إحدى أكبر عقبات الوحدة العربية، عدم تصدي الفكر الأيديولوجي العربي للتعديات المتغايرة الإثنية والطائفية والمذهبية داخل الأمة العربية، أو التعامل معها باعتبارها انقسامات هامشية لا تهدد وحدة الأمة. لكن مسار التاريخ العربي المعاصر أثبت جذرية هذه الانقسامات ودورها الأساسي في الحركات السياسية منذ مطلع القرن الماضي إلى الآن. من هنا، يمكن إدراج كتاب أوفرا بينغيو «كرد العراق، بناء دولة داخل دولة» (منشورات دار الساقي - بيروت 2014)، في إطار الأبحاث الهادفة لدراسة الواقع السوسيولوجي والتاريخي للعالم العربي، بإضاءته على المسألة الكردية التي شغلت حيزاً كبيراً في تاريخ العراق الحديث والمعاصر. لم يشرع الكرد في كتابة تاريخهم الخاص، في رأي المؤلفة، إلا في اواخر القرن السادس عشر، ويعيد الباحثون أصول الكرد إلى هجرة إيرانية في القرن الأول قبل الميلاد إلى المنطقة التي يعيشون فيها الآن، ويمثل هؤلاء أمة واحدة، وقد عاشوا بعد بروز الكثير من الأمم الإمبراطورية وزوالها. أحدث الوثائق التي وردت فيها كلمة الكرد ظهرت في بداية العصر الإسلامي في رسائل متبادلة بين الإمام علي ووالي البصرة. أما اسم كردستان فيشير اليوم إلى منطقة واسعة تمتد من جبال طوروس شمالاً إلى سهول ميزوبوتاميا جنوباً. في العصر الحديث تعرض مصطلح الكرد إلى خطر الزوال فقد منع مصطفى كمال المدارس والجمعيات والمطبوعات الكردية، أو استخدام الأسماء الكردية على بطاقات الهوية، كما منعت سورية عام 1963 إنشاء المدارس في مناطق الكرد. من الناحية القومية يمكن تعريف الكرد بأنهم «أمة من دون دولة تتمتع بكل خصائص الأمة» تكونت قبل المفهوم المعاصر للأمة والفكر القومي، وقد قسّم موطنهم بين تركياوإيرانوالعراق وسورية والاتحاد السوفياتي. وعامل الباحثون الكرد على أنهم جزء لا يتجزأ من هذه الدول القومية، إلا أن كرد العراق يعدون في الحقيقة من أكثر اللاعبين الكرد نشاطاً ومأسوية ونجاحاً ومن دون دولة، موضوعاً للبحث. فحتى أواسط الستينات من القرن الماضي كانت الإشارات إلى الكرد، في معظمها، في إطار الحديث عن العراق نفسه. لقد كان هناك بالفعل جدل خفي محتدم بين القصة العرقية وقصة الدولة والأمة، وأضفى زوال الاتحاد السوفياتي المزيد من الشرعية على الأصوات القومية في المنطقة، وعزز التطلعات الكردية نحو إثبات الذات وتقرير المصير. والأهم من ذلك كله كان حرب الخليج عام 1991 وتأسيس حكومة إقليم كردستان عام 1992. من بين كل المجتمعات الكردية تمكن كرد العراق من إنتاج أكثر الكتابات التاريخية والأدبية خصوبة، إذ نشر في العراق 2265 عنواناً مقابل 10 عناوين في تركيا و31 في سورية و150 في إيران. والظاهرة المثيرة هي تبلور ما يمكن أن يطلق عليه الهوية القومية ل «العراقي الكردي»، حيث صار النشاط السياسي لكرد العراق نموذجاً يحتذى في البلدان الأخرى. أما الدولة العراقية، فقد كان عليها منذ تأسيسها أن تكافح في وجه القضية الكردية. بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة بدأ الكرد يطالبون بالاستقلال وحققوا موافقة دولية في معاهدة سيفر عام 1920 التي وعدتهم بالحكم الذاتي وخيار تأسيس دولة كردية في كردستان، باستثناء المناطق الكردية الفارسية وترك الخيار لكرد الموصل للانضمام إلى الحكم الذاتي. لكن معاهدة سيفر ألغيت بمعاهدة لوزان 1923، إلا أن القوميين الأكراد اعتبروا هذه المعاهدة بمثابة اعتراف من قبل أوروبا بالقضية الكردية، ولم يتوقفوا عن السعي من أجل الحكم الذاتي الكردي. وحينما أصبح العراق دولة مستقلة كانت الأنظمة المتعاقبة أضعف من أن تنبذ هذه السابقة. لقد تضمنت الحالة الكردية في العراق اصطداماً بين القوميتين العربية والكردية، ما جعل التعايش أمراً صعباً طالما أن القوميتين كانتا تتصارعان على رقعة الأرض نفسها والمصادر الاقتصادية والبشرية نفسها، بما فيها أكبر آبار النفط في العالم والسدود ومحطات الطاقة وأراض زراعية خصبة. فما هي القيود التاريخية والجيوسياسية والبنيوية التي نشط الأكراد في ظلها؟ أبرز تلك القيود كان جيوسياسياً. فوقوع كردستان في منطقة مقفلة وعلى سلسلة جبلية وعرة نتج عنه تشظي الكرد المزمن على كل المستويات، لكنهم مع ذلك كانوا يمثلون تهديداً للحكومة المركزية أجبرها على منحهم تنازلات متعددة. نظرياً كان أمام الكرد ثلاثة خيارات: الاستقلال الكامل، فيديرالية بين المناطق العربية والكردية، الحكم الذاتي الكردي في إطار الدولة العراقية. وفي آذار (مارس) عام 1970، كانت نقطة التحول في الصراع العراقي - الكردي. فللمرة الأولى في تاريخ العراق، وبعد كفاح دام لأكثر من خمسين عاماً، اعترفت الحكومة العراقية بحق الكرد في الحكم الذاتي. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، بدأ المشروع القومي الكردي يظهر علامات النضج، بعد تدهور النظام البعثي وما نجم عنه من ضعف للدولة العراقية، وبعد انتهاء الحرب الأهلية الكردية والتقارب بين الولاياتالمتحدة والكرد، حتى يمكن القول إن السنوات السبع التي أعقبت سقوط البعث عام 2003، كانت سنوات الكرد الجيدة حيث استطاع هؤلاء أن يحتلوا مسرح السياسة العراقية في وقت كانوا يعملون على بناء كيانهم الخاص. كان الكرد أكثر نجاحاً من الحكومة المركزية في مشروع البناء، لكونهم أكثر تنظيماً من الناحية العسكرية والأقوى اقتصادياً والأشد تمسكاً بالأرض. ففي الوقت الذي كان العراق العربي يمر بأزمة هوية حادة جعلت من الصعب تطبيع العلاقات الداخلية بين مكونيه الرئيسيين – الشيعة والسنّة – كان الكرد يتمتعون بالحريات والحقوق السياسية التي حولت كردستان إلى نموذج يحتذى، ويعود الفضل في ذلك إلى ثقافة التسامح والمصالحة الوطنية في الإقليم. هكذا، نجح الكرد في حماية مصالحهم في الحكومة المركزية وفي حكومة إقليم كردستان، فكان لهم دور قيادي في الحكومة المركزية، حيث اعترف باللغة الكردية إلى جانب اللغة العربية وبإجراء استفتاء حول المناطق المتنازع عليها وأهمها كركوك. وقد شغلوا مناصب عالية في الدولة منها منصب رئيس البلاد الذي شغله الطالباني مرتين ومنصب وزير الخارجية الذي يشغله هوشيار زيباري ومنصب رئيس أركان الجيش الذي يشغله بابكر زيباري. في المقابل استمر الكرد في تطوير الهوية المستقلة لكردستان. كان للإقليم دستوره الخاص الذي صادق عليه برلمانه عام 2006، ونص على حق شعب كردستان في تقرير المصير واعتبار كركوك ومناطق معينة في ثلاث محافظات جزءاً من كردستان. وتضمن الدستور الاحتفاظ بقوات البيشمركة وتحديد علم الإقليم ونشيده الوطني. وافتتح الكثير من الدول بما فيها فرنسا وألمانيا وإيران وروسيا وتركيا ومصر قنصليات في أربيل. أما على الصعيد الاقتصادي، فقد تسارعت عمليات إعادة بناء البنية التحتية في كردستان فتم بناء مطار دولي في أربيل والسليمانية، الأمر الذي مكّن الكرد من توسيع علاقاتهم الخارجية إلى درجة لم يسبق لها مثيل. وفي عام 2007 وقعت حكومة كردستان اتفاقيات التنقيب عن النفط لمدة تصل إلى 25 سنة، وقيم تصل إلى 5 مليارات دولار، مع 35 شركة أجنبية. ومنحت الحكومة أكثر من 160 إجازة لمشاريع تصل كلفتها إلى 16 مليار دولار. في موازاة ذلك نمت المدن الكردية حيث تطاولت البنايات العالية ومراكز التسوق الحديثة والمراكز الرياضية والبنوك. وافتتحت الولاياتالمتحدة جامعة في السليمانية، وبحلول عام 2010 كان هناك سبع جامعات عاملة في كردستان. إلا أن ثمة تحديات خطيرة تواجه حكومة كردستان، منها بناء نظرة واضحة إلى مستقبل كرد العراق بين الفيديرالية والاستقلال، ومنها تسوية خلافاتها مع حكومة بغداد، وتحديد حدود إقليم كردستان، وحل مشكلة كركوك التي قد تتسبب في تدمير تحالفات ما بعد صدام حسين. فضلاً عن تحديات الفساد والقبلية والتمييز بين الجنسين وغياب الحريات السياسية. وعلى حكومة كردستان أن تواجه تهديدات جيرانها الذين يتخوفون من تحول حكومة كردستان إلى نموذج يحتذي به الكرد على أراضيها، كما أنه على الصعيد الدولي، لم تعترف أي دولة بكيانهم، وليس لديهم ممثلون دائمون في الأممالمتحدة. باختصار، لقد أبلى الكرد بلاء حسناً على كل الأصعدة بالمقارنة مع وضعهم قبل عقد من الزمن، إلا أنه لا يزال أمامهم الكثير من العقبات والمصاعب والمفاجآت غير المتوقعة. * كاتب لبناني