حركة "طالبان" باتت مُدمرة وخارج لعبة الحكم. الشيوعيون عادوا الى السلطة في كابول. أميركا استحوزت على النفوذ العسكري على الاراضي الافغانية في مقابل امتلاك روسياوايران خيوط النفوذ السياسي، فيما باكستان معزولة أفغانياً ومكروهة من كل الفصائل. هذه حصيلة سنة من الحرب في أفغانستان. وفي موازاة ذلك دخلت الدول المتورطة سابقاً في النزاع الافغاني: باكستانوإيران وطاجيكستان وأوزبكستان وإلى حد ما الهند، في صراع استخباري وديبلوماسي جديد، سلمي هذه المرة. بعد نحو عام من شن واشنطن الحرب على حكام أفغانستان السابقين وتدمير ميليشيا طلبة الدين التي حكمت البلاد خمس سنوات، تحققت نبوءة القائد عبدالحق، الزعيم البشتوني الذي أرسلته وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية سي آي اي الى داخل أفغانستان لتأليب قبائل البشتون ضد "طالبان" في عملية انتهت بإلقاء القبض عليه وإعدامه. كان عبدالحق حذّر واشنطن علناً ومراراً من التدخل العسكري الخارجي باستخدام فصائل المعارضة الأفغانية. كان هذا القائد السابق للمجاهدين ضد السوفيات، مقتنعاً بإمكان إسقاط نظام "طالبان" بسهولة نسبياً، عبر الأسلوب ذاته الذي أوصلها الى السلطة وهو: ضخ الأموال الى شيوخ قبائل البشتون لتسحب دعمها للميليشيا الإسلامية. وحذّر من أن الخيار الثاني، أي التدخل العسكري الخارجي، سيعني استيلاء تحالف الشمال على كابول، وعودة الروس الى البلد التي فروا منها مذلولين قبل عشر سنوات. الروس يسقطون كابول قبيل سقوط العاصمة الأفغانية في يد قوات تحالف الشمال في 13 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، كان المتفائلون من المحللين والمراقبين في واشنطن، وخصوصاً في إسلام آباد، يعتقدون أن الحكومة الأميركية لن تسمح بدخول المعارضة الشمالية المكونة من الأقليات، الى العاصمة غداة انسحاب "طالبان" منها. وكانت التصريحات الرسمية الأميركية المتكررة، خصوصاً من وزير الخارجية كولن باول، تؤكد تشكيل حكومة ذات تمثيل واسع تستوعب الغالبية البشتونية التي افرزت "طالبان". كان القادة العسكريون الأميركيون منهمكين تماماً في عملية مطاردة أسامة بن لادن فلم يتنبهوا الى أن حلفاءهم الجدد في موسكو خرقوا الاتفاق القاضي بانتظار تشكيل حكومة ائتلافية. وباستخدام السلاح الروسي، والأموال الأميركية، وتحت إمرة رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الروسي الماريشال فيكتور كفاشنين ونائب رئيس الاستخبارات الروسية فيكتور كوموغروف وعدد من نخبة المستشارين العسكريين الروس على الأرض، حضت موسكو قوات تحالف الشمال على ترك مواقعها على مشارف العاصمة الأفغانية، واستغلال فرصة الفراغ السياسي والأمني في كابول عقب انسحاب "طالبان"، للسيطرة على العاصمة. ونظراً إلى أن خبرة قادة تحالف الشمال كانت عسكرية بحتة، كان في انتظارهم في العاصمة الأفغانية عدد من الأعضاء السابقين في الحزب الشيوعي الأفغاني الموالي لموسكو، الذي حكم البلاد في السبعينات والثمانينات، كي يباشروا فوراً وتحت حماية سلاح تحالف الشمال، السيطرة على الوزارات والمرافق الحكومية، استباقاً لأي ضغوط دولية معارضة. ولا مبالغة في القول ان روسيا تتمتع اليوم، بأقوى نفوذ سياسي في العاصمة الأفغانية. فالشرطة الأفغانية، والجيش الأفغاني طور التشكيل، والسياسة الخارجية للبلد، تقع كلها ضمن نفوذ موسكو عبر وزراء تحالف الشمال الأقوياء. وملأ الشماليون الوزارات الأفغانية بمسؤولين أفغان شيوعيين كانوا يديرون تلك المرافق في عهود الرؤساء الشيوعيين السابقين امثال بابراك كرمال ونجيب الله، وحتى سقوط الحكم الشيوعي في 1992. ويُذكر أن غالبية كوادر حزب الشعب