كتب الشيخ عادل بن سالم الكلباني إمام الحرم المكي سابقاً عبر موقعه على الانترنت مقال عن الغناء بعنوان "تشييد البناء في إثبات حل الغناء" وذلك على خلفية الجدل الكبير الذي حدث بشأن فتواه الأخيره التي تبيح الغناء وقال الكلباني في مقالته : " الحمد لله ، أكرم جباهنا بالسجود لعظمته ، ونور قلوبنا بالإيمان به ، ومعرفته ، وأرغم أنوفنا بالتسليم لحكمته . وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، شهادة أرجو بها نيل مرضاته ، والفوز بالدرجات العلى من جنته . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، شهادة مصدق به ، متبع لسنته ، راجيا شربة هنية من حوضه ، ودخولا في شفاعته . صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحابته ، ومن سلك سبيلهم ، واتبع نهجهم ، والصالحين من أمته . وسلم تسليما . أما بعد ، فإن الله عز وجل خلق الإنسان بغريزة يميل بها إلى المستلذات والطيبات التي يجد بها في نفسه أطيب الأثر , فتسكن جوارحه وترتاح نفسه وينشرح صدره , هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها ، يميلون إلى كل ما هو جميل في الكون فيسرون برؤيته ويطربون لسماعه وبنيله تكمل لذتهم وسعادتهم . ولا جرم فإن الله تعالى جميل يحب الجمال ، وهذا ما علل به الحبيب صلى الله عليه وسلم شعور الإنسان برغبته أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، ومظهره حسنا ! وهذه الأحاسيس والمشاعر التي خلقها الله لا يمكن لأحد أن ينفك منهانينفك منها نبنبىرنتىنبحبنم , لأنها من لوازم كونه إنسانا , ومحاولة التغلب على الوجدان إنما هو مقاومة لنواميس هذا الكون وقوانين الحياة . ولعل قيام الإنسان بمهمته في هذه الحياة ما كانت لتتم على الوجه الذي لأجله خلقه الله إلا إذا كان ذا عاطفة غريزية توجهه نحو المشتهيات والمتع التي خلقه الله معه في الحياة فيأخذ منها القدر الذي يحتاجه وينفعه . ومن نظر في أحكام الشريعة الإسلامية لاح له أن الله تعالى في كل ما شرعه لم يجعل فيه ما يحارب الغرائز ، أو يطلب من الإنسان أن يخالف ما أودعه الله فيه ، وإنما جاءت النصوص بتهذيب الغريزة ، وتوجيهها ، وتقويمها ، حتى لا تطغى ، فيتحول الإنسان بهذا الطغيان إلى البهيمية ، فليس في شرع الله تعالى أن لا يستمتع الإنسان بالصوت الندي الحسن ، بل جاء فيه ما يحث عليه ويشير إليه ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : علمها بلالا ، فإنه أندى منك صوتا . وإنما عاب الله تعالى نكارة صوت الحمير ، {إن أنكر الأصوات لصوت الحمير} ، ومن المثير للتأمل أن الإشارة إلى نكارة صوت الحمار جاء في نفس السورة التي يستل منها المحرمون للغناء دليل تحريمه ! ومن غير المعقول أن يطلب الله من الإنسان بعد أن أودع فيه هذه العاطفة نزعها أو إماتتها من أصلها , وموقف الشرائع السماوية من الغرائز هو موقف الاعتدال ، لا موقف الإفراط ولا موقف التفريط , وهو موقف التنظيم لا موقف الإماتة والانتزاع . فكل صغير أو كبير ، يميل إلى سماع الصوت الحسن ، والنغمة المستلذة إنما هو نتيجة طبيعية لهذه الغريزة التي خلقها الله وأداء لحقها . وقد ذكر الأطباء منذ القدم أن الصوت الحسن يجري في الجسم مجرى الدم في العروق فيصفو له الدم وتنمو له النفس ويرتاح له القلب وتهتز له الجوارح , وتحن إلى حسن الصوت الطيور والبهائم , ولهذا يقال إن النحل أطرب الحيوان كله على الغناء , وقال الشاعر : والطير قد يسوقه للموت إصغاؤه إلى حنين الصوت وذكر الحكماء قديما أن النفس إذا حزنت خمدت نارها فإذا سمعت ما يطربها ويسرها اشتعل منها ما خمدت . فالصوت الحسن مراد السمع ، ومرتع النفس ، وربيع القلب ، ومجال الهوى ، ومسلاة الكئيب، وأنس الوحيد ، وزاد الراكب ؛ لعظم موقع الصوت الحسن من القلب ، وأخذه بمجامع النفس . وقد صح عن عمر رضي الله عنه ، أنه قال : الغناء من زاد الراكب . وكان له مغني اسمه خوات ربما غنى له في سفره حتى يطلع السحر . ويعلم كل أحد من عمر ؟ وقد تنازع الناس في الغناء منذ القدم , ولن أستطيع في رسالة كهذه أن أنهي الخلاف ، وأن أقطع النزاع ، ولكني أردت فقط الإشارة إلى أن القول بإباحته ليس بدعا من القول ، ولا شذوذا ، بل وليس خروجا على الإجماع ، إذ كيف يكون إجماع على تحريمه وكل هؤلاء القوم من العلماء الأجلاء أباحوه ؟ ومن أكبر دلائل إباحته أنه مما كان يفعل إبان نزول القرآن ، وتحت سمع وبصر الحبيب صلى الله عليه وسلم ، فأقره ، وأمر به ، وسمعه ، وحث عليه ، في الأعراس ، وفي الأعياد . ومن دلائل إباحته أيضا أنك لن تجد في كتب الإسلام ومراجعه نصا بذلك ، فلو قرأت الكتب الستة لن تجد فيها باب تحريم الغناء ، أو كراهة الغناء ، أو حكم الغناء ، وإنما يذكره الفقهاء تبعا للحديث في أحكام النكاح وما يشرع فيه ، وهكذا جاء الحديث عنه في أحكام العيدين وما يشن فيهما ، ولهذا بوب البخاري رحمه الله تعالى : باب سنة العيدين لأهل الإسلام . ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها . أعني حديث الجاريتين وغنائهما بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته . والرد على أدلة المحرمين ومناقشتها يطول ، ولكني أشير إلى نكتة ينبغي أن يتنبه لها المسلم ، ولو قلت إنها من قواعد الدين لمن تأمل فلعلي لا أخالف الحق ، فإنك لو نظرت في الكتاب والسنة النبوية ستجد أن كل ما أراد الله تحريمه قطعا نص عليه بنص لا جدال فيه ، وهكذا كل ما أوجبه الله ، نص عليه نصا لا جدال فيه ، وكل ما أراد أن يوسع للناس ويترك لهم المجال ليفهموا من نصوص كتابه ، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم جاء بنص محتمل لقولين أو أكثر ، ولهذا اتفق الناس في كل زمان ومكان على عدد الصلوات ، وأوقاتها – أصل الوقت – وعلى ركعات كل صلاة ، وهيئة الصلاة ، وكيفيتها ، واختلفوا في كل تفصيلاتها تقريبا ، فاختلفوا في تكبيرة الإحرام حتى التسليم ، والمذاهب في ذلك معروفة مشتهرة . وهكذا في الزكاة ، وفي الصيام ، وفي الحج ! فإذا كان الخلاف في أركان الإسلام ، مع اتفاقهم على تسميتها ، فكيف بغيره ، حتى إنهم اختلفوا في النطق بالشهادتين ! وليس هذا إلا من توسعة الله تعالى على عباده . فلو كان تحريم الغناء واضحا جليا لما احتاج المحرمون إلى حشد النصوص من هنا وهناك ، وجمع أقوال أهل العلم المشنعة له ، وكان يكفيهم أن يشيروا إلى النص الصريح الصحيح ويقطعوا به الجدل ، فوجود الخلاف فيه دليل آخر على أنه ليس بحرام بين التحريم ، كما قرر الشافعي . وقد قال ابن كثير رحمه الله ، إذ تكلم عن البسملة واختلافهم في كونها من الفاتحة أم لا ، قال ما نصه : ويكفي في إثبات أنها ليست من الفاتحة اختلافهم فيها . وإني أقول مثل ذلك يكفي في إثبات حل الغناء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرمه نصا ، ولم يستطع القائلون بالتحريم أن يأتوا بهذا النص المحرم له ، مع وجود نصوص في تحريم أشياء لم يكن العرب يعرفونها ، كالخنزير ، وتحدث عن أشياء لم يكونوا يحلمون بها كالشرب من آنية الذهب والفضة ، ، ومنعوا من منع النساء من الذهاب إلى المساجد مع كثرة الفتن في كل زمان . وهذا دليل من أقوى الأدلة على إباحته حيث كان موجودا ومسموعا ، ومنتشرا ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : هذه قينة بني فلان . أتراه يعلم أنها مغنية ولم ينهها عن الغناء ، ولم يحذر من سماعها ، بل على العكس من ذلك فقد قال لعائشة : أتحبين أن تغنيك ! فسبحان الله كيف تعارض مثل هذه النصوص بالمشتبهات من نصوص التحريم ، ثم يعاب على