اعادت احداث ضواحي العاصمة الفرنسية النقاش المتعلق بالمهاجرين الى نقطة البداية. فبين الرأي القائل بتعثر برامج الدمج الفرنسية، والتي ابقت مئات الآلاف من الفرنسيين من اصول مغاربية وافريقية في غيتوات وضواح شبه مقفلة، وبين الداعين الى ان يتحمل المهاجرون مسؤولياتهم حيال المجتمع الذي اختاروا الالتحاق به، يبقى ان ازمة الضواحي في المدن الفرنسية معلقة ومفتوحة. لكن يبدو ان اشتعال احداث من هذا النوع لن يبقى معزولاً عن استحقاقات سياسية فرنسية وعن تجاذبات مرتبطة بمواعيد الانتخابات الرئاسية المقبلة، اذ يبدو ان وزير الداخلية الفرنسي نيكولا ساركوزي سيدفع ثمناً سياسياً نتيجة مسارعته الى تحميل شبان الضواحي مسؤولية اعمال العنف من دون التوقف عند ظروف هؤلاء. وهو واثناء محاولته التراجع عن مواقف اعتبرت عنيفة، سقط في افخاخ اخرى. وثمة من يقول ان المستفيد من"زلات"ساركوزي هو رئيس الوزراء فيليب دوفيلبان، وهو مرشح الرئيس جاك شيراك للرئاسة على ما يبدو. "الحياة"اعدت ملفاً عن احداث ضواحي باريس، في محاولة لاستعادة مأزق هؤلاء المهاجرين ومأزق المجتمع الذي استقبلهم. ويتضمن الملف رصداً لأثر هذه الاحداث في الاستحقاقات التي تنتظر فرنسا، لا سيما الاستحقاق الرئاسي في العام 2007. ... من مطلب الاندماج إلى مطالب المساواة تعد الاضطرابات التي اندلعت في الضواحي الفرنسية في 27 تشرين الاول أكتوبر الماضي اثر مقتل شابين صعقا بالتيار الكهربائي في كليشي سو بوا، بعد اختبائهما داخل محول كهربائي هرباً من الشرطة، أعنف وأخطر انذار يوجهه الشباب الفرنسي، المنبثق من الهجرة، الى السلطات الرسمية. وهذا الانذار هو الأوسع نطاقاً والأكثر كلفة، اذ فاقت قيمة الخسائر المترتبة عليه 25 مليون يورو. وكانت سبقته انذارات اخرى انطلقت من الضواحي لتنبه السلطات الى المشكلات القائمة فيها والتي ازدادت عمقاً عبر السنين الماضية. ففرنسا بلد هجرة منذ سنة 1945، بدأت أوروبية من دولتين مجاورتين هما البرتغال واسبانيا، وانتقل مصدرها في الستينات الى شمال افريقيا وتحديداً المغرب والجزائر وتونس، وتنوعت في السنوات الاخرى لتصبح افريقية أوسع، وأيضاً آسيوية. ومن الصعب الحصول على معلومات مفصلة وأرقام حول عدد المهاجرين وجنسياتهم، ولكن المعروف ان أكبر الجاليات المهاجرة هي البرتغالية، تليها المغربية، ثم تأتي الجاليتان الجزائرية والتونسية. وربما لأنهما سابقتان ومن أوروبا، تمكن المجتمع الفرنسي من"هضم واستيعاب"الجاليتين البرتغالية والاسبانية، في حين ان الجاليات الشمال افريقية ولاحقاً الافريقية بقيت على عتبة هذا المجتمع. واستقر المهاجرون الشمال افريقيون في بدايات انتقالهم الى فرنسا في مدن من الصفيح أقيمت على عجل لايوائهم على اطراف التجمعات المدينية. وبما ان مصانع البلاد وورشها كانت في حاجة اليهم، أجيز لهم لاقناعهم بالبقاء، ضم أسرهم اليهم، من دون أي إعداد او تخطيط لمستقبل وجودهم في فرنسا. وعندما تنبهت السلطات الفرنسية لأوضاعهم السكنية المتردية، عالجت الامر ببناء شقق سكنية لهم، ايضاً على اطراف التجمعات المدينية، بدلاً من توزيعهم داخل هذه التجمعات. فأقام هؤلاء العمال مع بعضهم بعضاً، واقتصر اختلاطهم بالفرنسيين على الساعات التي يقضونها في العمل، واعتمدوا في مناطقهم المعيشة نفسها التي تربوا عليها في بلدانهم الأصلية. وكانت وتيرة نهارهم محكومة بالقوانين التي توجه المجتمع الفرنسي في مجالات العمل والضمانات الاجتماعية والحالات الجزائية، وبعودتهم الى منازلهم كانوا يلتزمون بتقاليدهم وثقافتهم وجذورهم. هذه الازدواجية كانت بالطبع صعبة عليهم ولكنهم اعتبروا انها جزء لا يتجزأ من حالة أي مهاجر واي مقيم في بلد ليس بلده، فرضخوا لها وتحملوها. لكن الأمر اختلف مع ابنائهم وأحفادهم، الذين يعرفون