"عمود سرطان" هذا هو الاسم الذي يطلقه شباب الجامعات والمدارس الثانوية في مصر على السيجارة. يقول أحدهم للبائع في معظم محلات السوبر ماركت، والبقالة والأكشاك الموجودة بكثرة أمام وخلف وحول كل مدرسة وجامعة في مصر:"ناولني عمود سرطان". احمد ورفاقه طلاب في كلية التجارة في جامعة القاهرة، يشترون يومياً علبة سجائر"محلية"أي ماركة مصرية من الكشك المقابل لبوابة الجامعة، ويقتسمونها على مدار اليوم. وفي الأيام"الأكثر حظاً"كتلك التي تعقب الاعياد مثلاً- إذ يتقاضى كل منهم مبلغاً اضافياً من أهله، اضافة الى مصروفه - يشتري كل منهم علبة، ويا حبذا لو كانت"أجنبي". ويبدو أن التحذيرات المكتوبة على العلبة، من نوع"التدخين يسبب السرطان"وپ"التدخين يؤدي الى الوفاة"وغيرهما، لا تلفت انتباهم، أو ربما يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من علبة السجائر، الى درجة أنهم يتفكهون ويضحكون مقهقهين وهم يرون علامات الفزغ على وجه عم عباس كل يوم وهم يطلبون منه"عواميد السرطان". فبينما يتمتم هو قائلاً:"سلام قولاً من رب رحيم"يطمئنونه هم قائلين:"يا عم خليها على الله"بينما يشعلون"عواميد السرطان". يقول أحمد:"بدأت ادخن عندما كنت في الصف الاول الثانوي طبعاً القصة المعتادة: اصدقائي بدأوا قبلي، وشجعوني، جربتها، فأعجبتني. وكنت ادخنها بين الحين والآخر، أو بكلام ادق كلما توافر لدي مبلغ من المال يتيح لي شراء سيجارة وليس علبة. ومنذ التحاقي بالجامعة، وزيادة مصروفي، اصبح في مقدوري التدخين بانتظام". أحمد يؤكد أنه يعرف مضار التدخين، لكنه يؤكد أنه لا يفكر في الاقلاع عنه، يقول:"التدخين من الاشياء القليلة جداً، إن لم تكن النادرة، التي اتمتع بها". اما زميله تامر فيأخذ موقفاً أكثر عناداً تجاه التدخين:"كانوا يرغموننا في المدرسة الثانوية على حضور محاضرات سخيفة ومملة كل يوم خميس في مسرح المدرسة، وكانوا يدققون الحضور، ومن يتبين غيابه، يحسب له اليوم بأكمله غياباً، وكأنه لم يحضر إلى المدرسة أصلاً. وكانت معظم المحاضرات عن الصحة، ونسبة كبيرة منها عن التدخين. فكان المحاضر يظل يتحدث لنحو ساعة عن ضعف الوازع الديني، ورفاق السوء، ونقص التربية، والضغوط النفسية والاسرية ومحاولات الهروب من الواقع، ويعيدون ويزيدون في كلام مستهلك كان يدخل من اذننا اليمنى ليخرج من اليسرى". "وباء الأطفال" حديث الخبراء والأساتذة والاختصاصيين شجع تامر وزملاءه على الانضمام إلى ثلث شعب مصر من المدخنين نحو 19 مليون مدخن ومدخنة، وأربعة في المئة منهم دون سن الخامسة عشرة، ونصف في المئة منهم دون سن العاشرة. تامر وأحمد وزملاؤهما والآباء وربما الأمهات والمعلمون والأقارب يدخنون يومياً أكثر من 52 بليون سيجارة في أرجاء مصر، ويحتفلون كل ساعة بانضمام 25 مدخناً جديداً إليهم، معظمهم من الشباب والمراهقين والأطفال. وعلى رغم أن أحمد يقول إن خاله وزوج عمته توفيا قبل نحو عامين بسبب سرطان الرئة، وكانا من المدخنين المخضرمين، فإنه يبتسم بمرارة حين يعلم أن الكلفة السنوية لمعالجة الأمراض الناجمة عن استخدام التبغ في مصر تبلغ نحو 545 مليون دولار. ويقول:"طب يدونا شوية منها نحل مشاكلنا، ووعد نبطل السجائر". لكن أحمد لم يعرف من قبل أن 90 في المئة من حالات سرطان الرئة في مصر سببها التدخين. ويقول الجزائري إن ستة في المئة من