ليست الصين وموقفها من قضية فلسطين هي ما انا بصدد الكتابة عنه. كان للزعيم الصيني شو ان لاي عبارة شهيرة هي ان الصين لن تعترف باسرائيل قبل فلسطين ولكن كل شيء قابل للتغيير. اثار مقال د. مصطفى الفقي عن الهند والقضية الفلسطينية... خطيئة عربية الحياة 25/1 رغبتي في التعقيب عليه، وبداية اقول ان مياهاً كثيرة جرت في العلاقات الهندية - العربية وانه لا فائدة من البكاء على اللبن المسكوب وان كنا نستحق الكثير من اللوم على التفريط بالهند وخسارتها. الهند والعرب كانا مشروعين عملاقين للاستقلال والتنمية، وقد اكملت الهند مشروعها، اما نحن فتراجعنا واصبحنا في حال يرثى لها. وكديبلوماسي عمل سفيراً للجامعة العربية في الهند في الفترة من 1991 حتى 1995 كنت شاهدا على التحول الهندي نحو اسرائيل، لكني لست الأقدر على الكتابة عنه اذ ان سفير فلسطين السابق في الهند د. خالد الشيخ سيكون بالقطع اقدر مني على رصد هذا التحول المهم. بدأ التحول الهندي بتصويت الهند في العام 1991 في الجمعية العامة للامم المتحدة مع الغاء قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية، وعندما تحرك السلك الديبلوماسي العربي لدى وزارة الخارجية الهندية لاثناءها عن التصويت قيل لنا: سبق السيف العذل، لقد تأخرتم. سبقكم الاوروبيون بقيادة ايطاليا رئيسة المجموعة الاوروبية لحثّنا على التصويت. لم يقل الدبلوماسي الهندي شيئاً عن الدور الاميركي الذي كان بالقطع انشط من شقيقه الاوروبي. وفي شباط فبراير 1992 تم الاعلان عن اقامة علاقات ديبلوماسية كاملة بين نيودلهي وتل ابيب، وأصرت اسرائيل على تضمين كلمة "كاملة"في الاعلان. وبعد هذا الاعلان زار الرئيس الراحل عرفاتنيودلهي واجتمع برئيس الوزراء الهندي السابق الراحل نارسميها راو توفي في 2004/12/23 وقد اظهرهما التلفزيون الهندي وحدهما جالسين في حديقة على كرسيين من الخيزران. وعلم السلك الديبلوماسي العربي بان السيد راو قال للرئيس عرفات ان الولاياتالمتحدة لم تمارس فقط ضغوطها على الهند لاقامة علاقات ديبلوماسية كاملة مع اسرائيل بل هددت بخلق متاعب للحكومة الهندية قد يكون من بينها تشجيع نزعات انفصالية، اي الاسهام في القضاء على النظام الاتحادي الهندي القائم على العلمانية وتفتيت الهند. وأمام هذا الخطر المحدق بالهند الشقيقة، الصديقة، لم يرد الرئيس عرفات ان تكون قضية فلسطين سبباً في تقسيم الهند او اثارة متاعب لها. اي انه لم يعترض على اقامة علاقات مع اسرائيل لكن بعض تصرفات الرئيس عرفات خلال الزيارة اوضحت انه لم يكن سعيداً بالقرار الهندي. وفي الشهر نفسه، بعد اقامة العلاقات مع اسرائيل، زار الامين العام السابق للجامعة العربية د. عصمت عبد المجيد الهند وكان رأي مجلس السفراء العرب في نيودلهي ان يؤخر زيارته قليلاً لئلا تفسر بأن العرب يؤيدون انفتاح الهند نحو اسرائيل واقامة علاقات طبيعية معها، لكن د. عبد المجيد رأى المضي قدماً في الزيارة التي تم الترتيب لها قبيل التحول الهندي نحو اسرائيل. وكان من المفيد ان يتشاور مع الدول العربية بشأنها. لكن الدول العربية باستثناء الجزائر لم تعبر عن موقف معارض للزيارة، والموقف الجزائري