وزير الدفاع يلتقي قائد الجيش اللبناني    "روشن" تضع حجر الأساس لمجتمع "المنار" في مكة المكرمة    خادم الحرمين يتلقى رسالة من الرئيس الروسي.. القيادة تعزي رئيس أذربيجان في ضحايا حادث الطائرة    المملكة تعزز الأمان النووي والإشعاعي    أسعار النفط ترتفع.. برنت فوق 74 دولاراً    الصين: اتجاه لخفض الرسوم الجمركية على مواد معاد تدويرها    الثقة الدولية في المملكة    محلات الرحلات البرية تلبي احتياجات عشاق الطبيعة    أحلام عام 2025    استنكرت استمرار الانتهاكات لباحات الأقصى.. السعودية تدين حرق الاحتلال لمستشفى بغزة والتوغل في سوريا    المملكة تدعم اليمن اقتصادياً ب500 مليون دولار    المسند: اخضرار الصحراء وجريان الأنهار ممكن    واتساب تختبر مزايا ذكاء اصطناعي جديدة    تغلب على المنتخب العراقي بثلاثية.. الأخضر يواجه نظيره العماني في نصف نهائي خليجي«26»    السعودية تحصد ثمار إصلاحاتها ورؤيتها الإستراتيجية    الجماهير السعودية تحتفل بتأهل الأخضر لنصف نهائي «خليجي 26»    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من بوتين    في المرحلة ال 19 من الدوري الإنجليزي.. ليفربول في اختبار وست هام.. وسيتي لإيقاف نزيف النقاط أمام ليستر    رئيسة الاتحاد السعودي للريشة مي الرشيد: أشكر وزير الرياضة وسنعمل بروح الفريق    «الهويات» تقلق سكان «زاهر مكة»    مبادرات تطوعية    ضبط أكثر من 23 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    «عزف بين التراث والمستقبل».. متحف طارق عبدالحكيم يحتفي بذكراه السنوية الأولى    "الرياض آرت" يُعلن مشاركة 30 فنانًا من 23 دولة في ملتقى طويق الدولي للنحت    من دفتر الأيام: مشوار في قصرغرناطة بأسبانيا    في إطار الجهود المبذولة لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.. إطلاق فعالية «ليالي الفيلم الصيني»    يوم ثقافي لضيوف برنامج خادم الحرمين    تقدير دعم المملكة لقيم الاعتدال حول العالم    ضيوف "برنامج خادم الحرمين" يزورون مصنع الكسوة    طريقة عمل بسبوسة السينابون    أحد رفيدة وزحام العيادات.. مطالبات بمركز متخصص للأسنان    5 سمات شخصية تميز المتزوجين    طريقة عمل شيش طاووق مشوي بالفرن    5 آلاف خطوة يوميا تكافح الاكتئاب    الحرب العالمية الثالثة.. !    ماسك يؤكد دعمه حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف    المنتج الإسباني غوميز: «الجمل عبر العصور» جدير بالحفاوة في أي بقعة من الأرض    قائد "الأخضر" سالم الدوسري يحصل على جائزة رجل مباراة السعودية والعراق    شولتس: لا أنام إلا قليلاً رغم أني من محبي النوم لفترة طويلة    المنتدى السعودي للإعلام يطلق معسكرًا لتطوير الإعلام السعودي بالذكاء الاصطناعي    من الشهرة إلى الثروة: هل نحتاج إلى رقابة مالية على المؤثرين؟    «الفنيلة والسروال» والذوق العام    المطار.. عودة الكدادة !    القيادة تعزي رئيسة الهند    منصة X: الطريق إلى القمة أو للقاع    الصقور تجذب السياح في الصياهد    «سلمان للإغاثة» يوزع 1.494 من السلال الغذائية والحقائب الصحية في إدلب السورية    ضبط 6 إثيوبيين في عسير لتهريبهم (210) كيلوجرامات من نبات القات المخدر    اللغة العربية كنز خالد    «حمام الحرم» يستوقف المعتمرين    "الإسلامية" تؤهل الأئمة والخطباء والدعاة في تايلند    سعود بن جلوي يتوج الفائزين في «تحدي غرس القيم»    911 نموذج مثالي لتعزيز الأمن والإنسانية    الأخضر السعودي يتغلّب على العراق بثلاثية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    أمير القصيم يرعى حفل جائزة الذكير لتكريم 203 طلاب متفوقين    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قمم عربية وأزمات . قنبلة اسرائيلية توقف مشروع تحويل روافد نهر الاردن ... وطائرات ميراج للبنان 3 من 3
نشر في الحياة يوم 13 - 02 - 2003

مع عقد القمة العربية الشهر المقبل إذا عقدت تمضي سنتان على اعتماد الدورية السنوية لهذه القمة، وكان الأمر سابقاً متروكاً للأزمات.
