بعد غياب أحد عشر عاما ونيف عن ساحة العمل الفلسطيني المباشر بأبعاده الوطنية والعربية والدولية، قضيتها في ساحة العمل العربي المشترك في مؤسسة البيت العربي"جامعة الدول العربية"، خرجت بتجربة مكثفة ومتنوعة، ليست بعيدة من تجاربي السابقة، إذ شاركت ضمن وفود فلسطين بين 1966 و1979 في اجتماعات الجامعة على مستوى القمة ووزراء الخارجية أو مجالس الدفاع العربي المشترك. أشرت إلى 1979، لأنه العام الذي قرر فيه معظم القادة العرب نقل الجامعة من مقرها الدائم في القاهرة إلى تونس، كما استأنفت نشاطي السياسي في الجامعة مع الوفود الفلسطينية منذ عام 1990 عند عودة الجامعة إلى مقرها ثانية إلى القاهرة، وحتى عام 1994 وهو عام تعييني أميناً مساعداً للجامعة العربية لشؤون فلسطين، ولهذا التعيين قصة أُوجزها بالقول إن العرفان للشهيد الرئيس ياسر عرفات الذي أصر على ترشيحي لهذا المنصب ونال موافقة الأمين العام السابق الدكتور عصمت عبد المجيد والدول العربية كافة. ومما قاله لي الرئيس عرفات آنذاك:"إن مسؤولياتك في الجامعة العربية هي الدفاع عن حقوق شعبنا الفلسطيني وصيانة نضاله وأمنه في الإطار العربي من دون انحياز لأحد. لذلك فأنت العين الساهرة والظهير الواقي لهذا الشعب وتلك الحقوق". الآن، أْشعر بأن التجربة التي مرت من خلالها مسيرة العمل الفلسطيني في الجامعة ومن خلال غيرها كانت قاسية وصعبة، بل ومريرة أحياناً. والسبب الرئيس في ذلك أن الدول الأعضاء تركت للأمانة العامة وإداراتها المختصة حرية اختيار الكيفية التي تدعم قضية الشعب الفلسطيني سياسياً وعملياً، في حدود قرارات متكررة في كل دورة من دورات المجالس الوزارية وآلياتها. ويزيد على هذه القرارات بعض المستجدات والتطورات التي يراها الجانب الفلسطيني بالدرجة الأولى ثم تعتمد أتوماتيكياً. وعلى الأمانة العامة أن تختار الكيفية التي تتجاوب مع المناخ العام السائد في المنطقة. وعلينا أن نقرر أنه بعد المعاهدة المصرية الإسرائيلية وعودة الجامعة إلى مصر واستمرار مناخ علاقات السلام، شجع ذلك جانباً من الإسرائيليين على مواصلة عملية السلام، بانطلاقة جديدة للمفاوضات العربية - الإسرائيلية، إذ دخلت الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس جورج بوش الأب في خضم الجهود المبذولة، لا سيما بعد انطلاق الحوار الأميركي - الفلسطيني في تونس عام 1988 وإن كان على مستوى أقل من المطلوب. إلا أن منهج السلام عم المنطقة واضطرت إسرائيل بقيادة رئيس وزرائها اسحق شامير الى الرضوخ للضغوط الأميركية، كما اضطرت منظمة التحرير بقيادة الرئيس عرفات لقبول بعض التنازلات من أجل عقد مؤتمر مدريد للسلام. وقبل ذلك، كان لازماً أن يتخذ العرب قراراً جماعياً تقدَّم الأمين العام به للترحيب بالجهود الأميركية والدولية المبذولة لعقد مؤتمر السلام، فنال هذا القرار التأييد العربي الجماعي باستثناء تحفظ العراق. إن الاستخلاص الذي توصلت إليه آنذاك من خلال قراءة متأنية لمجمل الجهود والمواقف العربية والإسرائيلية المتوافقة والمتعارضة حول عملية السلام دللت لي على أن الميل العام لهذه الأطراف العربية والإسرائيلية وحتى الأميركية والسوفياتية هو في اللعب السياسي والديبلوماسي في إطار إبقاء حال اللاسلم واللاحرب التي فجر آلياتها الرئيس الراحل أنور السادات، إذ رفض عودة حال الاسترخاء العسكري إلى المنطقة من دون الوصول إلى تسوية سياسية لإزاحة الاحتلال الإسرائيلي عن الأراضي العربية المحتلة عام 1967. وهنا اقتضى التوضيح أيضاً أنه عندما يلجأ طرف الى كسر حال اللاسلم بالهجوم سلمياً واللاحرب بالهجوم عسكرياً، وهو ما بدأته مصر عملياً بقيادة الرئيس السادات أثناء زيارته للكنيست بعد حرب تشرين الأول أكتوبر وبعدما وضع الرئيس جمال عبد الناصر أسسه ومنطلقاته حرب الاستنزاف من جهة، والاتصالات السرية غير الرسمية مع الجانب الإسرائيلي من جهة أخرى وتواصل زخماً