في وقت يبتعد الكثيرون من أصحاب المواهب عن مفاهيم نمطية لمهن مثل المحاماة والهندسة والطبابة... تأتي بعض المجالات مثل الفنون الجميلة لتقلب المعادلة وتؤكد أن كل من يملك الموهبة الحقيقية ويعرف أسرار مجال عمله السرية ومفاتيحه، يمكن أن يحقق النجاح ويضمن مستوى معيشياً مقبولاً. بين هذه المجالات، قد يكون الرسم الكاريكاتيري مثالاً فاعلاً... وإذا كان هدف فن الكاريكاتير، ذلك الرسم التخطيطي البسيط والتعليق الساخر القصير، هو طبع ابتسامة واسعة وإطلاق معان بارعة... لتسكن ذهن الإنسان وتجبره على التفكير في ما داخل دائرة الواقع وتدعوه إلى تشكيل الدائرة من جديد بفكر وعقل جديدين من أجل واقع أفضل... فإن عصر التكنولوجيا وسيادة الصورة في التجارة والتسويق والإعلان والإعلام، أوجدا لتلك الخطوط عالماً أكبر، وقدما لمن يبدع في تجميعها على أوراقه، فرص عمل أفضل. في العقود الماضية كان فنانون عرب مهدوا الطريق لانتشار هذا الفن وانخراطه في التقاليد السياسية والوطنية، مع الحرص على تجديد أساليب التواصل والاجتهادات الجمالية والتشكيلية التي ترافق الخطاب الفكري والسياسي .أما اليوم، فلم يعد يحمل الرسم الكاريكاتيري في طياته تلك الأمثولات... بل بات يطرح تساؤلات ويسجل مواقف ويعرض مخاوف مستقبلية من جهة، ويمزج المرارة بالفكاهة عبر نزعة إبداعية لافتة تطبع المخيلة... وإذا جرت العادة سابقاً أن يبقى عمل الرسام الكاريكاتيري مقتصراً على صفحات الجرائد أو المعارض الفنية، فأن التكنولوجيا اليوم فرضت عليه مجالات تحرّك أوسع... فرسومه قد تطبع على اسطوانات رقمية، يستطيع القارئ استعمالها بعد شراء حقوق الملكية الفكرية في بحث أو مقال... كما قد يلجأ بعضهم إلى تجميع رسوم في كتاب على شكل بطاقات بريدية يمكن استخدامها منفردة على هذا الأساس. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرسم الكاريكاتيري الذي يرتكز الى المحاكاة الساخرة والمبالغة والتضخيم، ويسلط الضوء على القضايا والتناقضات الاجتماعية والواقع السياسي، بات ورقة رابحة في يد شركات الإعلان التي تعتمد عليه لجذب انتباه المستهلك... كما تستخدمه بعض المؤسسات الحكومية والمؤسسات الإنسانية والمحطات الفضائية كدعاية فاعلة قادرة على التأثير في الرأي العام. وإذا كان العالم العربي شهد ولادة جديدة للرسم الكاريكاتيري بتقاليده وأسسه الحديثة مع يعقوب صنوع، صاحب الجريدة الهزلية"أبو نضارة"التي لاقت رواجاً كبيراً، فإن فنانين آخرين لعبوا دوراً كبيراً في تأليب الرأي العام ولفت انتباهه إلى تفشي ظواهر اجتماعية وقضايا سياسية خطيرة أمثال صلاح جاهين وجورج البهجوري وناجي العلي وبهجت عثمان. وكان هؤلاء هم الدفعة التي غيرت وجه الكاريكاتير العربي في أوائل الخمسينات، إذ نجحوا في ابتكار شخصيات عبروا من خلال حركاتها وسكناتها عن همومهم ومواقفهم السياسية والاجتماعية. وللكاريكاتير مدارس عدة، تختلف فيها طرق التعبير وتلتقي بين التشكيل فقط أو التعليق مع التشكيل... من المدرسة الأوروبية الشرقية التي تعتمد على الرسم فقط، إلى المدرسة الأوروبية الغربية التي ترتكز إلى الرسم التخطيطي البسيط، والأميركية التي تعطي الرسم مضامين ودلالات تتضح أكثر بالحوار. والكاريكاتير يتنوّع بين الاجتماعي والسياسي المحلي أو العالمي، والتي تظهر فيه وظيفة الكاريكاتير كفن تحريضي دعائي قائم على وجود مرسل ومستقبل للرسم. الإبداع هو النقطة الحاسمة في الرسم الكاريكاتيري، بالإضافة إلى الإحساس الفني المرهف والعين الثاقبة المثقفة التي ترصد التفاصيل وتقدّر نتائجها في المستقبل.ليس هناك معاهد متخصصة للرسم الكاريكاتيري لكنه يدرج ضمن اختصاصات الرسم التابعة لكلية الفنون الجميلة. ومن الجامعات التي تقدم هذا الاختصاص في الوطن العربي، يشار على سبيل المثال لا الحصر إلى : الجامعة اللبنانية www.ul.edu.lb، جامعة القاهرة www.cu.edu.eg ، جامعة بغداد www.univofbaghdad.com. [email protected]