نختتم في ما يلي تحقيقاً عن ثلاث قمم عربية أجلت المعركة مع اسرائيل وانصرفت الى حل المشكلات العربية - العربية، وكان لمشروع تحويل روافد نهر الأردن والضغوط الاسرائيلية في هذا المجال محلّ في بعض هذه القمم.
تضاعفت مخاوف الرئيس اللبناني من مجريات النقاش عندما بدأ مؤتمر القمة في درس الموقف اللبناني من موضوع اشغال تحويل روافد نهر الأردن، فتناهى الى سمعه من الوفود المشاركة اقتراحات عدة تقول: إن المؤتمر سيعلن ضمن مقرراته النهائية أمراً ببدء الاشغال الفوري في التحويل وسارع الرئيس اللبناني لمناقشة القائد العام الذي كان يقول: "إن ليس لديه استراتيجية شاملة، إنما يمكن مؤازرة كل بلد عربي بمساعدته على تنفيذ خطة دفاعية محدودة". فرد الرئيس حلو بالقول: "ان الدفاع والهجوم ليسا إلا مظهرين لعمل عسكري واحد ومن لا يستطيع الهجوم لن يقوى على الدفاع". واستمر هذا النقاش في جو متوتر، فما كان من عبدالسلام عارف إلا أن قال بلهجة مهددة :"سنقول للرأي العام العربي ان لبنان هو الذي يعارض العمل المشترك؟!".
ورد حلو بالقول: لن نقبل أي تهديد؟!
وهنا تدخل عبدالناصر لفض الاشتباك بعد أن ادلهم الجو على هذا الشكل قائلاً للرئيس حلو: خذ وقتك. هل تكفي مدة أربعة أشهر؟ فأجابه: المشكلة ليست قضية توقيت. فقال عبدالناصر: إذاً، ما هي رغبتك؟ ألا يصدر القائد العام أوامره بالتنفيذ إلا بعد الاتفاق مع القيادة اللبنانية، فوافق عبدالناصر على هذا الحل على ألا يصدر ضمن المقررات النهائية التي ستنص على البدء الفوري بأشغال تحويل روافد نهر الأردن بينما تسجل في المحضر الموافقة على المطلب اللبناني؟!
هذا النوع من الحلول للاشكال اللبناني الذي توصل اليه المؤتمر كشف وبكل بساطة ان قمتي القاهرة والاسكندرية كانتا غير جديتين في موضوع تحويل أو استثمار روافد الأردن أو في أمر التصدي العربي المسلح لإسرائيل، وأن الغاية من القمتين لم تكن أكثر من قرقعة خطابية وإعلامية، القصد منها استيعاب مزايدات الدول العربية بعضها للبعض الآخر ولتهدئة الجماهير العربية التي كانت في تلك الفترة تموج وتغلي، مطالبة بفتح المعركة مع إسرائيل؟ وبمعنى آخر كان الملوك والرؤساء جميعاً يدركون جيداً مدى عجزهم عن مثل هذه المواجهة وزادت طبيعة المناقشات التي جرت في قصر المنتزه من مخاوف الوفد اللبناني من غايات مستترة ترمي الى وضع لبنان الدولة العربية الأضعف في "بوز" المدفع بجعله يبدأ التحويل من دون حماية عسكرية، بينما يعلن في القرارات ان القمتين نجحتا في تحويل الروافد، وفي وضع خطة عسكرية عربية لمواجهة اسرائيل، وعندما أدرك الرئيس حلو مدى مأزق الوفد اللبناني ضمن هذه الهجمة عليه لجأ بنا لنصيحة الشقيري الى عبدالناصر لحل هذا الإشكال لأن لا أحد يستطيع تفكيك الفخ إلا من نصبه على حد قول الشقيري.
