جائزتا نوبل للسلام، الأولى والتاسعة والتسعون نالتهما امرأتان. الأولى بارونة نمسوية نشأت على التقاليد العسكرية في الجزء الأول من حياتها، وحاربتها في الجزء الثاني منها. والثانية وزيرة كينية حصلت على الجائزة في العام 2004 نظراً إلى جهودها السلمية المكثفة في القارة الافريقية. عسكرة السلام ولدت برتا فيليسي صوفي فون ساتنر، كونتيسة كينسكي، في العام 1843 في براغ. نشأت على التقاليد العسكرية الصارمة التي كانت سائدة في المجتمع الأرستوقراطي في تلك الفترة. درست الموسيقى واللغات ونمّت ثقافتها الأدبية والاجتماعية قراءة وسفراً في كل أرجاء أوروبا. رفضت الالتزام بالزواج في عمر مبكر كما كان يحصل في تلك الفترة، بل قررت الاستقلال المادي عن والدتها في الثلاثين من عمرها، والعمل في فيينا في عائلة ساتنر... حيث التقت زوجها المستقبلي البارون ارثور فون ساتنر. سافرت بعد ثلاث سنوات إلى باريس لتعمل سكريترة لألفرد نوبل. ثم عادت مسرعة إلى فيينا لتتزوج من ارثور. إلا أن الزواج أثار سخط العائلة، ما اضطر الثنائي الشاب إلى التوجه فوراً نحو القوقاز حيث عاشا طوال تسعة أعوام بموازنة مالية محدودة جداً، معلمينّ اللغات تارة وكاتبين المقالات الصحافية العديدة. لم يعودا إلى فيينا إلا في العام 1885، حيث راحت برتا تكتب قصصاً قصيرة وطويلة عدة. وتورطت اكثر فاكثر في الميدان الأدبي والثقافي إلى حين اطلقا على نشاطات جمعية السلام والتحكيم التي أخذت مقراً لها في لندن وباتت لها فروع عدة في أنحاء أوروبا. اختارت برتا وزوجها العمل مع هذه الجمعية التي كانت تمثل اقتناعهما التام بأن التحكيم السلمي يجب أن يحل محل السلاح في النزاعات الدولية. وسخّرت برتا قلمها لأهدافها الإنسانية، كاتبة الكتاب تلو الآخر في هذا المنحى. فكانت تصف تارة مأساة بطلة عانت من عنف الحرب، وطوراً تفنّد الأفكار السلمية وفوائدها. وكانت تحضر الاجتماع أو المؤتمر الدولي تلو الآخر، وتراسل المعنيين في كل أنحاء العالم وتجنّد المتطوّعين... شرط أن يكون محور كل حدث وموضوعه السلام فقط. لم تلبث برتا أن أسست "التجمع النمسوي للسلام" التي أصبحت رئيسته. كما حضرت أول مؤتمر للسلام في العام 1891 وبدأت تجمع الأموال لتأسيس مكتب "برن" للسلام. بعدها، أسست صحيفة خاصة بالشؤون السلمية وبقيت رئيسة تحريرها لفترة سبع سنوات متتالية، قبل أن تسلمها لمعاونيها وتكتب فيها في شكل منتظم. وبقيت في تلك الفترة على اتصال مباشر بألفرد نوبل، واعدة إياه بإطلاعه على كل جديد في مجال حركة السلام العالمية. أرسل إليها نوبل رسالة في العام 1893، أطلعها فيها على أنه ينوي تخصيص جائزة للسلام... إلا أن الموت فاجأه في العام 1896 قبل أن يستطيع منحها الجائزة. وبقيت برتا في ما بعد تعمل مع زوجها لترسيخ حركة السلام الدولية لا سيما مؤتمر السلام في لاهاي بعد ثلاثة أعوام. ولم يثنها موت زوجها في العام 1902 عن الاستمرار في المسيرة وحيدة. ولما نالت جائزة نوبل الأولى للسلام في العام 1905، كانت أصبحت تعيش في شبه عزلة، لا تكتب سوى عن السلام ولا تعمل من بعيد سوى من اجله. فعادت بقوة إلى الساحة السياسية مشتركة في إنشاء لجنة الصداقة الألمانية - البريطانية ومحذرة من عسكرة الصين ومن استعمال الطيران لغايات عسكرية. وأرست تقليد مؤتمر السلام في لاهاي، ملقية كلمة تاريخية في مؤتمر السلام في لندن العام 1908 مرددة مراراً "ان اوروبا واحدة" بعدما رأت كارثة الحرب العالمية الأولى تقترب منها. ولما رأت أن الخطر بات