الديموقراطي الأفغاني الشيوعي كانت من الأقليات الطاجيكية والأوزبكية والهزارة، بينهم عدد محدود من البشتون، مثل الدكتور نجيب الله، آخر رئيس شيوعي لأفغانستان الذي أعدمته "طالبان" فور استيلائها على كابول عام 1996. ولم تكن كل الأقليات الأفغانية موالية للشيوعيين أو للسوفيات، ذلك أن الطاجيك، الذين يمثلون نحو ربع سكان أفغانستان، شاركوا باندفاع البشتون نفسه في القتال ضد الروس في الثمانينات. الشيوعيون الأفغان لم يكونوا يأملون في أحسن توقعاتهم بأن يعودوا يوماً أصحاب نفوذ في كابول بعدما اجتمع العالم كله على إخراجهم منها. وعكس موقع الشيوعيين الأفغان على الانترنت، والمسمى "عصر جديد" www.asrejadid.org ارتياحهم إلى الوضع الراهن في كابول في بيان نشروه في آذار مارس الماضي. وورد في احدى فقرات البيان: "إن الغرب وأميركا، التي رأت مصلحتها في أفغانستان في هذه الجماعات الظلامية الإسلامية وأفادت من استخدامها ضد الحركات التقدمية واليسارية ... لا ترى اليوم أي خطر من جانب اليسار والاشتراكية". لم يبق لواشنطن سوى كارزاي وعلى عكس الانطباع السائد، فإن الولاياتالمتحدة تملك نفوذاً سياسياً محدوداً في أفغانستان، على رغم أنها اللاعب العسكري الوحيد في البلد من دون منازع. فنفوذ الأميركيين يقتصر على الرئيس حميد كارزاي وعدد صغير من مساعديه وحلفائه. وتتمتع واشنطن بعلاقة جيدة مع بعض زعماء الحرب الرئيسيين. لكن تاريخ هذه العلاقة قصير زمنياً وقائم على أرضية متحركة، ذلك أن زعماء الحرب معروفون بولاءاتهم المتغيرة، واعتمادهم على الرشاوى. كما أن معظمهم يتمتع بعلاقات استراتيجية أقوى مع موسكووطهران. ولعب تركيز واشنطن التام على مسألة ملاحقة أسامة بن لادن، دوراً أساسياً في فشلها في خلق نفوذ سياسي أقوى لها داخل أفغانستان، يماثل نفوذها العسكري. فهوس الأميركيين ببن لادن جعلهم يتجاهلون مسائل مهمة، مثل توسيع رقعة سلطة كارزاي داخل العاصمة الأفغانية وخارجها، عبر توسيع مهمات القوة الدولية للمساعدة على احلال الامن ايساف الى خارج كابول. فالرئيس الأفغاني لا يملك ميليشيات مسلحة ولا يمثل سوى نفسه. هذا أدى الى إضعافه ومعه كل أولئك الموالين لواشنطن. فتم اغتيال القائد البشتوني عبدالقدير، حاكم ولاية ننغرهار وحليف كارزاي الذي عينه نائباً له، أمام وزارته في كابول في وضح النهار. وسارع الرئيس الأفغاني بعدها الى طلب حراس أميركيين له، والتخلي عن حراسه المنتمين الى قوات تحالف الشمال. وجاءت المحاولة الجريئة لاغتيال كارزاي اخيراً، لتؤكد التهديد الجدي الذي بدأ يواجه نفوذ واشنطن السياسي داخل أفغانستان في حال لم تتدارك ذلك. ايران وتصفية الحسابات اما إيران فهي الدولة الثانية، بعد موسكو، لجهة امتلاك النفوذ السياسي في أفغانستان اليوم. ولم تستطع طهران التدخل في أفغانستان أثناء الجهاد ضد السوفيات لأنها كانت منشغلة بالحرب مع العراق، ولم تكن ظروفها العسكرية والمالية تسمح بدعم فصائل أفغانية، على رغم معارضتها الغزو السوفياتي لأفغانستان. وترك ذلك المجال أمام الولاياتالمتحدةوباكستان والدول الخليجية لتخلق نفوذاً لها بين المجاهدين. كما أن فصائل المقاومة الأفغانية التي اتخذت من إيران مقراً لها، لم تحصل على السلاح والمال من الغرب مثلما حدث مع الفصائل المقيمة في باكستان. ولم يتلق المليونا لاجئ أفغاني في إيران الاهتمام الدولي نفسه الذي حصل عليه نحو ثلاثة ملايين نازح في باكستان. اكتفت طهران في الثمانينات بدعم أقلية الهزارة الشيعة، واستضافت نحو ثماني تنظيمات للشيعة الأفغان. لكن مع اقتراب موعد انسحاب السوفيات من أفغانستان في 1989، وحّدت طهران تلك الفصائل في "حزب الوحدة"، وطالبت