اذا كان اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري رسخ مناخات التصعيد بين المعارضة اللبنانية من جهة والحكومتين اللبنانية والسورية من جهة اخرى فإنه اطلق امس مقدمات تصعيد اقليمي تجلى في استدعاء واشنطن سفيرها في دمشق للتشاور والتحرك الفرنسي النشط في مجلس الامن الذي انشغل بصوغ بيان رئاسي حول العمل"الارهابي"الذي كانت بيروت مسرحاً له. ويشيّع لبنان الحريري اليوم، في مأتم أرادته عائلته شعبياً حاشداً، لا رسمياً، وسط هياج شعبي لمناصريه ومريديه ضد السلطة، كذلك لجمهور القوى السياسية المعارضة التي رفضت مشاركة رموز الحكومة في الجنازة. وقد ظهر هذا الهياج في تظاهرات متفرقة في بيروت، وفي صيدا وفي الشمال حيث قُطعت الطرقات، وفي البقاع أيضاً حيث سدّت الاطارات المشتعلة الطريق نحو الحدود اللبنانية - السورية ليل أول من أمس. وشهدت التظاهرات هتافات ضد السلطة اللبنانية وسورية. وسيدفن الى جانب الحريري في باحة جامع محمد الأمين في وسط بيروت في ساحة الشهداء مرافقوه الثمانية الذين قضوا معه، ولم يتم التعرّف الى اشلاء اثنين منهم الا امس، وهما يحيى العرب وطلال ناصر اللذان كانا يلازمان الحريري كظله. وازدادت فصول المأساة بإشاعة أنباء عن ان وضع الوزير السابق النائب باسل فليحان الذي كان نقل الى باريس ليل أول من أمس لمعالجته من حروق خطرة في وضع حرج جداً، فيما شهدت المناطق اللبنانية المختلفة جنازات العديد من المواطنين الابرياء الذين سقطوا في الانفجار الذي استهدف موكب الحريري بعيد ظهر الاثنين. ويشارك في الجنازة اليوم رئيس جمهورية تشيخيا ورئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، ومفوض الامن والخارجية في الاتحاد الاوروبي خافيير سولانا ومساعد وزير الخارجية الاميركي السفير وليام بيرنز، وعدد كبير من المسؤولين العرب يتقدمهم وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل. وكان موضوع مشاركة الرئيس الفرنسي جاك شيراك قيد الدرس امس في باريس، على ان ينتقل شيراك اليوم الاربعاء الى بيروت ليكون الى جانب ابناء صديقه الفقيد وزوجته نازك. وبامكان شيراك التوجه الى لبنان ليقدم تعازيه لأسرة الحريري لكن هذا التوجه كان لا يزال غير مؤكد بعد ظهر امس، لأسباب امنية. وتلقى شيراك نبأ الانفجار الذي اودى بحياة الحريري الذي تربطه به علاقة قوية، من احد اصدقائه، وسرعان ما بدأ يتابع الانباء فور انتهاء اجتماعه مع وزير الخارجية الاسرائيلي سيلفان شالوم. وتدفق المعزون أمس الى منزل الحريري، وبايع بعض التظاهرات التي أمّت المنزل نجله بهاء، فيما زار نجله سعد موقع الانفجار. وقال رداً على سؤال عمن اغتال والده، بالقول:"الأمر واضح". وكان بين المعزين نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدام الصديق الشخصي للراحل الكبير، الذي اعتبر اغتياله"زلزالاً كبيراً يتطلب تماسك اللبنانيين". ورد على سؤال عن اتهام سورية بالعملية باتهام اسرائيل،"ويجب ان نتوقع منهم الأسوأ". وشمل الاضراب الذي دعت اليه المعارضة لثلاثة أيام حداداً معظم الاراضي اللبنانية، اضافة الى اقفال المؤسسات العامة بدعوة من الحكومة. واتخذ الجيش وقوى الأمن تدابير أمنية مشددة فانتشر بكثافة في العاصمة تمهيداً للجنازة