لا تزال دعوة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى إلى بناء رابطة للجوار العربي تثير جدلاً نظراً لموقع الداعي وخطورة الدعوة. ويتعين بحث دعوة موسى في إطار شروطها التاريخية، ما يفرض علينا التوقف مبدئياً عند أمور ثلاثة رئيسة: الأول أن العالم العربي هو التمثيل الأبرز (ثقافياً) لما يُسمى بالعالم الإسلامي، ومن ثم فإن صورة الإسلام كما نعكسها نحن هي التي تسود في النهاية. غير أنه وبفعل الضعف السياسي الذي يحيق به الآن، لا يستطيع أن يدعي تجسيده للعالم الإسلامي استراتيجياً، فيما لا يمكن لأي قوة غير عربية مهما بلغت على الصعيد السياسي - الاستراتيجي من قوة أو حضور أن تزعم لنفسه0ا تجسيد هذا العالم، الذي يبقى العرب، لدواع دينية وتاريخية وثقافية، في قلبه بل أكبر مصدر لإلهامه. وإزاء العجز الاستراتيجي العربي عن تمثيل العالم الإسلامي، والعجز الثقافي لغير العرب عن ذلك، يبقى هذا العالم الكبير من دون مركز قيادة استراتيجية، وإن توافر له مركز إلهام روحي. ولعل المفكر الأميركي الراحل صامويل هانتنغتون في كتابه الأشهر «صدام الحضارات» كان قد تنبه إلى تلك الحقيقة، مشيراً إلى غياب دولة مركز تقود عالم الإسلام على منوال الصين في الحضارة الكونفوشيوسية، والهند في الحضارة الهندوسية، وروسيا في الحضارة المسيحية الشرقية، والولايات المتحدة في الحضارة الغربية، إذ تتنافس دول ست أساسية، في رأيه، على هذه القيادة وهي إندونيسيا ومصر وإيران وباكستان والسعودية وتركيا، من دون أن تتمكن إحداها من تحقيق إجماع حول قيادتها لوجود أوجه قصور متباينة لدى كل منها. والثاني: أن ملمحاً استراتيجياً جديداً (سلبياً) برز واضحاً في الجغرافيا العربية منذ احتلال العراق، وهو التدهور النسبي في مكانة القوى المركزية في النظام العربي وبخاصة أطراف المحور الثلاثي الذي كان قد هيمن على اتجاهات القرار العربي منذ ساند الشرعية الدولية في حرب تحرير الكويت، وذلك بتأثير الحضور الأميركي المغاير في ظل اليمين المحافظ، والذي استحال ضاغطاً على المنطقة، غير قانع بأنماط التأثير السابقة فيها عبر التفاهم مع دولها الكبرى المعتدلة. وعبّر هذا التطور عن نفسه في ظاهرتين أساسيتين عانى منها الواقع العربي في السنوات الست المنصرمة: أولاها بروز مفتعل لدول صغرى صارت تلعب أدواراً استثنائية تفوق طاقاتها الطبيعية ضد التوجه الإستراتيجي العربي العام، وذلك بقفز إحداها مثلاً على التوازنات العربية في أكثر من مناسبة وفي غير اتجاه، على منوال إقامة علاقات اقتصادية مع إسرائيل من دون ضرورة سياسية، أو مد الجسور نحو إيران على حساب علاقاتها بمصر والسعودية. وثانيتها بروز حركات المقاومة المسلحة على منوال «حزب الله» و «حماس»، واحتلالهما المكان الأبرز في ساحة التفاعلات العربية وفي حفز الأحداث وصناعة المواقف، وإثارة الاهتمام لدى الشارع السياسي. هذا البروز يبقى أمراً إشكالياً لأنه من ناحية يمثل إضافة إلى القوى الحية في عالمنا العربي، خصوصاً في القضايا المثارة مع إسرائيل، وربما يملأ فراغاً فعلياً قائماً، لولاه ما كان بروز أو تمدد تلك الحركات. ولأنه، من ناحية أخرى، يبقى مربكاً إذ يضع قرارات خطيرة كالحرب والسلام، تولد أعباء على الأمة كلها، ناهيك عن