لم يكن في الواقع علنياً وانما تلقت سفارة الجزائر في نيودلهي برقية تعبر عن ألم وصدمة الجزائريين لأمر كان خارج الحسبان. وخلال الزيارة القى د. عبد المجيد محاضرة في مركز الهند الدولي انتقد فيها الفلسطينيين لاعتراضهم على كامب ديفيد وعدم حضورهم اجتماع فندق مينا هاوس، فردّ عليه سفير فلسطين، الذي لاحظ فيما بعد ان د. عبد المجيد لم يكن في ما قال يتصرف كأمين عام للجامعة العربية. اتت اسرائيل الى الهند ليس فقط منتصرة بل منتقمة أيضاً من هذه الدولة وذلك الشعب الذي انكر عليها الوجود في عاصمتها لفترة تزيد على اربعة عقود، لكن حقد اسرائيل لم يستخدم استخداماً سلبياً بل ايجابياً بحرث الارض وقلب عاليها سافلها لاقامة علاقات هندية - اسرائيلية على اسس راسخة الجذور تعتمد على المصالح وليس المواقف أو العواطف. واول ما عملته اسرائيل هو تعيين سفير يهودي مصري كان الرجل الثاني في سفارة اسرائيل في القاهرة هو السيد افرايم دويك، الذي كانت زوجته تناديه باسمه العربي ابراهيم، والذي قرأ 22 كتاباً عن الهند قبل ان تطأ اقدامه ارضها. اتى السفير دويك مع طاقم ديبلوماسي مكون من 11 شخصاً، وبدأ اتصالاته بكل الهنود على اختلاف دياناتهم وايديولوجياتهم. ومع السفير اتت الخطوط الجوية الاسرائيلية"العال"التي كانت تنقل مجاناً في كل رحلة عدداً لا بأس به من الهنود كضيوف ليتعرفوا الى اسرائيل المجهولة - المنسية. وزار اسرائيل، الطالب، والسياسي، والاعلامي، والاستاذ، والمهندس الزراعي، والطفل، ورجل المخابرات و و و... من مختلف مناطق الهند وكان بعض هؤلاء يخيرون بين العودة مباشرة الى الهند وبين المرور بأي عاصمة اوروبية ومن ثم الى الهند، على حساب اسرائيل أيضاً نفقة النقل فقط. وبدأ السفير الاسرائيلي بزيارات للمدارس والجامعات وانشأ مركزاً ثقافياً في نيودلهي ايضاً، واتفقت اسرائيل مع الهند على انشاء مركز بحوث وتنمية R&D برأس مال مشترك متساو مقداره 5 ملايين دولار. وأعلن السفير ان اسرائيل تتطلع الى علاقات تجارية مع الهند تصل الى بليون دولار عام 2000، اي بعد ثماني سنوات من اقامة العلاقات، وتحقق هذا وأكثر. في الهند لا بد ان يزور اي شخص منجّماً باعتبارها اكبر بلد يؤمن حتى كبار سياسييها بتنبؤات المنجمين، وقد كتب لي المنجم نتائج تنجيمه في ورقة مكتوب عليها معلومات ابتدائية عن اسرائيل. ولما سألته من اين لك هذه الاوراق، قال هذه من اوراق اولادي المدرسية، اي ان اسرائيل استهدفت حتى اطفال المدارس لأنها لا تريد علاقات عامة مع الهند، او علاقات فوقية بل اقناع هذا الشعب بحق اسرائيل في فلسطين. وفتحت اسرائيل سوقها للسلع الهندية، ومنها سيارة"ماروتي"الصغيرة، التي لم يفكر احد في العالم العربي بأن يستوردها لأننا مفتونون بانتاج الدول غير العالمثالثية، برغم ان هذه السيارة من انتاج شركة"سوزوكي"اليابانية. هذه السيارة كانت احدى مفاخر راجيف غاندي الذي قال اثناء زيارة له لسورية ان حرية الهند لن تكتمل الا بحرية فلسطين واستخدمت سفارة اسرائيل سيارة هندية الصنع في خدماتها، وسيارة الخدمات هي اكثر السيارات حركة ومشاهدة. لم يمر هذا التحول الهندي من دون اعتراض احزاب اليسار