بالجيل الثاني والثالث المنبثق من الهجرة. فهؤلاء ولدوا في فرنسا وبخلاف ذويهم، لا جذور لهم تربطهم بثقافة وتقاليد بلدانهم الأصلية، وكان لا بد لهم من ان يبحثوا عنها ويعملوا على ترسيخها من ضمن هويتهم الفرنسية. وفرسا التي تعتمد شعار التكافؤ في الفرص والمساواة، في مجالات التعليم والسكن والعمل والتعبير عن الرأي، كان يفترض ان تجعل من ابناء المهاجرين مواطنين عاديين ليس هناك ما يفرقهم عن سواهم من الفرنسيين. لكن النصوص التشريعية الفضفاضة في هذا المجال لا تكفي وحدها، لالغاء التمييز بين مواطن وآخر، خصوصاً في غياب سياسة محددة واضحة للتعامل مع المهاجرين ودمجهم في المجتمع الفرنسي. فهذه السياسة اقتصرت منذ الستينات حتى اليوم، على مجموعة اجراءات تتخذ وفقاً لما يبرز من مشكلات في اوساط المهاجرين او وفقاً لمقتضيات الوضع العام في البلاد. نمت الضواحي وطوقت المدن الفرنسية الكبرى، مختزنة في ارجائها مواطنين من درجة مختلفة عن الفرنسيين الآخرين، نتيجة فشل السلطات في تكييف سياساتها مع متطلبات الهجرة. وعلى رغم الحضور الدائم لهذه المتطلبات في خطابات السياسيين على اختلاف اتجاهاتهم، فإن ما اقدموا عليه جميعاً تارة من زاوية الوضع الاجتماعي وتارة من زاوية الوضع الاقتصادي وغالباً من زاوية الوضع الأمني، دفع الامور الى التأزم بدلاً من الحلحلة. وبقي الاهمال القاسم المشترك بين الحكومات المتتالية، التي افتقرت جميعها للتوجه الذي يعالج مجمل المشكلات من مختلف جوانبها، لازالة صفة العازل عن هذه الضواحي. فديوان المحاسبة الفرنسي، وهو بمثابة هيئة رقابة رسمية رفيعة اكد في تقرير له سنة 2004، ان"آلة الاندماج في فرنسا مصابة بعطل دائم منذ سنوات"، وانه على امتداد 30 سنة لم تتوصل السلطات العامة الى اسلوب جدي للتعامل مع تبعات الهجرة. وسبق ذلك تقريران صدرا عن المجلس الاعلى للاندماج في سنتي 2002 و2004، ويشيران الى تقصير السلطات في تطبيق"مبدأ المساواة الجمهوري ومكافحة التمييز". لكن هذين التقريرين وغيرهما لم يكن لهما أي تأثير على صعيد اخفاء المزيد من الفعالية على معالجة ازمة الضواحي، المستقرة اليوم عند العنوان نفسه وهو فشل الاندماج. وكذلك، لم يكن لانفجارات الغضب المتتالية التي سبق ان شهدتها الضواحي الفرنسية أثر واضح في بلورة هذه المعالجة. الجميع في فرنسا يذكر اعمال العنف التي شهدها حي لو مينغيت البائس قرب مدينة ليون، سنة 1981، حيث أحرقت مجموعات من الشبان العاطلين من العمل سيارات على مدى ثلاثة اشهر وخاضت مواجهات عنيفة مع رجال الشرطة. وأكدت السلطات الفرنسية في حينه ان الأولوية ينبغي ان تكون لعودة الأمن والنظام، وفرضت اجهزة الأمن حواجز مكثفة في مناطق مختلفة من الحي. ثم قام الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران اشتراكي بزيارة الى لو مينغيت، وأطلق بعدها مشروعاً أطلق عليه اسم"ضواحي 89"لتحسين الاوضاع. لكن مشروع ميتران مثله مثل الذي سبقه وتبعه لم يحل دون استمرار الاحتقان، فانفجرت ضاحية فو آن فولان سنة 1990، بعد وفاة احد شبانها الذي صدمته سيارة تابعة للشرطة. فوقعت مواجهات مع رجال الأمن وأحرق العديد من المتاجر والسيارات، ورفعت شعارات تقول:"لقد طفح الكيل من البطالة والتمييز والعنصرية ومضايقات الشرطة". وشهدت ضواح فرنسية اخرى، وبصورة دورية اعمال عنف مماثلة، كان يعود معها دائماً الحديث مجدداً عن ضرورة الاندماج وسبل انجاحه على لسان المسؤولين. لكن ابناء الضواحي باتوا يرفضون اليوم هذا التعبير ويقولون ان الحديث عن الاندماج كان جائراً في ما يخص ذويهم، اما هم ففرنسيون وما يطلبونه هو المساواة. وقد يكون العنف الاستثنائي الذي بدر ضدهم اخيراً بحجم رغبتهم الجامحة الى هذه المساواة التي طالما حرموا منها، والتي يقول الاختصاصيون