الدول نفسها، في يد حركات نشهد لها بوطنيتها وقوميتها ونبل غاياتها ولكن تبقى حساباتها ضيقة ومحدودة، خصوصاً في مواجهة عدو شرس وهمجي ليست لديه حدود أو قيود على استخدام آلته العسكرية الضخمة كما تبدى الأمر في العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006. وفي محرقة غزة 2008، ما يجعل محصلة بروز تلك الحركات سلبية وأحياناً كارثية. وثالثتها الحضور الطاغي، وليس البارز فقط، للقوى الإقليمية الكبرى حول عالمنا العربى، ليس فقط في قضايا الإقليم منظوراً إليها من زاوية السياسة الدولية، بل في قضايانا العربية التي تنبع وتصب في أراضينا ذاتها. هذا الحضور قد يأتي بمباركتنا إذ يعمل على تسهيل حل نزاعاتنا العالقة أو منع تفجير نزاعات جديدة مثل الحضور التركي في العدوان على غزة، وفي محاولة الوساطة بين «حماس» وإسرائيل بمباركة مصر أو عدم ممانعتها على الأقل، وكذلك في الوساطة التركية بين إسرائيل وسورية بمباركة الأخيرة. وخلف مصر وسورية كان ثمة تأييد عربي واسع. ولكنه قد يأتي رغماً عنا كالحضور الإيراني لدى «حماس» والذي كرس خلافها مع «فتح» وعمق القطيعة بين الضفة وغزة، ولدى «حزب الله» حيث زاد من تصلب قراره في مواجهة الإجماع اللبناني، ومنحه قوة فائقة في التركيب السياسي ربما كان عامل فوضى وهيمنة تتوق إليها إيران لولا بقية من حكمة أبقت الأمور في الحيز المقبول حتى الآن. ناهيك عن الدور الإيراني في العراق والسودان وغير مكان إلى الدرجة التي جعلت كثيرين داخل المنطقة وخارجها يتحدثون عن تصورين متصارعين حولها أحدهما أميركي والآخر إيراني من دون اكتراث بالوجود السياسي العربي الذي نظر إليه كمجال حيوي. في هذا السياق يمكن فهم المنطق الكامن خلف طرح الأمين العام وهو محاولة تدعيم (تطعيم) النظام العربي بقوى حيوية وفعالة تستطيع أن تتحمل عنه أو معه أعباء اللحظة الراهنة بسرعة وفعالية. جوهر هذه الفكرة منطق بسيط يقول: إذا ما كان تدهور القوى المركزية في العالم العربي قد أوجد نوعاً من الفراغ الإستراتيجي، وفي ظل صعوبة الحديث عن إحياء النظام الإقليمي العربي الآن في ظل وطأة التحديات وتلاحقها، فمن الممكن بناء نظام استراتيجي يقوم على تحالفات القوى الكبرى في المنطقة، تلك القادرة والراغبة في شغل الفراغ الحادث بها والذي يجعلها رخوة بأكثر مما ينبغي ومما يحتمل حتى ولو كان بعضها غير عربي. وبدلاً من انتظار قيام نظام إقليمي جديد «شرق أوسطي» بقوة الأمر الواقع حقيقته الأولى والكبيرة هي إسرائيل وهدفه إزالة النظام العربي، فلماذا لا يكون هناك نظام استراتيجي إقليمي بعمق عربي - إسلامي هدفه دعم النظام الإقليمي العربي «القانوني والسياسي والمؤسسي»، في مواجهة تحدياته العاصفة وليس الإحلال محله. وهنا يصبح الجمع بين تركيا وإيران والعالم العربي في سياق تلك الرابطة الجغرافية تطوراً إيجابياً يصوغ كتلة استراتيجية قادرة على ملء الفراغ، وصياغة حس اتجاه لما يمكن تسميته ب (الإسلام الحضاري) سداً للقصور الذي لمح إليه هانتنغتون من ناحية، ويمتص عوامل التوتر الإقليمي الناجمة عن صعود دور هذين البلدين على حواف الإقليم العربي من ناحية أخرى. غير أن ثمة تحفظين رئيسين على هذه الدعوة: أولهما يتعلق بجدوى الارتباط الهيكلي مع دول مثل