واتصالات مكثفة بقيادة الرئيس حسني مبارك، فإن هذه الجهود كانت ومازالت مدعومة من قوى محددة في المجتمع المصري نتيجة التأييد التاريخي الجارف عاطفياً وعملياً لنضال الشعب الفلسطيني باعتبار قضيته هي جوهر الصراع سلماً أو حرباً، وهذا ما ظهر جلياً أثناء الانتفاضة الأولى عام 1987 والانتفاضة الثانية 2000 إذ توقفت عجلة السلام والجهود المبذولة نحوها باستثناء الانقلاب المفاجئ الذي بدأه استئنافاً حزب العمل الإسرائيلي بفتح قناة سرية مع منظمة التحرير في أوسلو. وتوصل الجانبان من خلال هذه القناة إلى إعلان مبادئ أوسلو في إطار جدول أعمال تفاوضي ومن دون أي مرجعية حاسمة له باستثناء الإشارة إلى القرارين 242 و338. وتقتضي الأمانة القول إن الذي فجر آلية اللاسلم التي يرغب الإسرائيليون المتطرفون في استمرارها من دون الوصول إلى سلام حقيقي ومتوازن مع الشعب الفلسطيني وقيادته هو الرئيس الحالي محمود عباس إيماناً منه بأن طريق الاسترخاء السياسي بعد فرض آلية الاسترخاء العسكري عقب الخروج من لبنان للشعب الفلسطيني وقيادته يشكل خطراً بالغاً على مصيره وأهدافه الوطنية. أحدث إعلان أوسلو ضجة كبيرة وواسعة عربياً وعالمياً ولم يخل الحدث من الصدمة أو عنصر المفاجأة في الأوساط العربية والإسرائيلية وحتى الأميركية. وقبل هذا الإعلان طلب مني الرئيس عرفات أن أحيط مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين لديها بالأمر من دون أي تفاصيل. واكتفيت بالقول أمام الاجتماع الذي دعي إليه الدكتور عبد المجيد ما نصه:"إن لدى انطباعاً بأن هناك اتفاقات مبدئية للسلام قريباً". كان ذلك في تموز يوليو 1993، قبل شهرين من الإعلان الرسمي لإعلان المبادئ والتوقيع عليه في حديقة البيت الأبيض. وكان الجو العام في واشنطن، حيث عقدت المفاوضات العربية الإسرائيلية، لا يؤشر إلى أي تقدم على أي من المسارات التفاوضية الإسرائيلية - العربية، ولا حتى المفاوضات المتعددة الأطراف. واستطراداً لهذا الحدث كانت المفاجأة في نتائج اجتماعات مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية العرب في أيلول سبتمبر 1993، إذ كان المطلوب عالمياً أن يصدر بيان إيجابي إزاء إعلان أوسلو، وبعد مناقشات واسعة شارك فيها الوزراء كافة، قدم وزير الخارجية السوري فاروق الشرع مشروع قرار وافق عليه الرئيس عرفات الذي كان حاضرا في هذا الاجتماع ومعه السيد فاروق قدومي"أبو اللطف". كان هدف القرار"اعتبار إعلان المبادئ في أوسلو خطوة أولى ذات أهمية على طريق مبادلة الأرض بالسلام وعلى المسارات كافة"، وقد عبّر لي الرئيس عرفات عن ارتياحه لهذا النص الجماعي الذي أدهش العالم، باستثناء الحكومة الإسرائيلية التي كانت تريد وقف المقاطعة العربية لها. إذ أوقفت الدول العربية المقاطعة من الدرجتين والثالثة تشجيعاً منها لجهود الوزير جيمس بيكر لعقد مؤتمر مدريد للسلام. اعتبر إعلان أوسلو بمثابة اختراق فلسطيني مدعوم عربياً لكسر حال اللاسلم واللاحرب، فكان ذلك مقدمة مهمة لكي يظهر في ما بعد لوقت طويل تهرب الحكومة الإسرائيلية من تطبيق التزاماتها ومسؤولياتها نحو السلام، بل زادت من سياساتها القمعية في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وهو ما أدى إلى اقتناع العرب جميعاً بما أعلنوه في قمتهم عام 1996 من أن السلام خيار استراتيجي لا رجعة عنه. وأزعج ذلك قوى التطرف واليمين الإسرائيلي وأربك مخططاتها إزاء خيارها المفضل بإبقاء سياسة التهرب المبرمج من مواصلة عملية السلام، إذ بدأت تضع الشروط المسبقة لأي نتائج تترتب على انسحابها من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة وبقية التزاماتها المتمثلة بالتفاوض حول قضايا اللاجئين والقدس والاستيطان والحدود وإيجاد الحلول العملية لها. ولكي يتم تشجيع إسرائيل على استمرار نهج السلام توصلت المملكة الأردنية الهاشمية بقيادة الملك حسين الى اتفاق"وادي عربة"الذي