يسود الأوساط الشعبية في كردستان العراق تذمر صامت إزاء ما يتردد عن عودة المتحالفين مع النظام السابق إلى تبوؤ المراكز وإشغال المناصب في الإدارات القائمة في الإقليم الفيديرالي. كانت الحكومة العراقية السابقة عمدت، في قتالها ضد الحركة الكردية، إلى إنشاء شبكة واسعة من المتعاونين معها من الأكراد. وتشكلت تلك الشبكة أساساً من المسؤولين والموظفين والعاملين والمتعاونين مع الإداة المحلية للحكم الذاتي الذي كان النظام فرضه من طرف واحد. وعلى أطراف تلك الإدارة ومن ورائها كان هناك الكثير من أساتذة الجامعات ومعلمي المدارس والمدراء والمثقفين والكتاب والصحافيين ممن نسجوا علاقة غير سوية من الأجهزة الحكومية. والأهم كان ذلك الجيش الكبير من المنضويين في ما سمي ب"فرسان صلاح الدين"الذين كانت مهمتهم ملاحقة المقاتلين الأكراد من البيشمركة ومعاقبة المتعاطفين مع الحركة الكردية. أطلق الأكراد على هؤلاء مجتمعين لقب"الجحوش"والمقصود به كل من تعاون مع حكومة البعث وساعدها في قمع الحركة الكردية. والحال أن هؤلاء ساهموا مساهمة مباشرة في إلحاق الأذى بعدد كبير من الناس. وفي الحملات العسكرية التي كان الجيش العراقي يقوم بها في المناطق الكردية كان الجحوش يتقدمون الصفوف ويقومون بدور المرشد إلى البيوت في المدن والقرى الكردية والأماكن الجبلية التي كان البيشمركة يختبئون فيها. وشارك رؤساء الوحدات العسكرية في فرسان صلاح الدين وكذلك المستشارون في أجهزة الحكم الذاتي مشاركة مباشرة في اغتيال وتصفية الكوادر السياسية الكردية والعناصر النشيطة في الأحزاب الكردية. وفي حالات كثيرة كان المتعاونون مع أجهزة الأمن الحكومية ينقلون معلومات استخبارية عن الناس فيتم اعتقالهم وتعذيبهم. وكان للجحوش دور كبير في حملات الأنفال الرهيبة التي أدت إلى مقتل أكثر من مئة وثمانين ألفاً من السكان الأكراد. بعد إطاحة حكومة الرئيس العراقي صدام حسين وقيام حكومة كردية محلية بزعامة الحزبين الكرديين الذين يقودهما جلال الطالباني ومسعود البرزاني كانت ثمة خشية من أن يعمد الناس إلى القيام بانتقامات واسعة من الجحوش. وبالطبع كانت هناك رغبة جارفة في أن تقوم السلطات المحلية للحكومة الكردية بتعقب هؤلاء والإتيان بهم إلى القضاء لمحاكمتهم. كانت المحاسبة، ولم تزل، مطلباً ملحاً للناس. ما حصل عليه الناس كان شيئاً آخر مخالفاً تمام الاختلاف لتوقعاتهم. بدلاً من محاكة الجحوش ومحاسبتهم وفضح تعاونهم مع النظام البعثي، ظهروا مكرمين في صفوف الأحزاب الكردية الحاكمة. وأعيد إليهم الاعتبار وتسلموا الوظائف بما فيها المناصب الكبيرة في الحكومة والجيش البيشمركة . أما من لم يرد البقاء في المنطقة لتورطهم المباشر في عمليات القتل والتعذيب فقد ساعدهم الحزبان في الخروج من البلاد آمنين، وعلى رأس هؤلاء جعفر البرزنجي الذي كان رئيساً للحكم الذاتي وورد اسمه في تقارير منظمات حقوق الإنسان بوصفه المسؤول عن مقتل العشرات من الناس. أصبح بعض الجحوش مستشارين وبعضهم دخل البرلمان المحلي والبرلمان العراقي في بغداد ممثلين عن الأحزاب الكردية وأسند إلى الكثيرين منهم مناصب حكومية وأمنية. البعض الآخر استلم مناصب ثقافية وإعلامية من رئاسة تحرير صحف وإدارة تلفزيونات ومراكز للدراسات. وخصصت لهؤلاء جميعاً مساكن فخمة وصرفت لهم رواتب ضخمة لايحلم بها أي مواطن كردي عادي ممن صرف عمره في مقارعة النظام. وتبرر السلطات المحلية هذه الإجراءات بالرغبة في ممارسة سياسة تقوم على التسامح ونسيان