وكان من اقوى المعترضين السيد ماني شانكار ايار النائب في البرلمان عن حزب المؤتمر الحاكم، الذي قال أن دولة اليهود يجب ان تقام في نيويورك وليس في فلسطين السيد ايار وزير في حكومة المؤتمر الحالية برئاسة السيد مان موهان سنج. وللغرابة فإن المسلمين صمتوا بل تم رصدهم وهم يحضرون"عيد استقلال اسرائيل". سفير اسرائيل لم يحاول ان يتصرف تصرفاً استفزازياً قد ينتقد عليه ويصعّب مهمته بل كان يردد دائماً اننا مهتمون بالاستماع الى وجهة النظر الهندية حول القضية الفلسطينية والاستفادة منها. وهو يعلم ان المهاتما غاندي قال عندما طلبت منه الحركة الصهيونية الاعتراف بأهدافها وسياساتها في فلسطين"ان فلسطين للفلسطينيين مثلما ان انكلترا للانكليز وفرنسا للفرنسيين". ان مقال الدكتور الفقي يثير اسئلة كثيرة وعواطف وآمالاً ولكن بصراحة اقول ان فاقد الشيء لا يعطيه. وسافصل قليلاً: 1 - اننا كعرب يجب اولاً ان نحترم الشعب الهندي وان نتوقف عن التعالي عليه. 2 - ان نهتم بالهند، كجارة وكدولة كبيرة، وان يكون وجودنا فيها غير قاصر على التمثيل الديبلوماسي وحده. وان تكون لنا مراكز ثقافية في نيودلهي وحيدر اباد وبومباي ومدراس وكلكتا وكيرالا وغيرها، وان نشجع تفاعل واندماج مسلمي الهند وان نتوقف عن دعم التعليم الذي يسهم في عزلهم عن محيطهم ويحول دون التحاقهم بمستويات تعليمية أعلى ويبقيهم عمالاً يدويين او اصحاب حرف تقليدية. ان هذا من اسباب عدم وجود اعداد مناسبة من المسلمين في الجامعات 1$ في كلية الهندسة في نيودلهي والجيش 2 $ الخ... 3 - ان نتعامل مع الهندوباكستان وفق منطق المصالح وليس من باب الدين وحده. فالكشميريون يستحقون تأييدنا وتعاطفنا، لكن علينا ان نشجعهم على أن يبقوا ضمن الاتحاد الهندي وان نحض الهند على اعطائهم حكماً ذاتياً واسع الصلاحيات من سماته ان يكون لديهم رئيس وزراء، وليس كبير وزراء وعلم وان يقلص عدد غير الكشميريين في الخدمة المدنية والجيش والامن العاملين في كشمير، لعدم وجود اجماع كشميري على الانفصال ولان مصالح الكشميريين الحقيقية هي مع الهند، فهي سوقهم الكبير، وهي ديموقراطية، والآخر العسكري لم يقدم نموذجاً يشجعهم على ان يكونوا جزءاً منه حتى في الجزء الذي يحتله. وهنا لا بد من مراجعة لعلاقاتنا مع باكستان التي اوصلتنا الى كوارث في افغانستانونيويورك وواشنطن وقد يأتي وقت نرى وجهاً آخر ل9/11 لدورها في انهاء الزعم الباكستاني بأن الباكستانيين هم اصحاب الدين الاسلامي الحق وانهم حملة شعلة الاسلام الجدد. لقد تنازلت باكستان عن جزء من كشمير للصين، فلماذا نكون باكستانيين اكثر منها. اننا في الواقع بحاجة الى تخفيف دور الدين في السياسة الخارجية. وأذكر ان سفير دولة عربية كبيرة قال لبعض زملائه بعد توديعه لرئيس جمهورية الهند، بأن الدين ليس العامل الوحيد في السياسة الخارجية لبلاده. وهذا صحيح لأن المصالح وعلاقات الدول لا تنبع كلها من الدين. ولقد طالب د. تركي الحمد قبل الدكتور الفقي وآخرين كثيرين بعدم تديين السياسة وقال آخرون بعدم تسييس الدين ايضاً. وهناك سؤال ملح ومهم: لماذا نكون علمانيين مع اميركا ومع غيرها نرتدي قناعاً او اقنعة أخرى. 