أدى إلى عقد معاهدة أردنية - إسرائيلية شكلت خرقًا آخر لسياسة اللاسلم واللاحرب. باختصار، ظهر لي أن إسرائيل تريد من خلال سياسات حكوماتها المتعاقبة وباللغة الدارجة أن تأخذ كل شيء ولا تعطي شيئاً، أي أنها تريد احتفاظها بالأرض الفلسطينية وتأخذ العلاقات الديبلوماسية، متجاهلة الوصول الحقيقي الى تسوية سياسية دائمة تؤمن الاستقرار والأمن لدول المنطقة وشعوبها بما فيها الدولة الفلسطينية. وعلى رغم ما سبق ذكره عن حرص القيادة الفلسطينية على بلورة الموقف العربي نحو السلام عبر خطوات كانت ? وما زالت - حريصة على جذب التضامن العربي حولها، من خلال التنسيق الثنائي بينها وبين الدول العربية الفاعلة والمعنية بالصراع العربي - الإسرائيلي، فإن السؤال الكبير الذي ظل يحيرني هو: لماذا رفض بعض الدول العربية من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، مشاركة الأمانة العامة للجامعة، ولو بصفة مراقب، في مسار المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف عندما انطلقت عام 1992؟. وثمة سؤال آخر عن سبب الاكتفاء بدعوة الأمين العام للجامعة إلى المنتدى الاقتصادي الدولي"دافوس"، واقتصاره على بيانات سياسية ولقاءات ثنائية لا تقدم ولا تؤخر؟، على رغم ما يشكله هذا المؤتمر كإطار لجمع من رجال الأعمال والاقتصاديين العرب مع نظرائهم من العالم الآخر، بما فيه إسرائيل. يمكننا تفهم أهمية هذا المؤتمر لو أنه يحرك بوصة من احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وقد يرد علي أحدهم:"ألا يكفي الانسحاب الأخير من قطاع غزة باعتباره أكبر دليل على ذلك"، فأرد بأن الانسحاب من غزة سببه تضحيات الشعب الفلسطيني وصموده وتضامن دول المنطقة وشعوبها معه وإقلاع إسرائيل عن بقائها في هذه البقعة الغالية من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، بخلقها ذرائع متعددة لهذا الانسحاب. وهل ستلجأ إسرائيل إلى استخدام هذه الذرائع عند بذل الجهود والتضحيات لإخراجها وسحب قواتها العسكرية والأمنية من الضفة الغربية؟ إنه سؤال مهم تحتاج تجربتي الواسعة إلى الإجابة عليه من خلال عرض مذكراتي التي أحاول أن أشرع في صوغها مستقبلاً. وقبل أن أختم المقال عن بعض من تجربتي واختياري لأعكس منهج السلام على تحركات الجامعة العربية، أن أشير إلى أهمية الموقف الجماعي العربي في القمة العربية في بيروت عام 2002، عندما وافق العرب على منهج المبادرة التي تقدم بها الملك عبد الله بن عبدالعزيز في القمة العربية في بيروت. ولا يزال الطرف الفلسطيني برئاسة السيد محمود عباس مؤمناً بهذه المبادرة المهمة لأنها تأتي في سياق السياسة الفلسطينية الهادفة إلى جمع التضامن العربي حول الشعب الفلسطيني وقضية السلام الشامل والعادل. ولو أن حكومة إسرائيل تأنَّت في رد فعلها الرافض لهذه المبادرة لأدركت أنها في مصلحة أجيالها الصاعدة تقيهم شرور الحرب وكذلك في مصلحة أجيال شعوب المنطقة، لكن الفكر المدمر المسيطر لقوى التطرف اليميني والديني دفع حكومة إسرائيل لتغليب مصلحتها الضيقة وغطرستها على أمن وأمان الإسرائيليين. على رغم هذه الرؤية السلبية التي عرضتها، فإنني وقبل إنهاء خدمتي في الجامعة ، كان لي شرف تلبية دعوة كريمة من أمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني فعرضت عليه في اجتماع خاص أهمية تفعيل عملية السلام من خلال تحرك عربي، في إطار صوغ خطة تحرك فلسطيني عربي نحو الرأي العام الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية، وأن تختص دولة قطر بهذه المبادرة وهذا التحرك في إطار الجهود الفلسطينية والعربية لكسر حال الجمود والاسترخاء المتوقع لمنطقتنا، لعل ذلك يفتح باب الأمل، وباب الإنقاذ من هذه الحال التي ستواجه شعوب المنطقة كلها بما فيها الإسرائيليون، فتنطلق عملية السلام من رقادها أو تندثر. پ * الأمين العام المساعد السابق لجامعة الدول العربية.