ثمة ما يمكن أن يشكل تجربة تقترب من تمامها في شخصية عباس بيضون، الشاعر والناقد، لا فيما تركته كتاباته من أثر وحسب، بل في حضوره في حياة بيروت الثقافية. أنت لا تستطيع التعرف على ملامح مدينة عابرة لمحليتها دون أن تعرف بيضون المتردد بين كل المواقع، شأنه شأن الكثير من المثقفين اللبنانيين. خصوصية تميز انتسابه، وعمومية تلغيه دون تردد، وهذا هو سر أناس المدن المتجاوزة الكثير من ضيق الأفق المحلي. لعل معابر حديثه، توحي وكأنها تبدأ بالشعر وبما هو شخصي، ولكن عباس بيضون الذي أضاف الى التجربة الشعرية الحديثة الكثير، ناثر لايبارى، نثره يجعل فن العمود الأدبي يكتسب أهمية تفوق الكثير من المدونات التي تمر في قراءاتنا النص العربي. وأحسب أنه بين قلة من الكتّاب لا يحتاج الكثير من الوقت كي يسجل فكرته، فحديثه يشبه كتاباته على نحو يوحي بأنه يعثر على ضالته في اللحظة التي يشرع فيها بالتفكير. كنت أتحدث معه قبل أول لقاء عن مقطع من شعره يتكلم عن قوم هبطوا من مكان ما وقصدوا "صور"، وكما تخيلت قال إنهم أهله الذين قدموا من بنت جبيل وسكنوا قرية اسمها "شحور"، بحكم وظيفة والده، ثم انتقلوا منها الى "صور" للسبب ذاته. وعندما قصدت ان أتصوره في حيز غير الذي هو فيه، أي في فضاء أدبي متخيل، كان يردّني الى مكانه، حيث يتحرك ويكتب ويمسك بأزمنته. ومن هنا بدأنا الحديث. @ هل تجد نفسك في مكانك كما تريد؟ أم أن هناك أمكنة أخرى: مواقع أدبية، أو أزمنة وددت الرحيل اليها او العودة منها، او المكوث فيها؟ - سأتكلم عن المكان الفعلي. أنا من الذين أمضوا حياتهم، وعن غير قصد، بدون مكان فعلي. كنا نتكلم مثلا عن "صور" المدينة التي قدمت اليها في التاسعة. ولدت في قرية "شحور" التي لم أعد اليها إلاّ وقد نيفّت على الثلاثين. المكان الأول اختفى من حياتي، وهذا الاختفاء لاأعرف كيف أثّر فيّ، أنما أظن ان إختفاء المكان من ذاكرتنا هو جزء من انكارنا له. في صور كان عليّ أن أنكر إنتمائي الى شحور، وكان علي ان أنكر أكثر من ذلك حنيني اليها. ظللت أحلم وانا في صور بقريتي، أشعر بأن عهدي الذهبي السعيد تركته هناك، مع ذلك لم أعد اليها على الإطلاق. درجة من الإنكار لنفسي ولماضي: إنكار متعمد. وكأن الاعتراف بالانتماء الى قرية مثل "شحور" أقل مني. في (صور) حدث ما يشبه هذا، أمضيت حياتي في هذا المكان دون أن أحتك فعليا بحياة احيائها وعائلاتها، حتى أنني كنت أجهل أسماء من كنت بينهم. كنت أعيش في حي شعبي، وكان يكتظ بالقصص والأخبار، وكان علي أن أكبر لأسمعها من الأخرين، أسمعها دون أن أعيشها.كنت مجرد مستمع الى هذه القصص. الى الآن اعيش في بناية هنا ببيروت منذ ست سنوات، ولا أعرف منها احدا. أظن أن هذه الحالة إنعكاس لتلك البداية في صور. عشت في صور وأنا في نعمة الغيبوبة الاجتماعية، لم أشعر بحاجة الى التعرّف على ما يحيطني، حتى حكايا صور التي تضمنتها بعض كتاباتي، هي مسموعة على كبر ولم أعشها. @ هل هناك من تعده غريمك في لبنان او في مكان آخر؟ - أظن بدون تواضع، أن كل شاعر جيد هو منافس، هو في السباق بالنسبة لي. أنا أكثر حساسية ازاء الشعراء الشباب، هؤلاء يملكون جديدا وهم يشكّلون تحديا، هم في السباق أكثر من الآخرين. شعراء من جيلي يملكون أثرا يمكن توقعه: سركون بولص مثلا - جرت المقابلة قبل موته - وهو أحد المسابقين الكبار، أتوقع ماذا يكتب فاضل العزاوي او وديع سعادة، ولا أريد تسمية كثيرين. بسام حجار، سليم بركات، نوري الجراح، أمجد ناصر، بول شاؤول، لكن في الوقت نفسه زاهر الغافري، غسان زقطان يوسف بزي. كلهم في السباق. أظن أن جيلي، جيل كتب عليه ان يبقى طويلا في السباق، أن نعيش بصورة مستمرة تحديا ما. أعرف كيف أن شاعرا مثل محمود درويش، رغم كل الشهرة، بقي في غمرة التحدي. شاعر مثلي يجب أن يبقى باستمرار في غمار البحث عن بداية أخرى. كل شاعر ينبغي أن يخاف من أن يبدأ بأسلبة نفسه أو تقليدها، أن يغدو مسبوقا، والخطر يزداد مع العمر. أن تملك السيطرة على الرؤيا الشعرية، هذه الرؤيا مهددة بأن تغدو قديمة. بالتأكيد عندما نقرأ شعراً شابا نفهم فوراً ان هناك حساسية أخرى حتى في أكثر الأشعار ضعفا. @ وجيل الرواد كيف اختلفت العلاقة معه؟ - هؤلاء غدوا روادا وكبارا في عمر مبكر. السياب في الثلاثينات، وانسي الحاج نال شهرة واسعة ولم يتجاوز العشرينات. سعدي يوسف كان مشهورا وهو في عمر الثلاثين. هذا الجيل كان له الحق في الإكبار، كونه مؤسس قصيدة جديدة، بحيث غدت مكانتهم التاريخية منذ اللحظة الأولى في حكم المؤكد. صنعوا في القصيدة والشعر مايمكن أن يعتبر حدثا في تاريخ هذا الشعر، وبالتالي لم يكن مطلوبا باديء ذي بدء إلاّ الريادة، إلاّ الميزة التاريخية. مع الزمن لم تعد هذه الريادة كافية. أنا أميل الى أن الإنجاز الشعري لدى الجيل الذي جاء بعد فترة الريادة، أكثر أهمية، لأن هذا الجيل لم يكن قادرا على الاكتفاء بالبيانات، كان مطلوبا منه أن ينجز، وكان إنجازه في الغالب أقل من أي بيان كتبه الجيل الأول. إذا صدقنا شعر الجيل الأول مقارناً ببياناته، وهذا ليس صحيحا، فما صنعته الأجيال الثانية ليس قليلا وصغيرا، كما هي الخدعة السائدة. الأرجح مع الجيل السبعيني وربما الستيني، تغير مفهوم الشعر، ولم يصاحب هذا التحول عملية نقدية. كان انجازهم تحولا في عمق العملية الشعرية، بدون مقابل نظري، طبعا كان هناك قليلون قاموا بالتنظير، ولكن في الغالب كانوا ينظّرون لأنفسهم، وبالتالي كان عملهم النظري في ثنايا عملهم الشعري. جيل الرواد قدم عمله الشعري والنظري، باعتباره جزءا من عملية تاريخية شاملة، وكأنهم طليعة ثقافية بديلة، مشروع متكامل ليس فقط شعريا، بل مشروع تأريخي وثقافي وسياسي. شعراء هذا الجيل تصرفوا كقادة غير منظورين للثقافة العربية، وللتاريخ العربي البديل، من أجل ذلك اختلط في عملهم التاريخي بالثقافي بالسياسي. @ لنعد إليك، اللغة في نصك تبدو تمرينا تأويليا، هي تثبت لتنفي، تصدق لتكذب، تخفي لتكشف. نصك النثري مثل كلامك يتحرك بتجاذب او تداخل السياقات والمقامات. أين يكمن المعرفي من الإنشائي؟ او أين تجد اللغة، في فضاء المعلومات او في ذاكرة القاموس؟. - لو حاولت أن أنتقي من هذه الاسئلة واحداً، سأتحدث عن تحول القصيدة لدي. الفرق بين قصيدة "صور" و"الوقت بجرعات كبيرة" يوضح جانبا من تجربتي.الأرجح هناك درسان بين القصيدتين، وتجربتي لأتبدأ تماما مع صور، بقدر ما تبدأ في (الوقت بجرعات كبيرة)، ف "صور" ثمرة مرحلة، بينما تكاد قصيدة "الوقت" بداية لتلمس مشروع شعري. كتبت "صور" تقريبا عشية الحرب، في العام 1974، وأظنها محاولة من قبل شاعر يقوم بتصحيح مشروع شعري، فهي قصيدة تقوم على العلاقة او التشابك التاريخي الثقافي والشعري مع قصائد الرواد، ولكن التصحيح الذي دخل على هذه الرؤية، ينطلق من تصور يرى ان طموح قصائد الرواد يتجه الى ان يكون النص تاريخا وشعرا ورؤيا شاملة، في حين كانت صور رغم الجانب الملحمي فيها، محصورة ومحدودة، وليست ذات سيولة مطلقة، ولا انتشار قاموسي فلكي، فهي تنطلق من بؤرة كلامية إيقاعية واحدة. "صور" كانت نشيدا، وهو على الأغلب، الأسلوب الأكثر شيوعا في قصائد الرواد، الذي صار لهذا النشيد، انه لم يكن حداء، لم يكن رنينا، ولكن كل صورة تملك مقابلا حسيا موضوعيا. ثم الطرح الآخر يتعلق بالسياسي: السياسة في قصائد الرواد تأتي على نحو ملتو وبالغ الرمزية، بينما قصيدة "صور" مباشرة بهذا المعنى، فالتاريخ تاريخ حقيقي والمكان حقيقي. في (الوقت بجرعات كبيرة) بمقدورنا الكلام عن مشروع آخر، هذا المشروع كان عماده القبض على ماهو مبعثر، على لحظات متشظية، قول مجزوء او أجزاء من عالم. إذا حاولنا التفتيش عن بعض عناصر هذا العالم، لقلنا أولا انه إلغاء النشيد، إنهاء النشيد بالكامل. اللغة في هذه الكتابة لاتملك أية مؤثرات، أي إكسسوار خارجي. الكتابة بلغة مكبوتة عاطفيا وتتجنب بالكامل المساومة العاطفية مع القاريء. يعاد أسلبة المفردة، يتم تحييدها، يعاد غسلها من تاريخها الدلالي، تقدم بدون أي سند للمعنى موروث. ثم هناك كتابة تحاول كتابة الشعر بلغة النثر: كثرة التشبيه والتوكيد، البرهان، كلها مظاهر نثرية، هذه العناصر، ضمن جزء من مشروع كان يتبدل ويتغير وينقلب على نفسه. بالتأكيد جزء من هذه العناصر استندت الى عدد لايحصى من البدايات وفي هذه البدايات المختلفة كانت هناك مراجعة، كانت هناك رحلة، وكل سفر من الأسفار، له عدته.