إريتريا والسنغال ومالي وغينيا والنيجر وتشاد لمجرد أنها مناطق تماس جغرافي للعالم العربي، أو ثمة مصالح مشتركة لنا معها، فالعالم العربي له مصالح مع دول العالم، شرقاً وغرباً، ومصالحه مع الصين مثلاً أو الهند تفوق كثيراً هذه الدول، والتي تتوافر بدائل كثيرة لرعايتها وتنميتها من دون حاجة إلى صياغة روابط أو هياكل سياسية جديدة ودائمة، إذ لا تقوم هذه الأخيرة إلا على أسس أكثر عمقاً ورسوخاً تتجاوز المصالح المتغيرة، على أهميتها، إلى آفاق الهوية الدينية والقومية والحضارية، بل والإستراتيجية، والأخيرة ربما تخرج على التعريف الضيق للهوية (كرابط ثقافي)، وتدفع به إلى أفق أوسع باعتباره رابطاً جغرافياً سياسياً يتميز عن روابط الجيرة الجغرافية العادية بكونه لا يقوم فقط على معطياتها التقليدية من قبيل قضايا الحدود ووضوح ترسيمها، وإمكانية تحقيق التبادل الاقتصادي من خلالها، بل على رؤية مشتركة للعالم السياسي تتداخل فيها معطيات ثقافية وسياسية واستراتيجية متراكبة ومعقدة لا يمكن الفصل بينها لأنها تكون من الكثافة والتشابك على النحو الذي يمنحها خصوصية كبرى لا تتوافر لأي من تلك البلدان الإفريقية، أو المتوسطية التي تحدث عنها السيد عمرو موسى، بقدر ما تتوافر، وربما بغزارة ملحوظة في حالة تركيا وإيران وربما كان إدراك الرجل لهذه الحقيقة هو ما دفعه إلى إعطاء الأولوية لهاتين الدولتين، خصوصاً تركيا. وثانيهما هو شكل هذا الارتباط، فإنشاء رابطة هيكلية واسعة على منوال منظمة إقليمية ربما حمل معه أمراض النظام العربي الرسمي. وربما كان الاقتراح العملي هنا هو صياغة (تحالف استراتيجي) يجمع بين تركيا وإيران وبين المحور الثلاثي العربي المصري السوري السعودي، ينهض بدوره على صيغ من تحالفات سياسية ومعاهدات أمنية تؤسس لنظام استراتيجي راسخ ومعلن ليس على حساب الجامعة العربية وإنما يقوم بالوكالة عنها ببعض وظائفها ولكن من دون انتظار للإجماع التقليدي الشكلي لأعضائها الإثنين والعشرين والذين يشكلون نظامها القانوني - السياسي الذي يعج بأمزجة مختلفة وأهواء متنافرة. فيما يمنح النظام الرسمي العربي من خلال التمثيل المصري - السعودي الشرعية القومية لهذا «التحالف الاستراتيجي» بحيث يعمل هذا الأخير وكأنه الآلية العملية «الاستراتيجية» للنظام الإقليمي «الشرعي» الواسع ولكن المهلهل في مرحلة انتقالية يقود النجاح فيها إلى إحياء النظام العربي نفسه وبث الحيوية فيه. وأما عن الصيغ العملية الممكنة لهذه الكتلة فهي كثيرة، قد تكون من خلال توسيع وتفعيل أطر قائمة شكلياً أهمها إعلان دمشق بعد ضم إيران وتركيا وتحويله من صيغة «6 +2» إلى «6+4»، أو على الأقل تفعيل أطر تضم إيران وتركيا فعلياً من قبيل مجموعة «دول جوار العراق ومصر»، أو غيرها. غير أن نجاح مثل هذه الكتلة يتطلب شروطاً ثلاثة رئيسة لا بد من توافرها كضمانة تحول دون ميوعة الحركة العربية، وانزلاقها في مسارات أوسع تقود فقط إلى شرعنة الأدوار الإقليمية الصاعدة على حسابها من دون فائدة عملية: الشرط الأول هو استفاقة أطراف المحور الثلاثي العربى، واستعادتها الإصرار على ملء الفراغ الكبير المتزايد الاتساع الذي أوجده خمولهم السياسي، قبل الدخول في أي تحالفات إقليمية، إذ أن دخول مثل هذه التحالفات