بين"منتدى المستقبل"في البحرين و"مجتمع المعلوماتية"في تونس ثمة خيط رفيع يكشف مدى ضعف بلدان"الجنوب"ومدى قوة بلدان"الشمال"بالمقابل في معادلة ثلاثية عنوانها المال والمعلومة والقوة العسكرية. فبقوة هذه"الثلاثية"تصبح دول حليفة للولايات المتحدة استبدادية بامتياز وبحاجة الى"صندوق خاص"للاصلاحات والدمقرطة، مما يثير حفيظة تلك الدول ويجعلها تتحفظ عن بيان المنامة. ولكن بالقوة نفسها المشار اليها يصبح التحرر من احتكار القوة الأعظم في العالم للانترنت ممنوعاً وحراماً فتفشل كل قوى العالم الحرة والمستقلة في نزع هذا الاحتكار من المتنفذ الأول ولو ب"الثلاثية"ذاتها. وبقوة هذه الثلاثية يصبح التعذيب في"ابو غريب"و"غوانتانامو"واستخدام الفوسفور الأبيض في إبادة أهالي الفلوجة أمراً عادياً أو ممارسات فردية لا تعبر بالمطلق عن سياسات عامة! لكن، فجأة، وبقدرة قادر، وبقوة هذه الثلاثية نفسها، يصبح التعذيب في السجون التابعة لوزارة الداخلية العراقية - القائمة أصلاً بقوة الثلاثية نفسها - يصبح هذا التعذيب من الجرائم المنظمة التي تحتاج الى لجنة تحقيق والى اقتحامات للسجون من أجل تبديل وجوه حليفة لها بعدما باتت محرومة اقليمياً. تماماً كما ان جريمة اغتيال الراحل رفيق الحريري بحاجة الى لجنة تحقيق دولية تملك حق السيادة على الدول المحيطة بلبنان، وليس لبنان وحده، بقوة الثلاثية المشار اليها، في حين تصبح جريمة اغتيال وتسميم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حادثاً عادياً ليست الدولة الأعظم"طرفاً مهتماً بلجنة تحقيق دولية فيه"كما تقول كوندوليزا رايس أمام الكاميرات لدى زيارتها الأخيرة لفلسطين المحتلة رغم المطالبات الفلسطينية المتنامية بتشكيل مثل هذه اللجنة. وبالقوة الثلاثية نفسها تصبح تفجيرات بغداد والمدن العراقية المستباحة على يد الارهابيين الذين يفترض انهم مطاردون من قبل قوات الاحتلال، أمراً يومياً عادياً، بل قد يكون"مطلوباً"لتخويف الجماعات العراقية من بعضها بعضاً، وبناء المتاريس الطائفية ضد بعضها بعضاً، بينما تقوم الدنيا ولا تقعد في يوم عمان الاسود وتفجيرات الفنادق الأردنية الثلاثة بقدرة القوة الثلاثية الآنفة الذكر، رغم ان الفاعل هو نفسه كما يفترض والإدانة يجب ان تكون واحدة وبالحزم والقوة نفسيهما كما يفترض! وليس بعيداً عن هذه المفارقات العجيبة التي نعيشها اليوم تصبح الترسانة النووية العسكرية الاسرائيلية بقوة اسلحتها التدميرية الشاملة أمراً مطلوباً يتم تبريره يومياً من جانب"الثلاثية"المشار اليها، فيما يصبح مجرد الحصول على العلوم والتكنولوجيا الخاصة باستخدام الطاقة الذرية لأغراض التقدم والرفاهية والتطوير الطبي والزراعي والصناعي لدى دول الجنوب ولا سيما دولة مثل ايران محرماً ويجب ان تعاقب عليه لأنها تجرأت على ناصية علوم هي من"اختصاص"أطراف القوة الثلاثية المذكورة. باختصار شديد ومكثف، ثمة شعور متزايد ومتنام نقرؤه على وجوه وفي ملامح طرفي المعادلة"الشمالية"والجنوبية بان"رب الشمال"مصمم على ضم كل ما هو ثمين وغال في الجنوب الى أرضيه وحياض امبراطوريته بقوة"الثلاثية"الآنفة الذكر، ولا يبدو انه مبال ان يحصل مثل هذا الضم بالقوة العارية أو بقوة تداعيات تلك القوة. هذا هو الانطباع الذي يتركه"رب الشمال"لدى غالبية"ارباب الجنوب"سواء كانوا من المقاومين والممانعين لرغبته الامبراطورية أو الممالئين او المتعاونين معه لتحقيق جموحه ورغبته الامبراطورية تلك، لا بل ان من يحضر الجلسات والمناقشات التي تدور على هامش الاجتماعات الدولية وفي الأروقة الخلفية للمؤتمرات يسمع تململاً وضجراً متنامين حتى من أقرب المتفائلين أو القانعين أو القابلين بالشروط القاسية والمجحفة التي يطرحها"رب الشمال"مع"ارباب الجنوب"، حتى ان لسان حال بعضهم يذكرني بتلك الخطبة التاريخية للزعيم الهندي الأحمر زعيم هنود دواميش المعروفة بخطبة"سياتل"التي القاها في مراسم الاستسلام التاريخي الذي سبق ابرام معاهدة الاستسلام في العام 1854، قال:"ان زعيم واشنطن الكبير يقول لي انه يريد ان يشتري بلادنا، ويقول لي انه صديقي وانه يكن لي مودة عميقة... ما الطف زعيم واشنطن الكبير، لا سيما انه بغنى عني وعن صداقتي، لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف اننا إذا لم نبعه بلادنا فسيجيئنا الرجل الأبيض مدججاً بسلاحه وينتزعها. لكن كيف نستطيع ان نبيع أو نشتري السماء ودفء الارض؟! ما أغرب هذه الأفكار! كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟! كل شبر من تراب هذه البلاد... كل خيط من ورق الصنوبر... كل شاطئ رملي... كل مدى من الضباب في غياهب الاحراج... كل حشرة ما تمتص أو تطن... كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة... النسغ الذي يسيل في الاشجار يجري بذكريات الانسان الاحمر بين الازهار العاطرة هي اخواتنا، الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم اخوتنا... القمم الصخرية لدى المروج ودفء جسد الحصان، كلها من هذه الاسرة الواحدة، فحين يقول زعيم واشنطن الكبير انه يريد ان يشتري بلادنا انما يسألنا ما لا يطاق". أليست هذه هي حالنا اليوم مع زعيم العالم الكبير المتربع على قوة"الثلاثية"رافضاً التخلي عن اي عنصر من عناصر الاحتكار لتلك القوة، بل انه يطالب يومياً بالمزيد من الاحتكار والمزيد من"الضم"سواء بقوة القوة العارية أو قوة المؤتمرات ولجان التحقيق وسلاح الاعلام والمعلومة والمال الوفير الذي يتدفق بكل اتجاه لحماية امبراطورية المعادلة الثلاثية؟! لكننا في النهاية لا بد ان نقول ل"رب الشمال"كما قالها ذلك الهندي الاحمر يوماً:"ان الأيكة تزول والنسر يختفي، بينما ستظل الشطآن والغابات مسكونة بروح شعبي، وانما إلهكم وإلهنا واحد، ولن يفلت أحد من يد المصير". كاتب متخصص في الشؤون الايرانية.