كلما قارنتُ بين موقف الهند من القضية الفلسطينية عندما كنت أعمل مستشاراً للسفارة المصرية في نيودلهي منذ ربع قرن من الزمان وبين موقفها الحالي رددت بيني وبين نفسي كم تغيرت الدنيا وتبدلت الأحوال!.. فعندما كنت أعمل في نيودلهي في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كانت الهند داعماً رئيساً للقضية الفلسطينية وعندما كنا نتحدث عن احتمال قيام علاقات ديبلوماسية بين الهند وإسرائيل كنا نتلقى استهجاناً هندياً لسخافة الفكرة واستبعاداً تلقائياً لها. وأذكر أنني رصدت ذات مرة زيارة لرئيسة وزراء الهند الراحلة انديرا غاندي لتجمع من الهنود اليهود في مدينة مومباي وكتبت تعليقاً عليها مقالاً يدور حول مستقبل العلاقات بين الدولة الهندية والدولة العبرية في مجلة"السياسة الدولية"التي تصدر في القاهرة فإذا السفير الهندي في العاصمة المصرية يتقدم باحتجاج رسمي لدى وزارة الخارجية لمجرد التجرؤ بالشك في أن الهند ستتجه يوماً ما لتعزيز علاقاتها مع إسرائيل، وها هي الآن العلاقات بين نيودلهي وإسرائيل تمضي في تنسيق استراتيجي وبمنحنى متصاعد في ظل ظروف دولية ملتبهة وحرب مشتركة على ما يسمى بالإرهاب الى جانب النجاح الذي حققته الدولتان في وصف المقاومة الفلسطينية والتمرد الكشميري بأنهما نوعان من العنف الإرهابي وليس المقاومة الوطنية، كذلك فإن التنسيق العسكري بين الهند وإسرائيل وتبادل الخبرات بينهما في المجالات المختلفة بما في ذلك الميدان النووي أصبح بمثابة علامة واضحة في هذا الشأن. ولكن السؤال المطروح هو هل اندفعت الهند طواعية تجاه الدولة التي تحتل أراضي فلسطينية وعربية حتى استقبلت العاصمة الهندية رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في زيارة متميزة، بينما تبدو لكل من الدولتين أجندة ذات أهداف محددة عن الطرف الآخر، فالهند تتطلع إلى التكنولوجيا الأميركية والإسرائيلية خصوصاً في ميدان تطوير السلاح، بينما تتطلع إسرائيل الى الدعم السياسي لدولة كبرى بحجم الهند الى جانب الرقابة المشتركة بينهما للبرنامج النووي في كل من إيرانوباكستان؟. والآن دعونا نبحث في أسباب ذلك التحول ودوافع ذلك التغيير من خلال فحص النقاط التالية: - أولا: إن المسؤولية الأساسية تقع على كاهلنا من خلال النظر للصراع الهندي - الباكستاني من منظور ديني ومحاولة"أسلمة"النزاع في جنوب آسيا حتى تصورنا أنفسنا حماة للإسلام وأوصياء على المجتمع الدولي الكبير، واندفعنا في تجاهل عفوي للدور الهندي إقليمياً حتى أن زيارات القادة العرب للعاصمة الهندية انخفض معدلها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. - ثانياً: لعلنا نتذكر الآن ما حدث عندما تقدمت الهند بطلب عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي، إذ أن تلك الدولة الضخمة تضم في شعبها آكثر من مئة وعشرين مليون مسلم فإذا الدول الإسلامية - في سذاجة معتادة - ترفض المطلب الهندي تصوراً منها أن ذلك يكون إرضاءً لباكستان أو عقوبة للهند بينما كان الأوفق هو أن يتم احتواء ذلك البلد الكبير من خلال عضوية تلك المنظمة حتى لا تندفع نيودلهي لمزيد من العلاقات الوثيقة مع دولة إسرائيل. بل إنني أظن أن التقارب العربي - الهندي كان يمكن أن يؤدي الى تخفيف الضغوط على باكستان وليس العكس، كما أن محاولة تديين الصراع بين الدولتين الجارتين لا يعبر عن حكمة سياسية أو وعي عربي. - ثالثاً: إن الهند التي كانت وثيقة العلاقة بالاتحاد السوفياتي السابق ودائمة الانتقاد للسياسات الأميركية في سنوات الحرب الباردة تحت مظلة قيادتها لحركة عدم الانحياز هي حالياً الهند الأخرى التي قطعت شوطاً كبيراً في التقارب مع الولاياتالمتحدة الأميركية تحت إلحاح رغبة سياسية وحاجة تكنولوجية في الوقت نفسه. ولعل التفوق الهندي الكاسح خلال السنوات الأخيرة في مجال تكنولوجيا المعلومات هو خير دليل على ذلك، ونحن لا ننسى أن باكستان كانت هي الحليف التقليدي للولايات المتحدة الأميركية والشريك الأساسي في سياسة الأحلاف في المنطقة فإذا