المراهقين في مصر يدخنون، وإن هذه النسبة ترتفع إلى 15 في المئة بين المراهقين الذكور ممن يعملون وغير ملتحقين بالمدارس. وتؤكد الدراسات التي أجرتها وزارة الصحة المصرية أن غياب القدوة بين طلاب الجامعات هو السبب الرئيسي في إقبالهم على التدخين،"بل انّ الأشخاص الذين يتعين عليهم تقديم القدوة الإيجابية هم غالباً يدخنون، ف 45 في المئة من المعلمين المصريين و43 في المئة من الأطباء يدخنون". ويقول خبير الأوبئة في مكتب التدخين والصحة في مراكز مكافحة الأمراض في أتلانتا الولاياتالمتحدة الأميركية الدكتور ويك وارن:"الاسلوب الأمثل لمخاطبة الشباب والمراهقين في مجال التدخين يكون من خلال مجموعات شبابية من الفئات العمرية نفسها يتم تدريبها لتتجول على المدارس والجامعات لتتحدث مع الشباب والمراهقين حديث الشاب للشاب، وهو بعيد عن اسلوب الوعظ والإرشاد". ويشير إلى أهمية إصدار وتطبيق القوانين الخاصة بمنع التدخين في الأماكن العامة، لا سيما في المدارس والجامعات، إذ أن سن القوانين من دون التأكد من تطبيقها أمر عديم الفائدة. ويلفت وارن الانتباه إلى الأثر الكبير الذي تتركه الرسائل الإعلامية بالنسبة إلى الشباب والمراهقين،"فهي إما تؤثر فيهم تأثيراً بالغاً وتخترق عقولهم وقلوبهم، أو أنها تكون غير مؤثرة على الإطلاق". ويقول:"للأسف، نجحت شركات السجائر الكبرى في أن يكون لكل منها شعار أو صورة مرتبطة بها في الأذهان. أما حملات مكافحة التدخين فليست راسخة لأن ليس لها رسالة أو شعار أو صورة جذابة تترسخ في أذهان الشباب والمراهقين". حملات التوعية وعلى رغم أن مصر أنجزت العديد من مشاريع التوعية الناجحة في مجال مكافحة التدخين منذ عام 2000، وأبرزها برنامج"مصريون أصحاء 2010"، بالإضافة إلى القوانين التي تجرم التدخين في المباني العامة والحكومية ووسائل المواصلات، فإن الجمهور في هذا المجال يحتاج إلى قدر أكبر من المتابعة والاستمرارية كي لا ينساها الشباب. في هذا السياق، أنهى المسح العالمي للشباب والتدخين الذي أجري في 126 دولة حول العالم، مرحلته الثانية في مصر هذا العام. فمن بين 4500 طالب وطالبة شملهم البحث في 56 مدرسة في تسع محافظات مصرية، اتضح أن 13.6 في المئة دخنوا سجائر من قبل، وأن 14.4 في المئة يستخدمون حالياً منتجاً من منتجات التبغ، و4.1 في المئة يدخنون سجائر حالياً، بينما يستخدم 12 في المئة منتجاً آخر من منتجات التبغ. وإذا كان لا بد لمحاولات الإقلاع عن التدخين بين الشباب والمراهقين من أن تبدأ من مكان ما، فهناك اقتراح من فنلندا، اسمه"أقلع وفز Quit and Win". وتقول مديرة المشروع السيدة إيفا ريتا فارتياينن إن الاقتراح يعتمد على مسابقات مادية تراوح بين عشرة آلاف و2500 دولار لمن ينجحون في الاقلاع عن التدخين، وشروط المسابقة هي الإقلاع لمدة أربعة أسابيع متتالية، والخضوع لاختبارات للتأكد من الإقلاع التام. بعدها يدخل المتسابقون في مسابقة. قد يكون الوصول إلى مرحلة"التدخين صفر"مسألة شبه مستحيلة، لكن نسب التدخين المخيفة السائدة بين الشباب والمراهقين في مصر مزعجة للغاية، وفاتورة العلاج غير مبشرة بالخير، وغياب القدوة فضيحة، والإعلان السنوي عن أرباح شركات السجائر في الصحف القومية كارثة وپ"عواميد السرطان"التي تباع جهاراً نهاراً لأطفال ومراهقين تستحق ما هو أكثر من محاضرة وعظ وإرشاد.