وفوجئ الرئيس حلو ليس بإجابة عبدالناصر لكل طلباته كما ظهر في المؤتمر بل بمدى التودد الذي أبداه نحوه وسعيه لأن ينسج معه علاقة صداقة شخصية، فعندما اجتمع به مودعاً بعد انتهاء المؤتمر دعاه عبدالناصر للقيام بزيارة رسمية للقاهرة وألح عليه للمشاركة في قمة دول عدم الانحياز التي كانت ستعقد في العاصمة المصرية في السادس من تشرين الأول اكتوبر من العام نفسه، وحاول الرئيس حلو الاعتذار لأنه كان سيتسلم صلاحياته الدستورية في 23 أيلول سبتمبر وقد لا يكون مناسباً غيابه عن لبنان مرتين خلال شهر واحد، لكنه إزاء إلحاح عبدالناصر عليه قبل الحضور للمشاركة في جلسة الافتتاح على أن يعود الى بيروت في اليوم التالي فوعده عبدالناصر بأن يتناول الغداء معه في اليوم نفسه في دار السفارة اللبنانية! ارتاح الرئيس اللبناني للود الذي أبداه نحوه عبدالناصر، وشارك بالفعل في قمة عدم الانحياز، ولاحظ عند افتتاح المؤتمر لفتة ود جديدة من عبدالناصر نحوه عندما تدبر عبر القرعة ان يترأس الرئيس اللبناني أولى جلسات المؤتمر، وبعد الظهر حضر عبدالناصر الى دار السفارة اللبنانية حيث تناول الغداء مع الرئيس حلو والسفير جوزيف أبو خاطر وأركان السفارة، ثم اختلى الرئيسان لبعض الوقت وساد لقاءهما الدفء والتفاهم التام بالنسبة الى كل القضايا التي تداولاها.
كان واضحاً هدف عبدالناصر من نسج مثل هذه العلاقة الودية مع الرئيس حلو، فقد كان مرتاحاً للتعاون الذي كان يقيمه مع الرئيس فؤاد شهاب، ويريد استمراره على المستوى نفسه مع رئيس جمهورية لبنان الجديد، وبالفعل تطورت علاقتهما وتعاونهما لاحقاً الى درجة أن الرئيس حلو لم يتوقف يوماً عن الإشادة بعبدالناصر واعتباره الصديق المخلص للبنان!!
أعود هنا الى الذاكرة عن قمة عدم الانحياز المشار اليها لأنني غطيتها صحافياً وحضرت الغداء في السفارة اللبنانية الذي شارك فيه عبدالناصر.
وأذكر أن عبدالناصر تأخر في الوصول عن موعد الغداء وكان السبب انشغاله في حل الإشكال الذي واجه المؤتمر عندما وصل فجأة الى مطار القاهرة تشومبي الذي كان استولى على إقليم كاتنغا في الكونغو من خلال تدبير اغتيال زعيمها الوطني "لومومبا" وطلب أن يمثل "الكونغو" في المؤتمر، ورفضت القمة قبوله لخروجه على سياساتها، فوجد عبدالناصر حلاً لهذه المفاجأة التي لم تكن محسوبة بإبعاد تشومبي على الطائرة نفسها. كانت دول عدم الانحياز في تلك الفترة، في عز قوتها وقمة نفوذها وشارك أقطابها في ذلك المؤتمر من مثل اليوغوسلافي تيتو والأندونيسي سوكارنو والهندي شاستري وامبراطور الحبشة هيلا سيلاسي سهرة مع سوكارنو في أوبرج القاهرة. سوكارنو هو بطل استقلال أندونيسيا وباني الدولة الأندونيسية الحديثة وكان شخصية مميزة ويتمتع بشهرة عالمية، وفي الوقت ذاته كان معروفاً بأنه زير نساء ومزواج ومحب للسهر والتمتع بالحياة وكان يرافقه في القاهرة وفد من 120 شخصاً في زمن كانت فنادق القاهرة محدودة العدد!! وتستعيد ذاكرتي هنا سهرة أمضيناها أنا والزميل إبراهيم سلامة وبعض الزملاء ليلة افتتاح المؤتمر، في ملهى "الأوبرج" الكائن عند الهرم، وكان جلوسنا الى مائدة على "البيست" ملاصقة للطاولة التي كان يتصدرها سوكارنو مع بعض مرافقيه، وفي تلك الليلة أبدعت الراقصة سهير زكي في ابتكار رقصات جديدة تلفت إليها الرئيس الأندونيسي، واكتفيت أنا والزملاء بتقديم انفسنا لسوكارنو متبادلين معه بعض عبارات المجاملة!