الأممالمتحدة بإشراكه في المفاوضات الدولية لتشكيل حكومة أفغانية موسعة، لكن المجتمع الدولي لم يعرها اهتماماً بسبب صغر حجم الأقلية الشيعية. دخلت إيران في الصراع الأفغاني بشكل جدي في وقت متأخر، في منتصف التسعينات وأواخرها، عبر تكثيف شحنات السلاح الى أحمد شاه مسعود عبر طاجيكستان. والسبب الرئيس في ذلك، هو بحسب الكثير من المراقبين في طهران، "خيانة" باكستان اتفاقاً ابرمته مع ايران لبذل الجهد المشترك لإحلال السلام في أفغانستان. ففي 1996، كانت إيران ترعى مبادرة سلام مع الرئيس الأفغاني وقتذاك برهان الدين رباني لتشكيل حكومة موسعة، وفجأة هاجمت "طالبان" كابول واستولت عليها وأسقطت حكومة المجاهدين. طهران اعتبرت ذلك خطوة باكستانية لإزاحة رباني. وعندما كان رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف يقوم بزيارة رسمية الى طهران صيف 1997، استقبلته صحيفة "جمهوري إسلامي" بافتتاحية غاضبة جاء فيها: "لم تترك باكستان مجالاً للثقة بيننا وأضرت بمكانتها بين الشعب الإيراني. لا يمكننا أن نقبل برؤية باكستان التي تخلق إشكالات لأمننا القومي". ولم تكن باكستان، المحاطة بالهند شرقاً وبأفغانستان غير مستقرة شمالاً، مستعدة لأن تخسر إيران في الغرب. ولمداراة الإيرانيين، طرحت إسلام آباد صيف 1998 مبادرة إيرانية - باكستانية مشتركة توجه بموجبها وفد مشترك من ديبلوماسيي البلدين الى قندهار معقل "طالبان"، ومزار الشريف أحد معاقل تحالف الشمال، لإجراء مفاوضات مع أطراف النزاع الأفغاني. ولم تمض بضعة أسابيع حتى دخلت قوات "طالبان" مزار الشريف وقتلت الديبلوماسيين الإيرانيين السبعة في القنصلية الإيرانية في المدينة. في حينه، اقتنع المسؤولون الإيرانيون بأن إسلام آباد خدعتهم بالتظاهر بطرح مبادرة للسلام ريثما تستعد "طالبان" لهجوم مباغت، علماً بأن اسلام آباد تقول إن لا علاقة لها بما فعلته الحركة ونددت بمقتل الديبلوماسيين الإيرانيين. على خلفية هذا التاريخ الحديث نسبياً في التدخل في أفغانستان، فإن نفوذ إيران داخل أفغانستان اليوم، مثير للإعجاب. فمجدداً، وبعد انقطاع طويل، عادت كابول الرسمية تتكلم باللغة الفارسية على يد طاجيك وادي بنجشير، بعدما كانت اللغة البشتونية سائدة في أروقة الدولة. وبدأت القنصليات الإيرانية والوفود القادمة من طهران تظهر في مدن الشمال. وأكملت إيران خلال الشهور الماضية إنشاء طريق سريع يربط مدينة هيرات الاستراتيجية غرب أفغانستان بولايتي خراسان وسيستان الايرانيتين. وبدرجة أقل حدة، ازداد كذلك نفوذ كل من طاجيكستان وأوزبكستان وأيضاً الهند في أفغانستان ما بعد "طالبان". ومعلوم ان الهند لا تملك حدوداً مشتركة مع أفغانستان، لكنها دخلت في شكل غير مباشر في الشأن الأفغاني عبر البوابة الروسية، ودعمت تحالف الشمال بالعتاد والمال، نكايةً بعدوتها باكستان التي كانت تدعم "طالبان". أما دوشانبه وطشقند، فنفوذهما في افغانستان مرتبط بروسيا. صراعات متجددة كان من المتوقع أن يؤدي التدخل الأميركي في أفغانستان الى سحب البلاد من أتون الصراع وحمايتها من تدخلات القوى الإقليمية المجاورة وتحويلها الى منطقة نفوذ أميركي. وزاد هذا الاعتقاد عندما قامت في كابول حكومة لا علاقة لها بالباكستانيين، إضافة الى تهديدات واشنطن الصارمة لإيران لكف يد الاخيرة عن التدخل في أفغانستان. لكن الواقع على الأرض، يشير اليوم إلى دخول أفغانستان مرحلة جديدة من الصراع والتدخلات الإقليمية التي لم يتغير هدفها، وهو خلق النفوذ وحماية المصالح. لكن ما تغير هو الأسلوب. فقبل التدخل الأميركي، كان الصراع الإقليمي يأخذ شكل العنف والحروب بالوكالة عبر دعم الفصائل الأفغانية المتناحرة. أما