وشيكاً، لم تتردد في التوجه في جولة شاملة إلى الولاياتالمتحدة العام 1912، على رغم كونها في السبعين. ولم يلبث السرطان أن تفشى في كل جسمها. ففارقت الحياة في حزيران يونيو من العام 1914، أي بعد شهرين على اندلاع الحرب التي طالما حذّرت من وقوعها. أحرق جثمانها كما طلبت وبقي رمادها في "الكولومباريوم" بعدما نسفت الحرب كل جهودها لبرامج حركة السلام في مجلس الشيوخ في فيينا... كما التمثال الذي كان مقرراً تشييده لها في العاصمة النمسوية تقديراً لجهودها التي ذهبت كلها أدراج الرياح. جائزة نوبل للسلام التاسعة والتسعون منحت لأول مرة لأفريقية، وللمرة الاثنتي عشرة لامرأة. وانغاري موتا ماتاي الكينية التي جمعت ثلاثة أهداف معاً: إعادة تأهيل البيئة والقضاء على الفقر والسلام العالمي. توجهت نحو المنصة الرسمية، مشرقة بزيّها التقليدي البرتقالي واللفافة من اللون نفسه التي أحاطت برأسها. وشكرت اللجنة باسم كينيا وأفريقيا، هي التي اطلقت شعار"الأشجار من اجل الديمقراطية"، مطلقة حركة "الحزام الأخضر" التي قضت بزرع اكثر من ثلاثين مليون شجرة في أنحاء افريقيا للمحافظة على الغابات فيها. ولدت في العام 1940 في ريف كينيا. تتذكر لما كانت صغيرة تتوجه إلى الجدول قرب المنزل لتنقل مياه الشفة لوالدتها، فكانت تشرب مباشرة منه من دون خوف من تلوث أو أوساخ، محاولة التقاط الضفادع الصغيرة... فيما الجدول اختفى كلياً اليوم والضفادع كادت أن تكون من الأصناف شبه المنقرضة. لذا، نشأت ماتاي لترى بأم عينيها ثروات بلادها وأفريقيا تهدر. فالاستعمار البريطاني والمزارعون الكينيون قضوا في خلال 150 عاماً على 75 في المئة من غابات كينيا. انكبت على دراسة العلوم البيولوجية، والتحقت بجامعة نيروبي حيث تخرجت حاملة إجازة في علم النبات قبل أن تتوجه إلى الولاياتالمتحدة لتقديم الدكتوراه في هذا الميدان. بدأت تعمل محاضرة في الجامعة فيما اشتركت في تأسيس الحركة النسائية الكينية وترأست المؤتمر الوطني النسائي في كينيا طوال ستة أعوام. أسست في ثمانينات القرن الفائت حركة "الحزام الأخضر" التي أخذت على عاتقها حماية البيئة بأي ثمن. وما لبثت أن انتشرت في كل أنحاء أفريقيا بسرعة أدهشتها شخصياً: من تانزانيا واوغندا ومالاوي وليسوتو وأثيوبيا إلى زمبابوي وغيرها... كلها ضمت فروعاً للحركة، خصوصاً أن وانغاري أطلقت مبدأ "قليل من المال مقابل زراعة شجرة". ذاع صيت وانغاري في كل زاوية من أفريقيا. وبدأت تنشط في حقل الدفاع عن حقوق الإنسان، تاركة جانباً مهنة التعليم التي تعشقها لتنصرف كلياً إلى حربها البيئية التي استمرت 24 عاماً ضد الرئيس الكيني قبل أن يخسر منصبه في الانتخابات العام 2002. لم يثنها أي تهديد أو تهويل عن أهدافها. سجنت، ضربت، هددت... من دون جدوى، لا بل نظمت تظاهرات أجبرت الرئيس الكيني في العام 1989 على التراجع عن قراره ببناء مجمع تجاري من اثنتين وستين طبقة في داخل محمية نيروبي. ولم تتراجع عن موقفها بعد عشرة أعوام، لما انهال عليها بالضرب حراس الأمن في خلال تظاهرة نظمتها للحؤول دون بيع غابة بالقرب من العاصمة الكينية. عندما أصبح لكينيا رئيس جديد، عينت وانغاري وزيرة للبيئة لتكمل رسمياً مشوارها البيئي الذي توجته بجائزة نوبل. الا انها لم تنم على إكليل غارها بل أكدت أن العالم يواجه تحدياً يدعوه إلى تبديل جذري كي تتوقف البشرية عن تهديد نظامها الغذائي والبيئي. فالجميع مدعوون إلى مساعدة الأرض على الشفاء من جروحها... وعلى شفاء أنفسهم من جروحهم أيضاً.