اليوم. الا أن المعارضة استمرت في تحميل المسؤولية للسلطة اللبنانية ولسورية، كما جاء في تصريحات لجنبلاط الذي قال مساء: أنصح رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس الحكومة عمر كرامي وغيرهما بألا يشاركوا في الجنازة لأنها سيرشقون بالبيض ان لم أقل بالحجارة". وعما اذا كان اتصل به لحود وغيره، أجاب:"لم يتصل بي احد، واذا اتصلوا لن أجيب". وقال ان الحريري"قال لي قبل اسبوعين انهم سيصطادونني او يصطادوك فاصطادوه هو. في لبنان نظام مجرم وارهابي، وأطالب بحماية الشعب. بالأمس حاولوا اغتيال حمادة واليوم الحريري وغداً لا أعلم". وركز جنبلاط في تصريحات عدة على المطالبة بالحماية الدولية. لكن رئيس الجمهورية اميل لحود أعلن"ان مواجهة الجريمة النكراء التي لم تستهدف شخص الرئيس الشهيد فحسب، بل لبنان كله، تتطلب وقفة مسؤولة من جميع القيادات اللبنانية، لتفويت الفرصة على الذين هدفوا من خلال جريمة التفجير، ضرب الكيان اللبناني ومسيرة الوفاق الوطني، ولن يكون ذلك الا بالترفع عن المواقف المتشنجة، ورص الصفوف، والانطلاق في حوار وطني جامع لانقاذ لبنان من المؤامرات". وأضاف:"ان الهيكل اللبناني يضم الجميع من دون استثناء وأي هزة يتعرض لها تصيب الجميع ووحده الحوار الوطني الهادئ والمسؤول والوحدة والتضامن يجعله يتخطى هذا الامتحان". وناشد"لقاء قرنة شهوان"في اجتماع استثنائي المجتمع الدولي مساعدة لبنان"كبلد أسير القبضة السورية خاصة ان السلطة اللبنانية - السورية لا تتوانى عن استعمال اشد الوسائل عنفاً وارهاباً في كل مرة يحاول فيها اللبنانيون الامساك بمصيرهم الوطني والتوحد طلباً لاستعادة وطنهم حراً مستقلاً. وطالب بفتح تحقيق دولي فوري بالجريمة التي رأى انها"ينطبق عليها مفهوم الجريمة ضد الانسانية". وتوجه بنداء عاجل الى المجتمع الدولي طالباً العمل لدى مجلس الأمن"لإحالة هذه القضية على المحكمة الجنائية الدولية تطبيقاً لأحكام نظامها". وكرر"تحميل السلطة اللبنانية وسلطة الوصاية السورية مسؤولية الجريمة مطالباً"برحيل هذه السلطة وقيام حكومة انتقالية تتولى الاشراف على الخروج الكامل للجيش السوري من لبنان والاعداد بعد ذلك للانتخابات النيابية الحرة والنزيهة"، داعيا جميع اللبنانيين الى المشاركة الكثيفة اليوم في مسيرة"وداع الشريك الشجاع في معركة استعادة استقلال لبنان وسيادته". في المقابل، رفض وزراء الداخلية سليمان فرنجية والعدل عدنان عضوم والاعلام ايلي الفرزلي الاتهامات للسلطة ولسورية وتحميلها مسؤولية اغتيال الحريري. وعقد الثلاثة مؤتمراً صحافياً. وقال فرنجية ان اغتيال الحريري"حدث وطني يطاول اطراف البلد كافة وحدث اقليمي"، مرجحاً ان يكون"انتحاري"نفذ الجريمة. ورأى ان هناك مسؤولية تقع على عاتق عائلته، معتبراً ان"هذا هو الامتحان الاول لوريثه الشيخ بهاء كي يثبت قدرته على ادراة اللعبة"، وناصحاً اياه"بعدم انهاء مستقبله السياسي بأخذ موقف سلبي من نصف اللبنانيين". يقصد الموالاة ورفض فرنجية تحقيقاً دولياً في عملية الاغتيال كذلك عضوم وأبديا استعداداً للقبول بخبراء من الخارج في التحقيقات ولكن من دول حيادية. وكان للأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصرالله موقف لافت امس، اذ أعلن