الماضي. ولايعترض الناس على فكرة التسامح في ذاتها غير أن ما يجري على أرض الواقع لا يعد في نظرهم تسامحاً بل مكافأة لمن أخطأوا بحق الناس وارتكبوا الجرائم بله الخيانة. ثمة فرق بين أن يتم العفو عمن أذنب وأخطأ وبين أن يجري تعيينهم في مناصب وتسليم شؤون المجتمع إليهم. سلوك كهذا يتضمن خطورة تحويل العملاء والخونة من المرتبطين بالنظام البعثي إلى نموذج يحتذى. هناك الإيحاء الذي يتم تكريسه بين الناس وهو أن هؤلاء قاموا بعمل جيد يستحقون عليه التكريم والثواب بدلاً من المحاكمة والعقاب. انتقال معظم قادة فصائل الجحوش في"فرسان صلاح الدين"إلى صفوف الأحزاب الكردية لم يتم على أساس فكري وسياسي أو نتيجة اقتناع ببرنامج ونهج هذه الأحزاب. وهو لم يتم في أثر الاعتراف بالذنب والمطالبة بالصفح من الناس والزعامات الكرية على السواء. لقد انتقل هؤلاء إلى الاحزاب الكردية بعدما فقدوا الموقع الذي كانوا يستمدون منه القوة والمال والنفوذ. بسقوط صدام حسين، سيدهم الذي كان يغدق عليهم بالأموال، انهار السقف الذي كان يحميهم ويخفيهم عن الأنظار فانتقلوا إلى الأحزاب الكردية لتأمين سقف جديد يحميهم ويخفيهم. في الحالين لا يتعلق الأمر بموقف سياسي أو فكري بل بتبعية وارتزاق. إنه تبديل للمواقع لا أكثر. الكثير من هؤلاء يمجدون الآن الزعماء الأكراد ويشيدون بهم وبآباءهم وبالحركة الكردية. هم كانوا قبل ذلك فعلوا الشيء نفسه مع صدام حسين. والمثقفون والكتاب منهم كانوا يهدون كتاباتهم إلى الرئيس العراقي السابق بعبارات تصرخ بالولاء والتبعية والإخلاص له ولحزب البعث وسياسته ورسالته. أحدهم كان ألف قصائد طويلة تمدح صدام أمام معسكر قوشتبه الذي كان يجمع فيه المعتقلون الكرد في حملات الأنفال قبل سوقهم إلى الموت رمياً بالرصاص، وآخر رسم جدارية عملاقة لصدام حسين على مدخل أربيل، وثالث كان رئيساً لمركز الإعلام في الحكم الذاتي في لحظة قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية، ورابع كان رئيساً للجامعة في إربيل وأميناً لفرع حزب البعث فيها وذائع الصيت بتعقب الطلاب الكرد الناشطين في الحركة القومية الكردية. هؤلاء الآن مستشارون لرئيس الإقليم ولوزارة الثقافة ومسؤولون إعلاميون. وأتيح لأحدهم إنشاء رابطة ثقافية وعقد ندوات تحت عنوان الفكر القومي الكردي. وحضر إحدى الندوات مسؤول أميركي ما دفع بالمؤرخ واللغوي الكردي الشهير عبد الرقيب يوسف إلى إرسال ورقة لوم مريرة إلى الأميركيين يعاتبهم بالقول: أيها الأميركان، لقد حررتمونا من حكم الطاغية صدام حسين ولكنكم تفرضون علينا الآن عملاءه. يرى الناس العاديون في كردستان أن التعامل مع المتواطئين مع النظام السابق وتسليمهم المسؤوليات والمناصب خطأ سياسي كبير ترتكبه الإدارة الحاكمة في إقليم كردستان. إنه ليس تسامحاً بل تشجيعاً للرذيلة السياسية. هؤلاء كانوا جزءاً من نظام دموي. كانوا شرايين صغيرة ولكن فعالة تعزز دورته الدموية. لولا هذه الشرايين ما كان أمكن للنظام أن يستمر في قمع الأكراد بتلك الشراسة المهلكة. اللجوء إلى تبرئة هؤلاء وغسلهم وإعادة تشغيلهم في الماكنة الحكومية، فضلاً عن كونه انتهازية رخيصة وسقطة أخلاقية فاقعة فإنه يحول السياسة إلى صفقات تجارية وشطارة، أي بالضبط ما كان يفعله نظام صدام حسين. الآلية نفسها تستعاد هنا ولكن بثوب كردي. آلية تجعل من السياسة مكاناً للفساد ومن السياسيين ثلة من الماكرين ممن يرفعون شعارات فخمة يرتبون من تحتها كل شيء على طريقة رجال المافيا. * كاتب كردي.