من دون إرادة مركزية عربية واضحة ومبلورة سيرهن القضايا العربية بدول الجوار أكثر مما هو قائم، إذ يجعل تدخلاتها فيها مشروعة ومقننة، بل ربما أتاح لها المزيد من القنوات والوسائل لهذا التدخل. الشرط الثاني هو بلورة منهج توافقي لإدارة الصراعات العربية مع العالم تجاوزاً للثنائية العقيمة حول الموالاة والمعارضة التي سادت في السنوات الخمس الأخيرة، ولم تؤد إلا إلى تقسيم العالم العربي وتوزع طاقته المحدودة على معسكرين متناقضين، يتبادلان القدرة على التعطيل لا الفعل. وأما الشرط الثالث فهو تجاوز القطيعة المصرية - الإيرانية، والدخول في فلك عملية سياسية نشيطة، ومنتجة استراتيجياً بين الطرفين. ولذا ربما يتعين على مصر أن تتخلص من أثر الدعاية الغربية حول إيران ورغبتها أو قدرتها على تغيير خرائط المنطقة، فهذا الحديث لا يعدو ما كان يقال عن مصر الناصرية نفسها، وعليها أيضاً تجاوز الأوهام التي قد تنثرها إيران حول نفسها، فإيران دولة مؤثرة بمعايير عالمثالثية لا أكثر، يعيش حلمها النووي بل يتغذى على الاستبداد، وعليها كذلك إدراك أنها تحوز من القوة الكامنة بها أو المتولدة عن انتمائها العربي ما يضارع إيران ويفوقها كثيراً شرط رغبتها في تحريك واستنفاذ هذه الطاقة. والأهم من ذلك، إدراك أن ثمة محفزاً جوهرياً للسلوك الإيراني هو الرغبة في تحقيق نوع من الاستقلال الاستراتيجي للمنطقة يعكس خصوصيتها الحضارية، بعيداً من الهيمنة الأميركية. ونظن أن تلك الرغبة مشروعة، بل يجب أن تكون مشتركة مع مصر، لأنها حال توافرها ستدفع بالمنطقة إلى مسار حضاري توحيدي، يتجاوز النزوع التفكيكي طائفياً، وحال الركود السياسي قومياً. والمهم، أيضاً، أن هذا المسار وعبر الكتلة الناشئة، التي تمثل تحالفاً سنياً - شيعياً يمثل جل المسلمين، ربما يكون الطريق الأمثل لإعادة صياغة دور الإسلام في النظام العالمي باعتباره ذلك الإطار الحضاري الذى يستوعب حياة ربع البشرية أو أقل قليلاً، ونحو 15 في المئة من جغرافية العالم بما تحتويه من مشكلات سياسية وتناقضات استراتيجية، إذ تمثل هذه الكتلة الطريق الأوفر حظاً لامتصاص المد الإرهابي في المنطقة، وتخلق لغة حوار بديلة بين النظام العالمي والدولة التي تتحكم في مصائره، وبين الثقافة التي يدعي الإرهاب لنفسه حق التعبير عنها والتي تضم أساساً الأعراق الثلاثة التركي - الفارسي - العربي. وإذا كان إرهابيو العالم العربي المعاصرون أمثال بن لادن والظواهري والزرقاوي قد تمكنوا من اختطاف الصورة الذهنية عن الإسلام، فإن هذه الكتلة الإستراتيجية بتوجهها المعتدل والسلمي، وباحترام الغرب والعالم لمنطقها قادرة على استعادة وعي المسلمين، لأنها باختصار تعيد لهم الشعور بالكرامة المهدرة وهنا قد تكمن المفارقة، فبينما تصور صامويل هانتنغتون الصراع على قيادة العالم الإسلامي بين المراكز الستة في إطار صراعي مع الغرب، فإن نهوض هذه الكتلة بتجسيد إطار استراتيجي ل «الإسلام الحضاري» يتفاعل معه الآخرون «باحترام يصون كرامته» ربما يكون طريقاً الى التعايش الحضاري بين بنيات تاريخية حية وفاعلة تجاوزاً لحديث العادة الثقافية من داخل غرف مغلقة عن «حوار الحضارات» الذي يبقى دعائياً ومحبطاً أمام ضغوط الأحداث و «صدام السياسات». * كاتب مصري