إنما بعد مرور بضعة أشهر على هذه السهرة اهتز العالم كله لأنباء الإطاحة بسوكارنو بانقلاب عسكري قام به الجنرال سوهارتو الذي أمضى 32 سنة في حكم أندونيسيا ثم أطيح به وما زال هو وأولاده قيد المساءلة القانونية، وتتولى رئاسة الجمهورية الأندونيسية الآن كريمة سوكارنو ميغاواتي!
على رغم الضجيج الإعلامي والسياسي الذي رافق مقررات مؤتمري القاهرة والاسكندرية في شأن تحويل روافد نهر الأردن والتسلح العربي العام سواء لحماية أشغال التحويل أو الاستعداد للمعركة مع إسرائيل، سرعان ما تبينت الصعوبات الكبيرة التي واجهت تنفيذها، ما دعا القمة العربية الثالثة التي عقدت في 24 آب أغسطس من العام 1965 في الدار البيضاء لإعادة البحث في الموضوعين معاً بخاصة لجهة التنفيذ، واحتدم النقاش في تقرير القائد العام في شأنهما معاً خلال جلستين الثانية منهما اقتصرت على الملوك والرؤساء وأقرت مبدئياً طلب القائد العام انشاء اربعة أسراب لطائرات مقاتلة ضمن خطة التسلح العربي يرابط أحدها على الأراضي اللبنانية، فتحفظ الوفد اللبناني مبدئياً على استعداده لإنشاء هذا السرب ضمن عديد الجيش اللبناني وبتمويل عربي مشترك وفق قرارات قمة القاهرة يساهم لبنان فيه بنسبة حصته في موازنة الجامعة العربية، فوافق المؤتمر على الطلب اللبناني تشكل هذا السرب من طائرات الميراج الفرنسية التي كانت لها قصة أخرى في لبنان ثم أبلغ الرئيس حلو المؤتمر ان مجلس النواب اللبناني أجاز بتاريخ 22 كانون الثاني يناير 1965 للحكومة الحق بإعطاء الإذن، بموافقة قيادة الجيش، على دخول قوات عربية الى لأراضي اللبنانية عند وقوع اعتداء يهدد سلامة البلاد، وعندما يستدعى قيام تدابير عاجلة قبل أن يتاح الوقت لمجلس النواب للاجتماع على أن يحاط مجلس النواب علماً بكل ما يتخذ في هذا الشأن!... وأبلغه أيضاً عن إقرار مجلس النواب اللبناني بتاريخ 14 آب 1965 قانوناً يجيز لقيادة الجيش أن تعقد مسبقاً الصفقات اللازمة لتحقيق التعزيزات العسكرية المقررة في القمة العربية عام 1964 وموافقته على ما التزمت به الحكومة اللبنانية في شأن تحويل روافد الأردن في قمتي القاهرة والاسكندرية.
وفي ما عدا ذلك أجرى الرئيس اللبناني محادثات ثنائية مع كل من عبدالناصر والفريق عامر في محاولة لإقناعهما بتأجيل البدء بتنفيذ التحويل في لبنان، وكان بدأ هذه المحاولة المنفردة خلال زيارته الرسمية للقاهرة أول أيار مايو 1965 ولمدة ثلاثة أيام وأعقبها بالطلب من الجنرال ديغول عندما زار باريس في أعقاب زيارته للقاهرة، الضغط على إسرائيل لعدم الاعتداء على عملية تحويل الروافد في لبنان.
لكن كل تلك الجهود والمساعي والنقاشات ذهبت أدراج الرياح، فالقيادة الموحدة أصدرت أوامرها بالتنفيذ قبل تأمين الحماية العسكرية. فقصفت إسرائيل أولاً الأعمال الجارية عند نهر بانياس في الأراضي السورية وفي 25 أيلول من العام نفسه 1965 قامت طائرة إسرائيلية بقصف الجرافة التي كانت تعمل عند نهد الحاصباني وتوقف العمل بكل أعمال تحويل روافد الأردن ولم تتحرك القيادة الموحدة، وذهبت بضع قنابل بكل قعقعة القمم العربية وبكل عنترياتها، ومنذ ذلك الحين طوي موضوع روافد الأردن.