اليوم، فالصراع الجديد ديبلوماسي وسياسي واستخباري بحت. ولا يمكن أن يكون عسكرياً لسبب بسيط هو ان واشنطن تحتفظ بدور اللاعب العسكري الوحيد في أفغانستان. وثمة أطراف ثلاثة في هذا الصراع: المعسكر الروسي الذي يشمل موسكو وحلفاءها، وبينهم الهنود. والمعسكر الثاني الذي يشمل أولئك المحسوبين على الولاياتالمتحدة، مثل إسلام آباد ودول خليجية، مع فارق بسيط هو أن الأميركيين الآن غير مهتمين بأي جانب من جوانب هذا الصراع، في ما عدا ملاحقة بن لادن ومراقبة التحركات الإيرانية. أما المعسكر الثالث فهو طهران التي تتبع أجندة خاصة بها في أفغانستان لا تتفق في كل جوانبها مع أجندة موسكو، على رغم أن كلتيهما كانت في خندق واحد مع تحالف الشمال. المسار الباكستاني - الإيراني المفاجأة هي أن المسار الباكستاني - الإيراني ربما كان من أشد تلك المسارات سخونةً حالياً في ما يتعلق بهذا الصراع الخفي. ويأتي ذلك على رغم جهود حثيثة تبذلها القيادات السياسية في البلدين من أجل إعادة الحرارة الى العلاقات الحميمة تقليدياً وتاريخياً بينهما والتي تأثرت بسبب أفغانستان. ومن تلك الجهود زيارة وزير الداخلية الباكستاني وأحد المقربين من الحكم العسكري الجنرال المتقاعد معين الدين حيدر الى طهران من أجل دعوة الرئيس محمد خاتمي الى إنهاء مقاطعته لباكستان، وحضه على القيام بأول زيارة له لإسلام آباد منذ توليه السلطة قبل خمس سنوات. وللمرة الأولى، أعلن خاتمي قبوله الدعوة "لزيارةٍ قريبة" لم يُحدد موعدها بعد. السبب وراء هذا التناقض في المواقف يرجع الى أن صقوراً داخل الأجهزة الاستخبارية في كل من البلدين يستمرون في النظر بعين الريبة الى الآخر. وعلى رغم أن إسلام آباد وطهران أعادتا الحرارة الى علاقتهما عقب سقوط "طالبان"، فإن بعض ضباط الاستخبارات في البلدين يرون أن ثمة صراعاً جديداً من نوع آخر انطلق في أفغانستان، وكلاهما يريد أن يكون مستعداً له. المخدرات فالاستخبارات الباكستانية سربت على ما يبدو تقريرين لصحف محلية في الأسابيع الماضية، أحدهما مدعّم بأرقام هواتف داخل إيران وبأسماء قيل إنها لضباط الحرس الثوري الإيراني. أحد التقريرين، اتهم إيران بالتعاون مع عملاء هنود في إقامة مصنع لإنتاج الهيرويين في مدينة زهدان، غرب إيران، وتهريبه الى باكستان عبر مقاطعة هيرات الأفغانية الخاضعة لزعيم الحرب اسماعيل خان المعروف بقربه من إيران. التقرير المنشور في صحيفة باكستانية استند الى "مصادر رسمية" ذكرت أن إسلام آباد لحظت زيادة في كمية الهيرويين المهرب من باكستان الى دول الخليج وتركيا وأوروبا، على رغم أن إنتاج باكستان من الخشخاش وصل تقريباً الى الصفر في العام الماضي، بحسب شهادات دولية، بعد حملة مكافحة صارمة شنتها السلطات ضد مراكز إنتاج الخشخاش في البلد. واتهم التقرير عناصر استخبارية إيرانية بمحاولة تشويه سمعة باكستان وباستخدام عائدات المخدرات في دعم تنظيمات دينية باكستانية متشددة. اما التقرير الثاني فاتهم إيران، طبقاً ل"مصادر رسمية باكستانية"، بتهيئة وزير الدفاع الأفغاني محمد قاسم فهيم وهو أحد أقوى زعماء الحرب في تحالف الشمال، لاحتواء الرئيس كارزاي البشتوني المدعوم أميركياً. كما اتهم التقرير صراحةً عناصر استخبارية إيرانية بالتورط مع فهيم في مقتل نائب الرئيس الأفغاني عبدالحق. واللافت أن التقريرين سُربا الى الصحف الباكستانية خلال شهر واحد، في تموز يوليو الماضي، ما يُشير الى صحة المعلومات الواردة من مصادر عدة بأن اشتداد الصراع الاستخباري في أفغانستان بين أطراف المصالح المختلفة هو تطور حديث نسبياً، أتى مترافقاً مع استتباب الأمور في أفغانستان على ما هي عليه راهناً. كاتب وصحافي باكستاني.