4- طالب الدكتور الفقي بتوظيف قدراتنا الحقيقية في العلاقات مع الهند. وملاحظتي عليه اننا لا نملك الكثير من القدرات، مثلاً: ما الذي يمكن لنا ونحن لا نجد ما نتاجر به مع بعضنا بعضاً ان نصدره الى الهند من تكنولوجيا. أي معرفة يمكن للهند ان تستفيدها منا، وأي سلاح يمكن ان تشتريه منا. لقد ذهبت الهند الى اسرائيل لتطوير طائرات الميغ او نظامها الصاروخي او بناء سور الكتروني في كشمير لأن لدى اسرائيل القدرة على ذلك. اسرائيل لديها ما تعطيه وما تأخذه من الهند. 5- ان التحول في السياسة الهندية اصبح اقوى في عهد حكومة الحزب الشعبي الهندوسي بي جي بي الطائفي الذي كان مع منظمات شبيهة اخرى على علاقة باسرائيل والمنظمات الصهيونية الدولية منذ عقود طويلة، وكان من المطالبين باقامة علاقات مع اسرائيل. والذي استقبل شارون هو رئيس الوزراء فاجباي زعيم هذا الحزب الذي خسر السلطة في ايار مايو الماضي، وفي عهد هذا الحزب تعمق التحول في الموقف الهندي وتغير تصويت الهند في الاممالمتحدة في بعض جوانب الصراع العربي - الاسرائيلي بتغيب الهند عن التصويت بعدما كانت من اكبر المدافعين عن حقوقهم انسجاماً مع موقفها عام 1947 عندما عارضت تقسيم فلسطين الى دولتين للعرب واليهود. وما قاله السيد ميشرا مستشار الامن القومي في العام 2003 للدكتور الفقي عن استمرار تأييد الهندلفلسطين لم يكن كله صائباً، فالسيد ميشرا كان احد مهندسي العلاقات الهندية - الاسرائيلية ومن اقطاب حزب ال"بي جي بي". واثناء زيارة د. عصمت عبد المجيد لنيودلهي الآنفة الذكر سأله السيد ميشرا ان"تأييدنا لقضية فلسطين لا يقل عن تأييد باكستان فلماذا تسموننا اصدقاء والباكستانيين اشقاء؟". ان الدرس الهندي مؤلم لكن اصرارنا على ان نبقى متخلفين وخائفين من ان يكون لدينا اقتصاد صناعي واقتصاد عربي متكامل وطبقة متوسطة وثقافة جديدة، نستورد ولا نصنع واذا صنعنا فان من يعمل في هذه الصناعة هم عمال مستوردون سرعان ما يرحلون ويستبدلون، ادى ليس فقط الى ان نفقد اصدقاء وحلفاء بل الى اننا لا نجد شيئاً نقايض به مع الاصدقاء او ننافس به اسرئيل ذات الستة والخمسين عاماً من العمر، في اي مجال من المجالات. ولهذا ايضاً تزداد تدعيتنا للغير ونخسر ما تبقى من فلسطين، ولهذا تم استهداف العراق. ان العلاقات مع اسرائيل بالنسبة الى الهند اصبحت مصلحة وطنية والهنود حتى في علاقاتهم الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي كانوا ينظرون الى مصالحهم اولاً. فالهند دولة اقليمية عظمى وقريباً ستكون لاعباً دولياً كبيراً، ولا مبرر للخوف منها في الخليج لأن استراتيجيتها فيه مستقلة عن الاستراتيجية الاميركية، طالما ان الخليج سيظل شركة ثلاثية اصحابها هم العرب والغرب والهنود. والهند الآن تُحكم من جانب حزب المؤتمر وقد اعلن رئيس وزرائها مانموهان سنج فور توليه السلطة في أيار 2004 انه حريص على تنمية علاقات الهند مع الدول العربية، لكن الفجوة بيننا وبين الهند تكبر، وما لم نهتم بالصناعة وبالديموقراطية فسنظل وراءها، ولن يجد رئيس وزراء الهند من يستجيب لندائه. رئيس مكتب جامعة الدول العربية في لندن. والمقال يعبر عن رأي صاحبه.