ثم جاءت هزيمة عام 1967 لتهيل تراب العجز والنسيان على هذا الموضوع. كما طرحت تلك الهزيمة الكارثية سؤالاً يفترض أن تطرحه الأجيال؟ وهو: كيف أن الملوك والرؤساء العرب جميعاً، بمن فيهم عبدالناصر تباروا في تلك القمم بالقول: "ان جيوشهم تحتاج الى تعزيز برامج تسلحها لمدة عشر سنوات لتصبح قادرة على مواجهة اسرائيل وعهدوا الى القيادة العسكرية الموحدة الاشراف على هذه البرامج، ثم وبعد ثلاث سنوات استدرجوا وجروا الى تلك الهزيمة النكراء فحل محل تلك القيادة قرار مجلس الأمن الرقم 242!
بعد القصف الإسرائيلي للجرافة اللبنانية عند نهر الحاصباني ارتفع في بيروت صوت واحد هو صوت ريمون إده الذي ملأ صحفها بضجيج مفاده: ان فكرة "التحويل" هي خطأ الأساس، لأن تحويل الأنهر وحتى لو كانت مجرد روافد غير مقبول دولياً. ورأى العميد استناداً الى هذه النظرية ان اسرائيل لن تستطيع منع لبنان من استثمار مياهه في أرضه سواء بالنسبة الى الحاصباني أو الوزاني إذا أجرى ذلك بمعزل عن المشاريع الإقليمية، ولم يسمع أحد نصائح العميد هذه، أو بالأحرى أصبح الجميع يتحاشى مقاربة هذا الموضوع، بعد تلك التجربة المرة في شأنه!
ثم بعد احتلال اسرائيل أجزاء من الأراضي اللبنانية وإقامتها ما سمي بالشريط الحدودي عام 1978 ثم قيامها بتوسيع هذا الشريط أثناء اجتياحها الثاني للبنان عام 1982 أصبح ميدانياً يتعذر الكلام على هذا الموضوع...
الى أن حدث التحرير البطولي للجنوب اللبناني في 25 أيار من العام 2000!
بعد هذا التحرير اختلف الوضع، جلت القوات الإسرائيلية عن مناطق الوزاني والحاصباني، وسارعت إثره قوات الأمم المتحدة الى ترسيم الحدود بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة من الإسرائيليين وفق الخطوط التي اتفق عليها بين الفرنسيين والانكليز عام 1923 ووفق القرار 425 بزعمها، واختير لهذا الترسيم اسم الخط الأزرق الذي تحفظ عليه لبنان، وقد قسم هذا الخط قرية "الغجر" المشرفة على الوزاني الى قسمين لبناني وآخر سوري بقي تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأقيمت بطلب إسرائيلي عبر القوات الدولية مضخة على نهر الوزاني لتأمين مياه الشرب والسقاية لهذه القرية بقسميها.
كما انتهز الفرصة آل العبدالله وبعض أهالي بلدة الخيام من ملاك الأراضي القائمة عند الوزاني وأقاموا مضخة صغيرة على النهر لسقاية أراضيهم كما كانوا يفعلون قبل الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة! وفي الوقت نفسه أقام مجلس الجنوب مضخة أخرى محدودة الحجم لسقاية بعض القرى التي كانت أثناء الاحتلال تشتري المياه من اسرائيل! وقدرت عند هذا الحد كمية المياه المأخوذة من الوزاني بحوالى أربعة ملايين متر مكعب، جرى ذلك وسط سكوت اسرائيلي عنه! لكن مجلس الجنوب وجد نفسه أيضاً أمام مشكلة مياه ملحة أخذ يعانيها بعد التحرير أهالي عشرات القرى الذين كانوا يشترون المياه خلال الاحتلال من إسرائيل، وازدادت ضغوطات أهالي هذه القرى على المسؤولين لتزويدهم المياه!
هذه الضغوطات وعامل الثقة بالنفس وبالقدرة على المواجهة التي ولدها أول انتصار عربي على إسرائيل، حملا مجلس الجنوب وبموافقة من الرئيس إميل لحود على التخطيط لإقامة مضخة أخرى على الوزاني يكون في مقدورها تأمين المياه لعشرات من القرى المحررة العطشى!