المتمسك بالنص الواضح الصريح ، الصحيح ، ويرمى بالشذوذ والجهل ، وينصح بالتوجه إلى سوق الخضار ، ويتمنى أن يسجن ويقطع لسانه ، وكل من قرأ القرآن وتدبره ، علم أن أصحاب الباطل ، ومن لا يملك دليلا أو حجة يدمغ بها الحجة الواضحة الدامغة لا بد له أن يلجأ إلى التفرعن ، {ما أريكم إلا ما أرى} ، {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} ، فدليل عجز فرعون مقارعة موسى عليه السلام في الحجة ، ووضح حجة موسى ، ألجأ فرعون إلى التهديد بالسجن والقتل . وهكذا كل من لا يملك حجة ، ولا دليلا يقارع به البينات لا بد أن يلجأ إلى الحيدة ، والتركيز على شخصية حامل الدليل ، لا على الدليل نفسه ، وانظر ذلك في كل قصص الأنبياء ، كل من كفر وعاند لم يأت ببنية واحدة على عناده واستكباره سوى اتهام الرسول بالجنون أو السحر والكذب والكهانة ، {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، أتواصوا به ، بل هم قوم طاغون} . ولهذا سأبدا مقالتي هذه بذكر المجيزين على طريقة الإجمال ، ليتبين المنصف أني لست منفردا بهذا القول ، بل قد قال به من لا يمكن لأي كان أن يصفهم بجهل ، أو يزعم أنهم لم يعرفوا الناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيد ، وتلك الشنشنة التي نعرفها من أخزم ! فأقول مستعينا بالله : إن كثيرا من أئمة الدين المشهود لهم بالعلم والديانة المشهورين بالورع والصيانة قد أباحوا الغناء ، وكانت صناعة الغناء مشهورة عند أسلافنا عبر كل القرون , فقد حفظ لنا التاريخ أسماء كثيرة ممن كانت لهم شهرة ذائعة في صناعة الغناء وتطريبه والبراعة في صياغة ألحانه , حتى صار الغناء من أشهر النوادر والملح التي لا يخلو منها كتاب من كتب الأدب والتأريخ ! فممن اشتهر به وذاع صيته , عبدالله بن جعفر بن أبي طالب وكانت له صحبة ورواية , و محمد بن الحسن بن مصعب أحد الأدباء العلماء بالألحان , وابن الفصيح المغني , وإسحاق بن إبراهيم أبو صفوان المغني المشهور ، وكان ثقة عالما كبير القدر يعظمه المأمون , وإبراهيم بن محمد أبو إسحاق أمير المؤمنين ابن المهدي العباسي ، وكان بارعا إلى الغاية في الغناء ومعرفة الموسيقى , والبردان ، مغني أهل المدينة ، وكان مقبول الشهادة ويتولى السوق بالمدينة , وأبو طاهر الكتامي المعروف بقمر الدولة , والمغني المشهور سباط وكان مشهورا بالعفة والمروءة , والأمير عبدالله بن طاهر الخزاعي ، وكان نبيلا شهما عالي الهمة طريفا جيد الغناء وكان واليا على الدينور, ودحمان الأشقر المغني من فحول المغنين وكان فاضلا عفيفا , وعبدالعزيز بن عبدالرحمن المرواني وكان أديبا شاعرا حنفي المذهب مولعا بالغناء قال له أخوه : لو تركت الغناء . فقال : والله لن أتركه حتى تترك الطيور تغريدها . والحسن بن أحمد المعروف بان الحويزي ، وكان يقرئ القرآن والآداب ويعلم الصبيان الغناء , واشتهر به إبراهيم بن سعد الزهري أحد الأئمة الأثبات ، وكان يضرب بالعود , وشهر بن حوشب ، وكان فقيها قارئا عالما ، أحد المشاهير برواية الحديث ، كان يسمع الغناء بالآلات , ويعقوب بن أبي سلمة الماجشون ، أوحد زمانه في الغناء واختراع الألحان , والمحدث الشهير سويد بن سعيد وصف بأنه مولع بالغناء , وسعد الله بن نصر المعروف بابن الدجاجي الفقيه ، الواعظ ، المقرئ كان يحضر مع الصوفية ويسمع الغناء معهم , وعبدالعزيز بن عبدالله بن الماجشون مفتي المدينة وعالمها وصف بالمولع بسماع الغناء . وممن اشتهر بصنعة الغناء أبو دلف العجلي الجواد الشجاع,ومعبد بن محمد البيروتي,وجحظة البرمكي نديم الملوك و الخلفاء العباسيين, وأبو إسحاق النديم نديم هارون الرشيد وصاحبه , وعبيد بن سريج المغني الشهير ذائع الصيت , وابن محرز، وابن الفضل بن الربيع ، غنى لهارون الرشيد فكافأه , وغيرهم كثير من المتعاطين للغناء المشهورين به مع المروءة والتدين . قال الأصمعي : لما حرم خالد بن عبد الله الغناء، دخل إليه ذات يوم حنين بن بلوع مشتملا على عوده . فلما لم يبق في المجلس من يحتشم منه قال : أصلح الله الأمير، إني شيخ كبير السن ولي صناعة كنت أعود بها على عيالي وقد حرمتها. قال: وما هي ؟ فكشف عوده وضرب وغنى من الخفيف : أيها الشامت المعير بالشي ب أقلن بالشباب افتخارا قد لبسنا الشباب غضا جديدا فوجدنا الشباب ثوبا معارا فبكى خالد حتى علا نحيبه ورق وارتجع وقال: قد أذنت لك ما لم تجالس معربدا ولا سفيها. وكانت مجالس الخلفاء تجمع الأدباء والفقهاء والشعراء والقراء والمغنين , وأخبارهم في هذا كثيرة جدا . وممن أباحه وأفتى بجوازه مع الأوتار الإمام الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي, والأدفوي أحد أئمة الشافعية وفقهائهم , وألف كل منهما مصنفا ردا فيه على من حرمه , ونص على إباحة الغناء ابن رجب الحنبلي العالم الشهير صاحب الفنون . ونقل أبوطالب المكي إباحة الغناء عن عبدالله بن جعفر وابن الزبير والمغيرة بن شعبة , وقال : وقد فعل ذلك كثير من السلف صحابي وتابعي . قال : ولم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عز وجل عباده فيها بذكره كأيام التشريق . ولم يزل أهل المدينة ومكة مواظبين على السماع إلى زماننا هذا ، فأدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية . قال : وكان لعطاء جاريتان تلحنان وكان إخوانه يستمعون إليهما . قال : وقيل لأبي الحسن بن سالم : كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون ! فقال : كيف أنكر السماع وأجازه وسمعه من هو خير مني . وقد كان عبد الله بن جعفر الطيار يسمع . وإنما أنكر اللهو واللعب في السماع . ونقل الترخيص به عن طاووس بن كيسان صاحب ابن عباس, وعبدالملك بن جريج , وحكى الأستاذ أبو منصور والفوراني عن مالك جواز العود . وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور . وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود . قال ابن النحوي في العمدة : قال ابن طاهر : هو إجماع أهل المدينة قال ابن طاهر : وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة . قال الأدفوي : لم يختلف النقلة في نسبة الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر ، وهو ممن أخرج له الجماعة كلهم ., وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية , وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي , وحكاه الإسنوي في المهمات عن الروياني ,و الماوردي ورواه ابن النحوي عن الأستاذ أبي منصور, وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر, وحكاه الأدفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام , وحكاه صاحب الإمتاع عن أبي بكر بن العربي . هؤلاء جميعا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة . وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الأدفوي في الإمتاع : إن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية : نقل الاتفاق على حله , ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه , ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه,ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضا إجماع أهل المدينة عليه . وقال الماوردي : لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر . قال ابن النحوي في العمدة : وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين ، فمن الصحابة عمر , كما رواه ابن عبد البر وغيره , وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي , وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة ، وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي ، وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة ، وأبو مسعود الأنصاري كما أخرجه البيهقي , وبلال وعبد الله بن الأرقم , وأسامة بن زيد كما البيهقي أيضا ، وحمزة كما في الصحيح ، وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر ، والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم ، وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر . وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي وحسان كما رواه أبو الفرج الأصبهاني ، وعبد الله بن عمر كما رواه الزبير بن بكار ، وقرظة بن بكار كما رواه ابن قتيبة ، وخوات بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب الأغاني ، والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي ، وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي ، وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره . وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمر وابن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري . وأما تابعوهم فخلق لا يحصون ، منهم الأئمة الأربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية . انتهى كلام ابن النحوي. وحكى القرطبي في تفسيره جوازه عن أبي زكريا الساجي. و أخرج البيهقي عن ابن جريج قال سألت عطاء عن الغناء بالعشر فقال لا أرى به بأسا ما لم يكن فحشا. قال ابن قدامة : واختلف أصحابنا في الغناء ؛ فذهب أبو بكر الخلال ، وصاحبه أبو بكر عبد العزيز ، إلى إباحته . قال أبو بكر عبد العزيز : والغناء والنوح معنى واحد ، مباح ما لم يكن معه منكر ، ولا فيه طعن . وكان الخلال يحمل الكراهة من أحمد على الأفعال المذمومة ، لا على القول بعينه . وروي عن أحمد ، أنه سمع عند ابنه صالح قوالا ، فلم ينكر عليه ، وقال له صالح : يا أبت ، أليس كنت تكره هذا ؟ فقال : إنه قيل لي : إنهم يستعملون المنكر . وممن ذهب إلى إباحته من غير كراهة ، سعد بن إبراهيم ، وكثير من أهل المدينة ، والعنبري ، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغناء زاد الراكب . واختار القاضي أنه مكروه غير محرم . وهو قول الشافعي ، قال : هو من اللهو المكروه .أه وأجازه من المتأخرين ولو مع المعازف, الشيخ حسن العطار , والشيخ محمود شلتوت ، والشيخ على الطنطاوي , وقال رشيد رضا : والتحقيق أن الأصل فيها الإباحة , وأنها تعرض لها أحوال تكون فتنة , وذرائع لمفاسد تكون بها محرمة أو مكروهه. وقال الشيخ البيحاني : والحق أن الغناء والآلات لا تحرم إلا إذا شغلت عن ذكر الله وعن الصلاة ,أو جرت إلى شيء لا تحمد عقباه. قال أبو عبد الإله : فبهذا يتبين لك أنه حين كثر الجدل في هذه الأيام حول ما أبديته من رأي في حل الغناء ، أني لم آت بما لم تأت به الأوائل ، بل إن الحدث قد كشف عوار أمة تحمل لواء النص ، وتزعم اتباعه ، وتنهى عن التقليد المقيت ، ثم هي تقلد أئمتها دون بحث أو تمحيص ، وتقف من النص موقف المخصص ، والمتحكم ، لأنه لم يوافق هواها ! وكشف الحدث أيضا أن هناك فئة كبيرة من علمائنا وطلبة العلم منا مصابون بجرثومة التحريم ، فلا يرتاح لهم بال إلا إذا أغلقوا باب الحلال ، وأوصدوه بكل رأي شديد ، يعجز عن فكه كل مفاتيح الصلب والحديد ، لأنه يغلق العقول فلا تقبل إلا ما وافقها ، ولا تدخل رأيا مهما كان واضحا جليا ، ومهما كان معه من نصوص الوحيين ، لأنها اعتقدت واقتنعت بما رأت ، ولست أسعى في هذا المقال إلى أن أقنعهم برأيي ، ولكني أريد أن أثبت للمنصف أني لم أقل ما قلت عن هوى ، ولم أبح حراما كما زعم المخالفون ، ولست مبتدعا قولا أخالف به إجماع الأئمة والعلماء ! يقول الإمام محمد بن علي