اعتمدتُ بصورة خاصة على نوع من المقومات شبه اليومية، اعتمدتُ على ثقة بالذات كان يمكن هزها بسرعة، ولكن لم تحصل مثل هذه المحاولة. @ في الشعر أنت تُفسد المفردة وتؤسلب الصورة، وفي النثر توسع المعنى وتعمد الى تدقيق الأفكار وإشباعها. نثرك مرئي ونابض ومحسوس، تحاول فيه إعادة سيناريوهات الأفكار كي تتوضح الصور، كيف يلتقي او يفترق هنا شعرك عن نثرك؟ - أنا أفرّق في عملي بين نثري وشعري. أريد أن أكتب نثرا كالنثر، وطالما أزعجني النثر المائع المتشاعر، ليس ذلك حرصا على الأنواع الأدبية. أذكر أنه ساد الأدب في فترة من الفترات هذا الزعم الشعري، المحاكاة للشعرية، حتى ان القصة باتت نوعا من النص الشعري الرديء. لطالما أزعجتني هذه الرطانة الشعرية. أزعجني هذا النوع من الحلول في الشعر بالمعنى الصوفي، وبالفعل كنت أكتب نثرا بقصد أن يكون نثرا خالصا. أظن أن الصحافة أعانتني على تجريب النثر وتجريب أساليب النثر، ليس في المقالات التي أكتبها إسبوعيا فحسب، بل في الروايات التي كتبتها وهي ثلاث حتى الآن. للنثر متعته الخاصة، انه ينتهي الى شعور بأن "شعرية النثر" هي في المستوى ذاته التي لشعرية الشعر. شعرية النثر عند الجاحظ تكمن في نثريته، ونثر الجاحظ إلاّ في القليل الأقل، يستمد جماليته من عناصر نثرية، من إيقاع البحث، ومن ليونة التعبير ومن حركيته، وليس من جمالية الصور. أجد في لغة الجاحظ والمقريزي شعرية أكثر مما أجد في نص التوحيدي الذي يتفنن او يتوسل الصور. @ ثقافتك الشعرية تبدو في غالب الوقت، وكأنها تعود الى الأصول الفرنسية، هل تعتقد ان ما تسميه انت عن شعرك "الشغف بالنفايات" و"التحلل الجسدي" او تجاهل الجمال، مرده هذه الثقافة التي بدأت ببودلير في (سأم باريس)، حيث بمقدوره مزج القبح بالجمال والرقة بالوحشية ؟. - لا. لأن الشعر الفرنسي بدا سهلا مع شعراء الحداثة اللبنانيين وضمنهم أدونيس، وأنا من الأشخاص الذين بدأوا عملهم الشعري برفض ضمني لهذا المفهوم. إذا كان المفهوم الفرنسي للشعر قد حوّل هذا الشعر الى نوع من الاشتغال على اللغة، وحوّله الى مستوى منقطع ومستقل بذاته، وبدون مقابل أيّ خارج ينطلق منه، فأنا لا أنتمي الى هذه التجربة. @أنا اتحدث عن جانب آخر من شعرك، عن ما يمكن تسميته الشغف بما لا يحسب جميلا في الأشياء. - لمذا لانقول إنه منظار عادي. انا لست بودليريا بهذا المعنى. الشعر يجد مادته في غير الشعر، بمعنى المستوى الشعري ليس قائما، فهناك مقترب شعري، إطار شعري، ولكن الكلام عن الشعري كمستوى منقطع لم يكن واردا. يمكن القول أن صلتي بالفن التشكيلي الحديث، وراء مقترباتي الجمالية. أنا أرى ان العالم اللغوي والقاموسي غير محدود. فكرتي عن الشعر تتناسب مع البوب آرت، الذي يصبح فيه العالم كله جاهزا للشعر، والقبح جزء من العالم. هذه الشعرية للأشياء توّلد أشكالها وعلاقاتها، بما فيها جمالية التشعث والتشابك والتبعثر. عباس بيضون