اتخذ القرار وأجريت الدراسات بصمت لإقامة مضخة جديدة لتأمين المياه لهذه القرى، تم التلزيم وبوشر التنفيذ خلال شهر آب من العام 2002، غير ان هذا المشروع لم يكن تنموياً يأخذ في الاعتبار الحاجات المستقبلية للري والزيادة السكانية، بمعنى انه كان مشروعاً مرتجلاً ومستعجلاً لتأمين مياه الشرب فقط لحوالى 40 قرية عطشى، وتضمن اقامة مضخات داخل غرفة عند النبع، فيما يبلغ طول خط الدفع من الوزاني 16 كيلومتراً تبدأ بسعة 22 إنشاً لتنتهي عند خزان الطيبة 16 إنشاً! وقدر الخبراء كمية المياه المتأتية من هذا المشروع بخمسة ملايين متر مكعب، فتصبح المياه المستغلة من النهرين الوزاني والحاصباني بحدود تسعة ملايين متر مكعب. وكان مشروع جونستون قدر حصة لبنان من مياه الروافد ب35 مليون متر مكعب. ويؤكد ناصر نصرالله مدير مصلحة الليطاني، أن قياس نسبة المياه بحسب العرف الدولي يستوجب معرفة مساحة الحوض وعدد السكان والأراضي الزراعية المروية، وان حوض الحاصباني يضم سبعة آلاف هكتار وخمسين ألف نسمة ويبلغ طوله 55 كلم، لذلك فإن القوانين الدولية تقدر حصة لبنان من مياه الحاصباني والوزاني ومياه الينابيع وذوبان الثلوج بحدود 80 مليون متر مكعب! بينما يرى خبراء آخرون ان الاتفاقية الدولية لتقاسم الأنهر المشتركة التي وقعها لبنان عام 1998 ولم توقعها إسرائيل، تجعل حصة لبنان من النهرين تتجاوز الخمسين مليون متراً مكعباً...
إنما اللافت ان الإسرائيليين الذين كانوا يراقبون بواسطة "الكاميرا" التي ينصبونها في قرية "الغجر" على بعد 300 متر من الوزاني، وعبر دورياتهم الحدودية اليومية الإنشاءات الجديدة على النهر بقوا ساكتين حوالى الشهر وحتى اقتراب المشروع من مرحلة الانجاز، لينفجر شارون في العاشر من أيلول مهدداً لبنان بعملية عسكرية في حال نفذ مشروع ضخ مياه الوزاني، مضيفاً: ان اسرائيل أبلغت الأمر للولايات المتحدة الأميركية لتدارك المضاعفات، وتبارى أيضاً عدد من المسؤولين الإسرائيليين في إطلاق التهديدات ضد لبنان، فاعتبر الجنرال يوسي بيليد أن سلب اسرائيل مصادر مياهها هو حرب ضدها، واستؤنفت التهديدات الإسرائيلية على هذا المنوال فتصدى لها أحد قياديي حزب الله هاشم صفي الدين بالقول: إذا لجأت إسرائيل الى القوة لمنع لبنان من الاستفادة من مياه الوزاني فستقطع يد إسرائيل! وأحدثت التهديدات الإسرائيلية إرباكاً بين الرؤساء الثلاثة في بيروت، وكشف هذا الإرباك انه لم يكن بين الثلاثة أي تنسيق أو اتفاق على كيفية مواجهة رد الفعل الإسرائيلي المفترض توقعه. الرئيس لحود لم يعلق واكتفت مصادر القصر الجمهوري بالقول: إن لبنان يستثمر مياهه وسيتابع المشروع مهما كان رد الفعل الإسرائيلي!
أما رئيس مجلس النواب نبيه بري فطلع باجتهاد غريب داعياً الأمم المتحدة الى رسم خط أزرق للمياه بين لبنان واسرائيل شبيه بخطها الأزرق الحدودي. أما رئيس الحكومة رفيق الحريري ففاجأ الجميع بمطالبة سفير أميركا فنسنت باتل بتدخل حكومته لحل الإشكال مع إسرائيل، وجاءت الموافقة الأميركية سريعة على ذلك. وعندما تبين ان تصرف رئيس الحكومة كان منفرداً ومن دون التشاور في شأنه مع الرئيسين لحود وبري أو أي مسؤول آخر، سارع الحريري ومن على شاشة التلفزيون بالقول: ان طلبه التحكيم من أميركا ينسجم مع المطالبة بإحالة الأمر الى الأمم المتحدة، لأن أميركا دولة صديقة وهي أيضاً عضو في الأمم المتحدة...!