ان ظروفاً مرت كان يلتقي فيها الحريري مرة في الاسبوع وأحياناً مرتين"والشهود على الجلسات موجودون". ورأى ان الحريري"كان يشكل الجسر الوحيد الصلب بين الموالاة والمعارضة"وأنه ابلغه"في آخر اجتماع بيننا ان الاتحاد الاوروبي لن يضع الحزب على لائحة الارهاب"، في اشارة الى جهود الحريري مع فرنسا في هذا الصدد. وركز نصرالله على اهمية دور الحريري في اتفاق الطائف. واشنطن تلوح ب"اجراءات"ضد دمشق وبأعلانها امس قرار استدعاء سفيرتها لدى دمشق، اقتربت واشنطن من توجيه اتهام مباشر لسورية بالضلوع في تصفية رئيس الوزراء اللبناني السابق. وقال مسؤول في وزارة الخارجية الاميركية إن الادارة استدعت السفيرة سكوبي"للتشاور حول الخطوات التي يتوجب علينا اتخاذها"في اعقاب اغتيال الحريري، فيما قال الناطق بإسم الوزارة ريتشارد باوتشر ان الخطوة الاميركية تعكس"الغضب العميق"ازاء التطورات الاخيرة. وجاءت الخطوة الاميركية التصعيدية بعدما دان الرئيس جورج بوش بقوة حادثة الاغتيال واعلن البيت الابيض عن مشاورات مع حكومات في الشرق الاوسط واعضاء في مجلس الامن"للبحث في الاجراءات التي يمكن اتخاذها لمعاقبة المسؤولين عن هذا العمل الارهابي، وانهاء عملية استخدام العنف ضج الشعب اللبناني واستعادة استقلال وسيادة وديموقراطية لبنان، بتحريره من الاحتلال الاجنبي". ونقلت وكالات الانباء عن مسؤول كبير في الادارة قوله إن واشنطن"تعيد النظر بكل الخيارات الديبلوماسية، بما فيها فرض عقوبات اضافية في اطار قانون محاسبة سورية". وفيما امتنع مسؤولون اميركيون عن تأييد او رفض دعوة الرئيس الفرنسي جاك شيراك الى فتح تحقيق دولي في حادثة اغتيال الحريري، لمح مسؤول في البيت الابيض الى ان الادارة الاميركية تحمل سورية مسؤولية ما جرى وانها قد لا تنتظر نتائج تحقيق دولي لإتخاذ اجراءات بحق دمشق لم يحدد طبيعتها. الى ذلك، قال مسؤول كبير في وزارة الدفاع ل"الحياة"ان القيادة العسكرية الاميركية في العراق تملك"ضوءاً اخضر، متى استدعت الحاجة، للقيام بعمليات عسكرية محدودة داخل الاراضي السورية لملاحقة وضرب مسؤولين بعثيين عراقيين يديرون عمليات تمرد"في العراق، ويساهمون في تجنيد ارهابيين للقيام بعمليات ضد الحكومة العراقية وقوات التحالف. واوضح ان القيادة العسكرية"لا تحتاج الى الاستئذان من واشنطن لتنفيذ عمليات من هذا النوع". دمشق تتمسك بالحوار وتتريث ب"خطوة مماثلة" وفي دمشق، قالت مصادر مطلعة ل"الحياة"ان السفيرة الأميركية مارغريت سكوبي زارت بعد ظهر أمس نائب وزير الخارجية وليد المعلم لابلاغه"رسالة"تتضمن قرار الإدارة الأميركية استدعائها الى واشنطن ل"التشاور". وسئلت المصادر اذا كانت دمشق ستطلب السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى وفق مبدأ التعامل بالمثل، فقالت ان الحكومة السورية"تدرس كل الاحتمالات لكنها متمسكة بالحوار السياسي للبحث عن نقاط مشتركة وعدم التصعيد في هذه المرحلة الحرجة والتريث بأي خطوة مقبلة"، قبل أن تشير الى ان سكوبي"استدعيت للتشاور ولم يتم قطع العلاقات الديبلوماسية أو خفضها"، وان الرئيس جورج بوش حرص على إبقاء أقنية الحوار مفتوحة لدى فرضه"قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان"في أيار مايو الماضي.