الشوكاني رحمه الله بعد في رسالته "إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع" : إذا تقرر هذا تبين للمنصف العارف بكيفية الاستدلال ، العالم بصفة المناظرة والجدال أن السماع بآلة وغيرها من مواطن الخلاف بين أئمة العلم ، ومن المسائل التي لا ينبغي التشديد في النكير على فاعلها . وهذا الغرض هو الذي حملنا على جمع هذه الرسالة ؛ لأن في الناس من يزعم لقلة عرفانه بعلوم الاستدلال ، وتعطل دوابه عن الدراية بالأقوال ، أن تحريم الغناء بالآلة وغيرها من القطعيات للجمع على تحريمها ، وقد علمت أن هذه فرية ما فيها مرية ، وجهالة بلا محالة ، وقصر باع بغير نزاع ، فهذا هو الباعث على جمع هذه المباحث لما لا يخفى على عارف أن رمي من ذكرنا من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وجماعة من أئمة المسلمين بارتكاب محرم قطعا من أشنع الشنع ، وأبدع البدع ، وأوحش الجهالات ، وأفحش الضلالات ، فقصدنا الذب عن أعراضهم الشريفة ، والدفع عن هذا الجناب للعقول السخيفة.أه فعلى هذا فإن الذي أدين الله تعالى به ، هو أن الغناء حلال كله ، حتى مع المعازف ، ولا دليل يحرمه من كتاب الله ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وكل دليل من كتاب الله تعالى استدل به المحرمون لا ينهض للقول بالتحريم على القواعد التي أقروها ، واعتمدوها ، كذا لم يصح من سنة نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم ، بأبي هو وأمي شيء يستطيع المرء أن يقول بأنه يحرم الغناء بآلة أو بدون آلة ، وكل حديث استدل به المحرمون إما صحيح غير صريح ، وإما صريح غير صحيح ، ولا بد من اجتماع الصحة والصراحة لنقول بالتحريم . ثم أنبه إلى أني قد قرأت أقوال المحرمين قبل ، وبعد ، وكنت أقول به ، ولي فيه خطبة معروفة ، ورجعت عن القول بالتحريم لما تبين لي أن المعتمد كان على محفوظات تبين فيما بعد ضعفها ، بل بعضها موضوع ومنكر ، وعلى أقوال أئمة ، نعم نحسبهم والله حسيبهم من أجلة العلماء ، ولكن مهما كان قول العالم فإنه لا يملك التحريم ولا الإيجاب ، إنما ذلكم لله تعالى ولنبيه صلى الله عليه وسلم . ثم أنبه إلى أني لا أريد من الناس أن يغنوا ويتركوا القرآن والسنة ، كما يشغب بعضهم ، حاشا لله أن آمر بذلك أو أحث عليه ، ولكني أقول قولي هذا ديانة وبيانا لحكم سئلت عنه فأبديت رأيي . ولكني أضغط منبها على أن بعض العلماء عندنا ، وبعض طلبة العلم إنما هم صحف سطرت فيها معلومات لا تمحوها الحقيقة ، ولا يغيرها الدليل ، منطلقة من قول السابقين : {إنا وجدنا آباءنا على أمة} . وحاملة شعار أبي جهل : أترغب عن ملة عبدالمطلب . ولست متهما كل من خالفني بذلك ، أبرا إلى الله تعالى ، ولكني أشير على من حكر القول فيما يراه ، وظن أنه يحمل الحق وحده ، وأن كل من خالفه فإنه جاهل بالناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيد ، متناسيا أن الله تعالى وهو الذي لم يشر إلى الغناء ولو إشارة بتحريم ، قد حرم الهمز واللمز بل توعد عليهما بالويل ، والنار ، دلالة على شدة تحريمهما وأنهما من كبائر الذنوب ، فسبحان الله كيف تعمى القلوب فتبصر تحريم الغناء وتحشد أدلة لذلك وتتجاهل العمل بما نص الكتاب والسنة على تحريمهما دون ارتياب ، وما ذاك غلا لأن القوم يتبعون أهواءهم ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير علم ؟ هذا ما تيسرت كتابته في هذا المقام ، والله اسأل أن يريني الحق حقا ، ويرزقني اتباعه ، والباطل باطلا ويرزقني اجتنابه ، وأن يهديني لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على حبيبنا ونبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين . وكتبه الفقير إلى رحمة الكريم المنان عادل بن سالم الكلباني السبت 7/7/1431 "