انها لم تعد شأناً يعني فقط السياسيين، وانما تتطلب تغييراً بالعمق لعقلية الفرنسيين خارج الضواحي الذين بات من المتوجب عليهم قبول التنوع القائم في مجتمعهم. شبان الضواحي أحرقوا مدارسهم أولاً! الى جانب اليأس والاحباط، فان الرابط الاساسي الذي يجمع بين الشبان الذين ألهبوا الضواحي الفرنسية على مدى الاسبوعين الماضيين هو رفضهم للنموذج الفرنسي، بل والحقد عليه، بسبب تقصيره حيالهم. وهؤلاء الشبان الذين تراوح اعمارهم بين 12 و25 سنة يفتقرون الى أي مقومات ثقافية او ايديولوجية، وما يحركهم هو مشاعرهم السلبية دائماً، نظراً الى ما يرونه من حولهم. انهم فرنسيون، كونهم ولدوا ونشأوا في فرنسا، لكن اصولهم شمال افريقية او افريقية، وهذه الاصول تطغى على هويتهم، وتشكل حاجزاً يطوقهم في كل خطواتهم، وتعزلهم عن سواهم من فرنسيين من ابناء جيلهم. يفتحون عيونهم منذ الصغر، على الفقر، فهم من ابناء العمال المهاجرين، الذين تفرض عليهم مداخيلهم الاقامة في احياء بائسة وفي شقق ضيقة ومتلاصقة لا تقل عنها فقراً. والفقر في هذه الحالات غالباً ما يترافق مع الاهمال بسبب تعدد الاولاد، وغياب الامكانات فتقتصر تربيتهم على بعض المعايير الواهية. الزامية التعليم في فرنسا حتى سن السادسة عشرة تقودهم الى المدارس العامة، التي تعتمد من حيث المبدأ، على المساواة في الفرص، لكنها تمثل بالنسبة الى ابناء الضواحي النطاق الاول، للفرز والتمييز الذي يلازمهم مدى الحياة. فالثانويات الفرنسية العامة تحقق نسب نجاح في شهادة البكالوريا تصل الى اكثر من 80 في المئة، وفي المقابل فان هذه النسبة في ثانويات الضواحي تقتصر على 10 في المئة. والسبب في ذلك الامكانات الضئيلة المتوافرة في مدارس الضواحي مقابل مدارس المناطق الاخرى، وغياب العناية العائلية، التي يحظى بها طلاب المناطق الاخرى، اضافة الى سوء المعاملة المفروضة على طلاب الضواحي من بعض الاساتذة. لا جدوى وظيفية للمدرسة، بالنسبة الى ابناء الضواحي، فهي في رأيهم مجرد سجن الزامي رسمي فرضته الدولة عليهم من باب اراحة الضمير. وبدلاً من ان تساعد على ربطهم بالمجتمع الفرنسي، فانها تمهد لاستبعادهم. وهذه المدارس التي يفترض ان تخرج متعلمين، تؤدي عملياً الى فبركة مجموعات من الفاشلين الذين لا يطمحون سوى الى هجرة مقاعدها، لكثرة ما يقال لهم منذ الصغر ان امكاناتهم لا تخولهم سوى التوجه نحو الفروع الدراسية المهنية. والمدرسة التي يفترض ان تعدهم وتساعد على تطورهم، ليست اذاً سوى اطار، لا يريد سوى دفعهم للحلول محل ابائهم، كأيد عاملة، وانما مؤهلة بطريقة حديثة. وليست من قبيل الصدفة ان يكون العديد من الحرائق في الضواحي استهدفت المدارس العامة، فهي حجر الزاوية في اطار النهج العام الذي يؤكد يومياً لابناء هذه المناطق انهم مختلفون على رغم كونهم فرنسيين. وبخروجهم من المدرسة، ينتقل الناجحون القلائل منهم سريعاً للاقامة خارج ضواحيهم، اما الفاشلون وهم الاكثرية الساحقة، فيجدون انفسهم عرضة للمراوحة في دوامة مفرغة. فانعدام تأهيلهم، التعليمي والمهني، يغلق في وجههم سوق العمل، وهذه السوق بأي حال تعطي ضمنياً الاولوية في التوظيف لسواهم من الفرنسيين، فتنحسر آفاقهم لتصبح مقتصرة على شوارع احيائهم وساحاتها التي يتسكعون فيها. وبما انهم خسروا طموحاتهم وآمالهم، فلا موانع لديهم ازاء كل ما من شأنه ان يؤمن لهم بعض الدخل من سرقات صغيرة او تجارات غير مشروعة بما فيها تجارة المخدرات. اما الافلاس المعنوي فيواجهونه باعمال تساعد على تمضية الوقت مثل التعرض للمارة او اشعال النار في علب البريد او سلال النفايات، وتحولوا بذلك تدريجياً الى آفة تهدد أمن مناطقهم، والى مصدر ريبة وتخوف، يبدو واضحاً من خلال التصرف القاسي الذي يواجهونه على حواجز الشرطة المنتشرة في مناطقهم.