الهند تأخذ المبادرة وتحتل الموقع الباكستاني لدى واشنطن. بل إنني أزعم - وأرجو ألا أكون واهماً - أن الهند مرشحة لأن تلعب دوراً يقترب من دور الشرطي في منطقة المحيط الهندي وأطراف الخليج العربي بمباركة أميركية تستهدف تطويق العنف الإسلامي كما يسمونه، وهو أمر يتسق ايضاً مع الأجندة الإسرائيلية ولا يتعارض مع التطلعات الجديدة للسيطرة المشتركة على شرق أوسط كبير. - رابعاً: لقد حرصت بعض الدول العربية على تبني موقف متوازن تجاه الصراع في جنوب آسيا ومازلنا نذكر أن مصر عبد الناصر كانت قريبة من الهند على نحو حال بين الأخيرة وبين الاندفاع نحو الدولة العبرية بل إنه أدى إلى حماس هندي قديم لدعم الشعب الفلسطيني وقيادته، ولست أنسى أن سفير فلسطين في نيودلهي كان يستطيع في تلك الأيام الخوالي أن يقابل رئيسة الوزراء في أي وقت ولكن تنامي الظاهرة الإسلامية من ناحية وتلوين بعض السياسات العربية بألوان دينية من ناحية أخرى أدى إلى درجة واضحة من الشكوك الهندية تجاه العالمين العربي والإسلامي كما أن حركة الديبلوماسية العربية في الهند بدت ضعيفة في العقدين الأخيرين. - خامساً: إن الهنود يمثلون أمة عملية وذكية ولا يختلفون عن جيرانهم الباكتسانيين في المهارات والكفاءات والخبرات لذلك فإن الحرص على علاقات متوازنة بهما هو أمر ندعو إليه ونحرص عليه ولا نقبل التفريط فيه خصوصاً أن الدولتين نوويتان كما أن رصيدهما كبير لدى دول المشرق العربي والشمال الافريقي ويجب أن تكون العلاقة بهما إضافة ايجابية وليست خصماً سلبياً خصوصاً في هذه الظروف الدولية الاستثنائية. إننا نريد أن نقول بصراحة إننا خسرنا الهند حتى الآن لأسباب واهية ولم ننجح في توظيف قدراتنا الحقيقية من أجل توثيق العلاقة بدولة متقدمة صناعياً موجودة نووياً ناجحة فضائياً متميزة تكنولوجياً فضلاً عن التشابه السكاني الذي يربط بين شبه القارة الهندية بما فيها باكستان وبنغلاديش وبين الخصائص السكانية لشعوب المنطقة العربية. ولقد حان الوقت الذي يجب أن نصحح فيه المسار وأن نجعل الدول العربية أقرب إلى الهندوالباكستان معاً منها الى الابتعاد عنهما او اللعب على الخلاف بينهما وما زلت أظن عن يقين أن التحول في الموقف الهندي تجاه القضية الفلسطينية هو خطيئة عربية بكل المعايير. لقد تذكرت ذلك عندما التقاني في مطلع عام 2003 مستشار الأمن القومي الهندي اثناء زيارة برلمانية للعاصمة الهندية التي عدتُ إليها بعد غيبة زادت على عشرين عاماً، يومها قال لي المسؤول الهندي الكبير وهو ديبلوماسي متمرس إن بلاده تعطي للحقوق الفلسطينية المشروعة مكانها برغم علاقتها الوثيقة بالدولة العبرية"لذلك فإنني أقول إن جامعة الدول العربية وكان أمينها العام الحالي سفيراً مرموقاً لبلاده في العاصمة الهندية يجب أن تقود حركة عربية ايجابية تجاه الهند بحيث تعيد التوازن المفقود وتسترد الصداقة الغائبة وتجعل العلاقة بين الأمتين العربية والهندية في صورتها الطبيعية مع الاحتفاظ بكل الوشائج والصلات بدولة باكستان الشقيقة. * ملاحظة وتعقيب: اختلف معنا البعض فيما ذكرناه حول أهمية إدماج العقلية العربية في العقل العالمي المعاصر ورأى في ذلك عدواناً على الهوية وانتقاصاً من الشخصية القومية بينما نراه نحن محاولة جادة للخروج من المأزق في إطار الإصلاح الشامل الذي تسعى إليه دول المنطقة نابعاً من ذاتها ومعبراً عن إرادتها. ويجب أن نتذكر في هذا السياق أن هناك فارقاً بين منطق المراجعة الشاملة الذي يجعل عملية التحول جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الكلية للإصلاح وبين التنازلات غير المحسوبة التي تؤدي أحياناً الى شعور عام بالضعف أمام الضغوط والاستجابة لإملاءات الغير وهو أمر لا نقبله ولا نتحمس له، فإلى كل الأشقاء والأصدقاء من مختلف شرائح القراء أقول بوضوح إن العزلة الدولية مستحيلة لا لأننا نستجيب لفكر العولمة فحسب ولكن لأن ذلك هو منطق التاريخ وتلك هي روح العصر وطبيعة الأشياء. كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.