هذه الفتوى الحريرية زادت الوضع إرباكاً، وازدادت البلبلة الرسمية في بيروت للسرعة التي استجابت بها واشنطن للطلب الحريري، فبعد 48 ساعة على توجيه الطلب حطت في العاصمة اللبنانية بعثة خبراء أميركيين على رأسها الخبير في وزارة الري الأميركية ريتشارد لاوسن، قابل لاوسن الرئيس الحريري وبعده الرئيس بري، أما الرئيس لحود فامتنع عن استقباله خلال كل زياراته لبيروت، معتبراً أن مجلس الوزراء لم يتخذ قراراً بطلب الوساطة الأميركية أو بدعوة الخبير الأميركي. أما لاوسن فقدم الى لبنان مرات عدة وزار أكثر من مرة مع مساعديه موقع المشروع على الوزاني حيث التقطوا الصور الفوتوغرافية للتفاصيل الدقيقة وللمنطقة بكاملها، وكشف النقاب لاحقاً أنه قدم الى المسؤولين اللبنانيين الذين قابلهم طلبات وأسئلة كلها "ملغومة" إسرائيلياً من مثل اقتراحه ان يسقي لبنان القرى الحدودية من مياه الليطاني بحجة أن قسماً كبيراً من مياه هذا النهر تذهب هدراً الى البحر. وإزاء ما سمعه عن أن لبنان حر في استعمال مياهه كما يشاء، طلب تأجيل المشروع كله حتى تقوم الولايات المتحدة بوساطة لعقد اتفاق نهائي بين لبنان وإسرائيل على تقاسم مياه رافدي الوزاني والحاصباني، والى ذلك تنوعت طلباته للتفاصيل الدقيقة حتى عن حجم المضخات وطول الأنابيب وحجم استيعابها الى آخر هذه التفاصيل الفنية الدقيقة. تمت إجابته بالنسبة الى زلتفاصيل الفنية للمشروع، إنما أبلغ رفضاً جازماً سواء بالنسبة الى التفاوض مع إسرائيل أو تجميد العمل بالمشروع وتأجيل افتتاحه.
ووسط صخب التهديدات الإسرائيلية واستمرار عرض عضلات الدوريات الإسرائيلية الحدودية تابع المتعهد والعمال العمل ليلاً ونهاراً لإنجاز سريع للمشروع، وأعلن رسمياً عن افتتاحه في 16 تشرين الأول اكتوبر 2002 وجرى الحرص على أن تكون حفلة الافتتاح ذات بعد سياسي وشعبي معاً، فوجهت الدعوات الى الفاعليات والسفارات بما فيها السفارة الأميركية التي وافقت على الحضور بشخص القائمة بالأعمال كارول كالين، لكنها غيرت رأيها في اللحظة الأخيرة خوفاً من غضب شارون، كما قيل في تفسير المقاطعة الأميركية للاحتفال وفاجأ الرئيس لحود الحشد الكبير بحضوره وسارع مع الرئيس بري ليكونا أول الشاربين من مياه الوزاني، بينما غاب الرئيس الحريري عن الصورة وعن الاحتفال مكتفياً بمن يمثله فيه.
وصرح رئيس الجمهورية بأن لبنان مستقل بقراره ولا يخضع لأي ضغط أو ابتزاز وهو يحصِّل حقوقه المعترف بها دولياً...! بينما صرح شيمون بيريز أمام الكنيست وكان لا يزال وزيراً للخارجية بأن إسرائيل تحتفظ بحقها في الدفاع عن مواردها المائية، وهدد بأن المسألة قد تتسبب باندلاع نزاع اقليمي حول الموارد المائية!
بعد ذلك هدأت العاصفة وقيل ان الأميركيين حصلوا على وعد بتوقف لبنان عن القيام بمشاريع جديدة لاستثمار مياه الوزاني والحاصباني.
غير أن نار مياه روافد نهر الأردن ستبقى تحت الرماد تنتظر المصير للصراع العربي - الإسرائيلي.
إن نهر الوزاني هو نهر لبناني ينبع من قرية الوزاني الكائنة على مسافة أربعة كيلومترات من الحدود ويصب في نهر الحاصباني عند نقطة قريبة من قرية "الغجر" المحتلة، وهو أكبر روافد الحاصباني بتصريف مائي يقدر نسبياً ب43 في المئة من مياه الحاصباني تتعدل بحسب مواسم الشح أو الغزارة، أما الحاصباني فهو أيضاً نهر لبناني ينبع من خراج بلدة حاصبيا شرقاً ويجري مسافة 21 كيلومتراً في الأراضي اللبنانية ويصب مع روافده في نهر الأرن ويعتبر من روافده الأساسية ويبلغ تصريفه المائي نحو 160 مليون متر مكعب!
