف القوى الكبرى في المنطقة القادرة، والراغبة في شغل الفراغ الحادث فيها والذي يجعلها رخوة بأكثر مما ينبغي وما يحتمل حتى ولو كان بعضها غير عربي ومن دون انتظار للاجماع التقليدي الشكلي لأعضاء جامعة الدول العربية الإثنين والعشرين الذين يشكلون نظامها القانوني - السياسي الذي يعج بأمزجة مختلفة وأهواء متنافرة لا تسمح باطلاق ديناميكية سريعة لتأمين الإقليم، وبدلا من قيام نظام اقليمي شامل جديد"شرق أوسطي"حقيقته الأولى والكبيرة هي اسرائيل وهدفه ازالة النظام العربي، فلماذا لا يكون هناك نظام استراتيجي اقليمي عربي بعمق اسلامي هدفه دعم النظام الاقليمي العربي الشامل"القانوني والمؤسسي"في مواجهة تحدياته العاصفة وليس الإحلال محله0 والمتصور لهذا النظام الاستراتيجي ان ينهض بالأساس على المحور الثلاثي العربي - المصري - السوري - السعودي، صاحب الخبرات العديدة الناجحة في صياغة وتنمية حس اتجاه قومي تجاه القضايا المصيرية في الحقبة المعاصرة وفي اللحظات التاريخية الحرجة، يضاف اليه ايران كضرورة استراتيجية من زاوية انها الطرف الاقليمي الأكثر رغبة في مواجهة الهجوم الأميركي العاصف على المنطقة لأنها - مع سورية - الأكثر استهدافا له، وأيضا كونها ذات وزن وثقل اقليميين معتبرين يحسب حسابهما، ولكونها بالذات تملك مفاتيح مهمة وأساسية في التركيبة العراقية المعقدة، ولكونها تشارك العالم العربي كله موقفه من اسرائيل الرافض لعدوانيتها والداعم في المقابل للفلسطينيين وللمقاومة الوطنية اللبنانية. وعلى رغم أن ثمة اختلافات قائمة بين العرب وايران اهمها حول الجزر الاماراتية الثلاث التي لا تزال تحتلها الا ان تلك الخلافات نفسها قد تكون أقرب للحل والتسوية حالة وجود ايران ضمن تحالف عربي يواجه تحديات اقليمية ودولية عنيفة تدفع الى تسوية أيّة مشكلات بين اعضائه والتي تصير آنذاك أقرب الى مشكلات داخلية. وتحتاج القوى المحورية الثلاث في العالم العربي الآن الى التحالف مع ايران، بقدر ما أن ايران تحتاج الى التحالف مع هذه القوى ليحمى كلا الطرفين نفسه والآخر، على ان ينهض هذا النظام على صيغ من تحالفات سياسية ومعاهدات أمنية تؤسس لتضامن استراتيجي راسخ ومعلن، ليس على حساب الجامعة العربية وانما يقوم بالوكالة عنه ببعض وظائفه على نحو يدعم وجود الثاني ويمنح الشرعية للأول بمعنى ان يعمل هذا الأخير وكأنه الآلية العملية"الاستراتيجية"للنظام الاقليمي الشرعي والواسع ولكن المهلهل في مرحلة انتقالية قد يقود نجاح التحالف خلالها الى احياء النظام العربي نفسه، وبث الحيوية فيه من جديد، اذا ما استطاع أن يثبت اسرائيل مرحليا في مواقعها، وأن يسهم بقوة - خصوصا اذا ما تمكن من كسب موقف تركي مؤيد أو حتى محايد - في ادارة المرحلة الإنتقالية في العراق، كما يستطيع حماية المنطقة من شروط التعامل البالغة التعسف في مرحلة ما بعد سقوط بغداد والتي تجري ممارستها الآن مع سورية المستهدفة بالعدوان العسكري أو التركيع السياسي. ولا شك في أن المهمة الأصعب التي تواجه هذا التحالف تتمثل في ذلك التباين في المواقف بين سورية وايران المهددتين فعليا ومن ثم صاحبتي المصلحة في مثل هذا التحالف الآن، وبين مصر والسعودية اللتين ربما تشعران بخطر اعادة الصياغة الاستيراتيجية للمنطقة ولكن من دون تهديد مباشر لهما، ومن ثم تبقى لديهما امكانية الاختيار بين بديل التكيف مع المنطق الأميركي تفاديا لوقوع التهديد اصلا، وبين بديل المواجهة الآن مع سورية وايران كتحالف بدلا من المواجهة المنفردة ولو بعد حين. ولعل عامل الترجيح الممكن هنا بين الخيارين يكمن في صدقية التوجة الأميركي الامبراطوري، فتأكيده يرجح خيار المواجهة، واما تراجعه فيدفع نحو خيار التكيف ويباعدهما عن الموقف السورى - الايراني عمليا. واذا كانت الخبرة العراقية باستثنائيتها تبقي هذا التوجه موضع جدل، فان محاولة تكرارها مع سورية يجب ان تكون حاسمة في تأكيده ومن ثم في دعم خيارالتحالف. وما دام الضغط على سورية جاء سريعا على نحو فاق التوقع بالانتظار حتى هضم العراق كما جاء ساخنا حول كل الملفات الحساسة وفي شكل التهديدات الفجة بل والعدوان العسكري المحدود، فان البدء في بناء هذا التحالف يصبح امرا مُلحًا ليبدأ العمل ولو عند حدوده الدنيا التي ترتفع مع تزايد الضغوط على سورية. ثمة أمران مهمان في هذا السياق، أولهما يتعلق بالأزمة التي تشهدها العلاقات المصرية - الايرانية التي ينبغي استئنافها تجاوزا للتفاصيل الصغيرة ونزوعا الى الأهم الذي يكمن في قدرة هذه العلاقة على التحكم في ايقاع تفاعلات الاقليم وحمايته من الانهيارات الكبرى . وثانيهما يتعلق بطبيعة المهمة والتي لا تعني المواجهة الحتمية أو المسلحة مع الولاياتالمتحدة، وانما وقفة مراجعة جماعية معها يتم من خلالها اعادة صياغة الشروط العامة للتعامل معها حيث الركون التام الى المألوف والعجز عن الخروج من أسر المعادلات الحاكمة للإقليم، وعن خوض رهانات سياسية واستراتيجية جديدة هو ما يجعل العرب مهزومين نفسيا، وليس سياسيا، فالهزيمة العربية الآن هي قبل السياسة وليس فيها وازاء الذات قبل الغير. وحتى اذا كانت المهمة صعبة في اللحظة الراهنة إلا انها تبقى ممكنة اذا ما أصرت على انجازها الدول الكبرى في الاقليم وأخذت في صوغ حدودها من دون ارتعاش لما لهما من وزن كبير لا يمكن تجاهله، وما يمكن لها احداثه من تأثيرات في الاستقطابات الدولية القائمة ولو عانت هذه الدول في سبيل ذلك من درجة مخاطرة محسوبة تبررها المسؤولية الكبرى عن النظام والاقليم، كما تفرضها ضرورات النضال الانساني والعالمي ضد الهيمنة الأميركية. كاتب مصري.