تجمع الآلاف في استاد كابول الرياضي لمتابعة"البوزكاشي"، اللعبة الأكثر شعبية في أفغانستان، والتي تعادل في شعبيتها كرة القدم لدى شعوب أميركا الجنوبية. وقف في طرفي الملعب فريقان، يتكون كل واحد منهما من عشرة لاعبين، يمتطون صهوات جيادهم، ملوحين بسياط غليظة، في انتظار ان تنطلق المباراة. يحاول أعضاء كل فريق الاستحواذ على جثة عجل صغير، من دون رأس، وإسقاطها في دائرة عند أحد طرفي الملعب، ويسعى خصومهم إلى منعهم، عبر جلدهم بالسياط، وما ان يضع اللاعب الجثة في الدائرة، حتى يعاود رفعها والدوران بها حول راية حمراء، ومن ثم يعود وفريقه إلى نقطة التسجيل، ليعاود الجميع الكرة من جديد. وپ"البوزكاشي"كلمة فارسية، تعني"شد المعزة"، بيد ان الأفغان لا يستخدمون الماعز حالياً في لعبتهم الدموية، واستعاضوا عنها بعجل صغير، يذبح قبل يوم من المباراة، وتُفرغ أحشاؤه، ويصبح وزنه نحو 35 كيلوغراماً. لا تنافس لعبة أخرى"البوزكاشي"في الشعبية، على رغم محاولات الأميركيين إدخال كرة القدم إلى هذه البلاد، من خلال تجهيز الملاعب ومشاركة الشبان في لعبها، لكن وفاء الأفغان للعبتهم يجعلها تتبوأ الصدارة بين الألعاب الأخرى، حتى ان الرئيس الأفغاني حميد كارزاي يحرص على حضور المباريات القومية ورعايتها. البوزكاشي السياسي ويبدو ان لعبة"البوزكاشي"لم تقتصر على استاد كابول وغيره من الملاعب، فهناك من يرى أنها انتقلت إلى المشهد السياسي الأفغاني، حتى ان قيادي أفغاني بارز التقته"الحياة"في كابول، قال:"إنهم يلعبون بنا البوزكاشي". وضمير الجمع هنا يعود إلى"مجموعة من القوى الدولية والإقليمية". ويرفض المسؤول تحديد أسماء الدول التي تمارس"البوزكاشي السياسي"في أفغانستان، مكتفياً بالقول:"هم هناك في حي وزير أكبر خان". ويضم الحي معظم السفارات الأجنبية في البلاد، لكنه يشير في ثنايا حديثه إلى اللاعب الأبرز، وهو السفير الأميركي. ويقول:"ربما يفوق عدد زائري السفارة الأميركية من يلتقيهم الرئيس كارزاي". فسيارات قادة الأحزاب الأفغانية لا تتوقف عن ارتياد عتبة مدخل السفارة، وكأنما الخريطة السياسية ترسم خلف أسوار السفارة العالية. حتى ان البعض يعتقد ان فندق"اريانا"، حيث كان يقيم السفير الأميركي السابق زلماي خليل زاد، يفوق في أهميته القصر الجمهوري. غادر السفير زلماي موطنه الأصلي، حازماً حقائبه نحو العراق، الذي بات سفيراً لموطنه الثاني أميركا فيه، وعلى رغم ذلك لم تتراجع أهمية الدور الذي تلعبه الديبلوماسية الأميركية في كابول، فهي لا تزال"تملك مفاتيح الأقفال، وتدير اللعبة بمهارة فائقة"، على حد قول ديبلوماسي أفغاني. ويضيف:"لديهم قدرات كبيرة على إيجاد التسويات، وقد اتضح ذلك جلياً منذ اجتماعات بون، التي أجريت في كانون الأول ديسمبر عام 2001. كما لعبوا دوراً بارزاً في اجتماعات"لويا جيرغاه"المجلس الأكبر، وتمكنوا من جمع الفرقاء الأفغان حول الطاولة". لاعبون آخرون هل الأميركي اللاعب الدولي الوحيد في حلبة"البوزكاشي"الأفغانية؟ لا يبدو ذلك، فثمة لاعبون دوليون آخرون، أبرزهم روسيا، المحتل السابق، التي لا تزال ترى في أفغانستان"امتداداً لأمنها القومي"، بيد أنها باتت أضعف من أن تؤدي دوراً سياسياً أو عسكرياً قوياً، سواءً في محيطها القريب، أم في الساحة العالمية، حتى أنها فقدت نفوذها القوي في الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي. وعلى رغم ذلك لا يزال للروس حضورهم في المشهد السياسي الأفغاني، فهم كما يقول الديبلوماسي الأفغاني:"يلعبون على التناقضات الأميركية، مستفيدين من خبرتهم الطويلة في الساحة الأفغانية، وأيضاً من خلال بعض الرفاق السابقين في دوشانبي عاصمة طاجيكستان، أو طشقند أوزبكستان أو عشق آباد تركمانستان، فهذه الدول على رغم أنها تجاور أفغانستان شمالاً، لكنها ضعيفة وفقيرة، إلى درجة عدم وجود مطامح لها، في ان تكون لاعباً في ساحتها السياسية". اللاعب الآخر أوروبي، ويتمثل في محور فرنسا - ألمانيا، الذي يلهث وراء اللاعب الأميركي، منافساً، على أمل ان يجد له مواطن قدم في مناطق نفوذه، مرتدياً ثوب"محرر شيكات المساعدات". فأينما وضعت قدمك في أفغانستان وجدت مدرسة أو منشأة، مزينة بعبارة"شيدت بتمويل فرنسي أو ألماني"أو غيرهما من الدول الباحثة عن نفوذ. الجار الجنوبي الطامع ثمة لاعبون آخرون، قد يفوقون أطرافاً دوليين قوة ونفوذاً في الساحة الأفغانية، وهم إقليميون، وتحديداً الجارتين في الجنوب والغرب، باكستان وإيران، وربما يعد البلدان اللاعبين الثاني والثالث على الساحة الأفغانية، بعد أميركا. ويبدو من نافلة القول الحديث عن عمق الاختراق الباكستاني للسياسة الأفغانية، الذي تعاظم منذ الغزو السوفياتي للبلاد عام 1979، والدور اللوجستي الذي لعبته في دعم المقاتلين الأفغان، حتى خروج المحتل عام 1989، ومن ثم دعمها للقائد الأفغاني قلب الدين حكمتيار، في حربه على حكومة برهان الدين رباني، ثم تخليها عنه، لمصلحة طلاب العلوم الشرعية"طالبان"المد الآتي من المدارس"الديوبندية"في باكستان، التي تأسست كتنظيم في تموز يوليو 1994، برعاية وزير الداخلية الباكستاني آنذاك الجنرال نصير الله بابر. وبقيت القيادة الباكستانية تمثل"العراب"للحركة، حتى مع تغير الحكام في اسلام آباد، بخروج رئيسة الوزراء بينازير بوتو من الحكم، ومجيء حكومة نواز شريف عام 1996، وخسارة الأخير الحكم عام 1999، بعد انقلاب برويز مشرف، الذي أصر على المضي قدماً في دعم حركة"طالبان"، التي باتت تسيطر على نحو 90 في المئة من البلاد. وعلى رغم ان علاقة"طالبان"بالحكام في إسلام آباد تأثرت بعد الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، والغزو الأميركي في تشرين الأول أكتوبر من العام ذاته، لكن تلك العلاقة لم تنته، على الأقل من وجهة نظر بعض الأفغان، الذين ما زالوا يرون في باكستان"الداعم الأول"للحركة. فپ"طالبان"ذات الانتماء القومي"البشتوني"لها امتداد كبير في العمق البشتوني الباكستاني يقدر إجمالي عدد البشتون بنحو 28 مليون نسمة، 20 مليوناً يعيشون في باكستان، وثمانية ملايين في أفغانستان. كما ان القادة في إسلام آباد يسعون إلى الإبقاء على أوراقهم في أفغانستان، من أجل تحقيق مكاسب سياسية لبلادهم، لعل أبرزها الاحتفاظ بإقليم"الهندوكاش"، الذي اقتطعه المحتل البريطاني من أفغانستان، وضمه إلى باكستان. ولعلهم يفكرون في ضم أجزاء أخرى من أفغانستان إلى بلادهم، خصوصاً المناطق الجنوبية والشرقية، ذات الغالبية البشتونية. وللجار