وإزاء اعتبار الحاصباني وروافده من روافد نهر الأردن يفترض العودة الى الخلفية التاريخية لمشاريع استثمار مياه الأردن وروافده!
ان هذه المشاريع هي أحد أوجه الصراع العربي - الإسرائيلي وتعود بداياتها الى عام 1950 عندما باشرت اسرائيل تنفيذ مشروع ضخم يتيح لها الحصول على 500 مليون متر مكعب من مياه الأردن وذلك من طريق تحويل مجرى النهر بواسطة قناة يشق قسم منها في المنطقة العازلة السورية - الإسرائيلية.
فرد الجيش السوري بالقصف المدفعي للمشروع وتقديم الشكاوى لمجلس الأمن. وإزاء استمرار تبادل القصف المدفعي بين الطرفين والادانات المتتابعة لإسرائيل الصادرة عن مجلس الأمن بين عامي 1951 و1953 لم تتراجع إسرائيل عن مشروعها، لكنها عدلت وسائل التنفيذ في شكل ان تقوم بسحب مياه طبريا بواسطة مراكز ضخ ضخمة وتجر بواسطة أقنية كبيرة من شمال إسرائيل الى جنوبها وذلك على طول مئات الكيلومترات، وخصوصاً لري صحراء النقب فتتحاشى بذلك المنطقة العازلة بينها وبين سورية!
إزاء هذا الوضع المتوتر في المنطقة تدخلت الحكومة الأميركية بناء لطلب وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التي كانت تسعى في تلك المرحلة الى إيجاد مشاريع لتوطين اللاجئين، وإلى ايجاد حل لتقسيم مياه الأردن بين الدول المجاورة للنهر وهي لبنان وسورية والأردن وإسرائيل، وأرسلت الى المنطقة بعثة برئاسة اريك جونستون مبعوث الرئيس ايزنهاور فأجرت هذه البعثة دراسات بين 1951 و1953 خلصت بنتيجتها الى إعداد مشروع لتقسيم هذه المياه بين الدول الثلاث وإسرائيل، وهو المشروع الذي يحمل اسم جونستون ويقترح استثمار مليار و350 ألف متر مكعب من خط تقسيم مياه النهر لري 936 ألف دونم من الأراضي على أساس ثلثي المياه للبلدان العربية والثلث الباقي لإسرائيل. والمفارقة ان لبنان في هذا المشروع لم ينل أي حصة من تقسيم المياه كما يقترحه المبعوث الأميركي وأحدث هذا الحرمان ما يشبه الثورة في كل الأوساط اللبنانية قادها ريمون إده. وعندما جاء جونستون الى بيروت والتقى به العميد في حفلة عند إميل البستاني اتهمه بأنه يهودي بسبب حرمانه لبنان من مياهه وإعطائها لإسرائيل. وعندما مثل بعدها جونستون أمام اللجنة الخارجية في مجلس النواب اللبناني عام 1953 عرض له العميد إده وخبراء لبنانيون دراسة أعدها في أوائل الخمسينات الراحل إبراهيم عبدالعال وتنص:
أولاً: على إنشاء سد تخزيني على نهر الحاصباني قبل التقاء هذا النهر بنهر الأردن بنحو عشرين كلم.
ثانياً: إنشاء قناة تأخذ من أمام سد الحاصباني لغرض ري الأراضي اللبنانية الصالحة للزراعة في حوض النهر وتبلغ 35 ألف دونم تحتاج لريها من مياهه الى 35 مليون متر مكعب سنوياً!
ثالثاً: إنشاء محطة لتوليد الطاقة الكهربائية الناتجة من سقوط المياه من قناة الري السالفة الذكر على نهر الحاصباني!
ووافق جونستون على هذا المشروع وتبناه في مشروعه الثاني الذي خصص للبنان فيه 35 مليون متر مكعب، والذي قدمه عام 1955!
ويقول خبراء المياه اللبنانيون ان مشروع عبدالعال لم يوضع ضمن تحديد حصة لبنان من روافد الأردن، كما لم تراعَ فيه الزيادات السكانية والزراعية التي تضاعفت مرات عدة عنها قبل 52 عاماً!.
* كاتب وصحافي لبناني والنص فصل من كتابه "سنوات الجمر" الذي سيصدر قريباً كجزء ثانٍ من كتابه "ذكريات من الصحافة والسياسة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.