الغربي طموحه في الغرب هناك اللاعب الإيراني، الذي يسعى إلى اختراق أفغانستان مذهبياً، من خلال الشيعة الأفغان، الذين يتمركزون في المناطق الغربية من البلاد، وصولاً إلى العاصمة كابول، مشكلين نحو 15 في المئة من تعداد السكان. وفي المقابل يؤكد شيعة أفغانستان ولاءهم لوطنهم، وان علاقتهم بإيران لا تتجاوز الرابط المذهبي. ولا يخفي بعضهم عداءه لإيران"التي عاملت اللاجئين الأفغان، بمن فيهم الشيعة، بقسوة بالغة جداً، إذ حرمتهم من التعليم والعمل الرسمي، طوال سنوات إقامتهم فيها، كما أنها تنازلت أحياناً عن دعم الشيعة الأفغان، في مقابل مصالحها السياسية"، على حد قول أحد قادة الأحزاب الشيعية الأفغانية. وهناك الرابط اللغوي، فغالبية الأفغان يتحدثون اللغة الفارسية، ومن كل القوميات، حتى غدت الفارسية اللغة شبه الرسمية في البلاد، متقدمة على"البشتو". وفي هذا الصدد تنشط المدارس الإيرانية والبعثات الإيرانية في مناطق عدة من البلاد، خصوصاً في ولايات هيرات وفراه ونيمروز المحاذية لها شرقاً. وتنتاب الأفغان مخاوف كبيرة من الدورين الباكستاني والإيراني، خصوصاً لناحية الانتشار الكثيف لرجال استخبارات البلدين في ولايات أفغانستان كافة، ويرصد المسؤولون الأفغان نشاطهم بعناية خاصة، عبر معلومات تأتي غالباً من الاستخبارات الأميركية، المتغلغلة هي الأخرى في البلاد. العرب الغائبون يسجل العرب غياباً ملحوظاً في أفغانستان. وأبرز مظاهر هذا الغياب هو ضعف التمثيل الديبلوماسي العربي في كابول، فلا تتجاوز البعثات الديبلوماسية العربية أصابع اليد، فضلاً عن غياب شبه كامل عن التأثير في مجريات الأحداث في الساحة الافغانية، بعد ان كان لهم حضور بارز طوال سنوات الحرب ضد السوفيات في الثمانينات من القرن الماضي، عبر الدعم الشعبي والرسمي العربي للمجاهدين. ولكن الدور العربي انكفأ فور خروج الغزاة، خصوصاً الرسمي منه، وإن كان الحضور العربي الشعبي عاد إلى البروز مرة أخرى في منتصف التسعينات، مع عودة قائد تنظيم القاعدة أسامة بن لادن إلى كابول عام 1996، بعد خروجه من السودان، ليتخذ من البلاد، التي باتت تحت سلطة"طالبان"، قاعدة لانطلاق عناصر تنظيمه حول العالم، وصولاً إلى ضربة الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. وعاد الوجود العربي إلى الانحسار في أفغانستان بعد هزيمة"طالبان"وخسارتها الحكم، حتى بات العربي يشعر بأنه غير مرحب به لدى الأفغان، الذين أراد بعضهم محاكمة العرب عموماً بجريرة تحالف القاعدة مع"طالبان"، وما ارتكبه الطرفان من أخطاء هناك. واتضحت النقمة على العرب في أحداث متفرقة شهدتها البلاد فور سقوط طالبان، أبرزها ما وقع في قلعة جانغي في مدينة مزار شريف، حيث قتل مئات العرب المعتقلين داخل القلعة، بطرق وصفها مراقبون دوليون بپ"الوحشية"، وأقر مسؤولون أفغان، كانوا ضمن تحالف الشمال، بوقوع انتهاكات في"جانغي"، أبرزهم والي بلخ عطا محمد، الذي طالب بپ"تحقيق دولي في ما جرى". على رغم ذلك فإن المستمع إلى حديث المسؤولين الأفغان يلمس عتباً على العرب، خصوصاً لناحية ضعف دورهم في أفغانستان. ويبدو أنهم يرون من العرب"طوق نجاة حين تعلو أمواج السياسة أمام قاربهم"، كما فسر ذلك ديبلوماسي عربي.