تناولت حلقة أمس النزاع والتفتت داخل بنية تقوم على الوحدة، أو تصف نفسها كذلك، هنا حلقة جديدة: تتفق الحالات الأصولية الشعبوية، السني منها والشيعي، على ضعف صلتها بعلوم الدين وما يوازيها من مواقع في المؤسسات. و"حزب الله"، بدوره، لا يخفي افتقاره الى قيادات عالية الكعب في هذا المضمار. ولأنه لا مراجع لديه يُعتد بها وسيطاً لائقاً بين الولي الفقيه وجمهرة المؤمنين أناط الحزب بالحوزات الكثيرة خلق رجال دين صغار يعادلون صغار الضباط في الأنظمة الانقلابية. فبهؤلاء يُعوَّض عن معرفة هي، تقليدياً، نخبوية. بيد أن الدمقرطة الشعبوية هذه، اذا صح الوصف، معنية بمهمات أخرى. فهي تلد الكوادر التي تعيد إنتاج وعي الحزب، فيما تتولى أمر مؤسساته وإدارتها والزحف، انطلاقاً منها، لقضم تمثيل الطائفة الشيعية. ولئن قُدّم الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام، بصفته مثقف الحزب، بقي ان ثقافته تتصل بمحاور الاهتمام العقائدي العامة أكثر مما تردّ الى الانتاج الديني والفقهي. أما الأمين العام حسن نصر الله فلم يتخرج من قم ولا من النجف. وربما كانت سيرته آية في دلالتها على نضالية عالمثالثية في ظروف عاصفة سياسياً وديموغرافياً. فهو، المولود في 1960، ابن لمهاجر من بلدة البازورية قرب صور عاش في النبعة، المسيحية والشرقية، مثله مثل والد عماد مغنية. هناك ولد حسن، قريباً من دكان الخضار الصغير الذي امتلكه أبوه، فنشأ ودرس حتى اندلاع حرب السنتين، حين عاد الى البازورية وأسس مكتبة صغيرة كان يعطي فيها دروساً دينية مبسّطة لبعض المترددين عليها. وقد أنهى الأول الثانوي في صور قبل أن ينضم الى"أمل"التي عيّنته مسؤولاً تنظيمياً في بلدته. حينذاك، كما يُروى، تعرّف الى مصطفى شمران، الإيراني العامل على تدريب المقاتلين الشيعة وسافر، من ثم، الى النجف حيث قضى أشهراً فحسب. الا انه هناك التقى عباس الموسوي الذي كان على صلة بمحمد باقر الصدر. وفي"حزب الله"صعد نصر الله الى الأمانة العامة، لا من موقعه كعالم دين، بل كمسؤول في الجهاز الأمني العسكري الذي بناه عماد مغنية. حصل هذا في 1992، بعدما اغتال الاسرائيليون بأحد صواريخهم الأمين العام السابق عباس الموسوي. يومها كان الجنوبي ابن ال 32 عاماً إشارة الى صعود الجنوب في حزبه، فيما إيران الخارجة من حرب الخليج، تتهيأ لمقاتلة الوجهة السلمية في المنطقة التي افتتحها مؤتمر مدريد. بيد أن الشيخ الشاب نمّ عن علامات نباهة. فهو، على عكس منافسه الأمين العام الأسبق صبحي الطفيلي، قرن نوعه الايديولوجي برجاحة سياسية تهيئه لما بعد اتفاق الطائف اللبناني أواخر 1989. فلئن تمسك الطفيلي براديكالية الرفض لدخول اللعبة الانتخابية اللبنانية، حل نصر الله المعضلة باسكالياً: فما دمنا لا نخسر شيئاً بالدخول، فما الضير منه؟ والحال أن هناك ما يمكن كسبه في المقابل: فإرضاء سورية التي استثمرت الكثير في الطائف، وضمنت للحزب موقعه وسلاحه ك"مقاومة"، لا ك"ميليشيا"، هو العصفور الذي في اليد. أما"الجمهورية الاسلامية"فعصافير على الشجرة يمكن تأجيل اصطيادها قليلاً. ولن يسيء ايران إطلاقاً أن توجد كتلة نواب تدافع عنها في البرلمان اللبناني، وقد تساهم في تشريعات تتطلبها المصالح الحزبية-الايرانية النامية. وهذا كسب خالص، لا سيما أن في وسع الحزب الاحتفاظ بموقفه الاسلامي المبدئي، ماضياً في هجاء الاتفاق الذي عامله بالتبجيل، بوصفه"تسوية طائفية عفنة"! وشرع اللبنانيون يتعرفون إلى وجه جديد راحت شاشات تلفزيوناتهم توسّع له المساحة. وربما باستثناء بشير الجميّل قبل عشر سنوات، لم يروا قائداً كحسن نصر الله: جدي ودقيق ودؤوب يملك من الكاريزما ما هو فيه أصلاً ويضيف اليه ما يصنعه بيديه. ولئن جُدد له في الأمانة العامة في 1995 و1998، فإنه جسّد، بشخصه وسلوكه، الميل الشعبي المزدوج الى رفض القيادات الميليشوية الفاسدة وعدم الثقة بالزعامات السياسية التقليدية. وجاءت التجارب اللاحقة لتسجل نجاح نصر الله في امتحان إثر آخر، فلم تكن المعرفة بالدين مصدر النجاحات بقدر ما كانه الشَبَه ب"الشعب". فتعامله وتعامل المحيطين به من الحزبيين مع الجمهور بسيط مباشر، ما أكسبهم صورة الصادقين والأخلاقيين. وباستثناء سيارات الحماية والمرافقين، ما من دليل جدي على فساد فيه أو في قيادات حزبه المتقشفين الذين لم تتغير بيوتهم ولا عاداتهم. وحتى غير الحزبيين ومن لديهم تحفظاتهم عن الحزب كالوا للأمين العام المدائح: فهو"لا يكذب علينا". وجاءت السنوات تصادق على الوصف ذاك: فهو، بعد كل حساب، أب لشاب مقاتل، هادي نصر الله، قضى في احدى المواجهات مع الاسرائيليين عام 1997، وهو قال إنه سيحرر الجنوب وفعل في 2000، كما تمضي الرواية الشعبية. وفي مطالع العام الماضي، تعززت الصورة هذه لدى الشيعي البسيط و"المحروم"حين شاهد ممثله حسن نصر الله في استقبال الأسرى الذين احتجزتهم اسرائيل. يومها وقف على مقربة من ابن صاحب الدكان البسيط من البازورية، رئيس الجمهورية اللبنانية، فكان أولهما يستقطب الضوء ويترك للثاني انعكاسه! وقد تيقّن العالم بأسره، من خلال التلفزيون، من أن الاسرائيليين أعطوه ما لم يُعط لمحمود عباس، رئيس حكومة فلسطين: 400 أسير فلسطيني و22 أسيراً لبنانياً وأسيرين سوريين ومغربيين اثنين وليبياً. وبطبيعة الحال، لم يتوقف المتحرّقون على اعتراف الأقوياء المتجبّرين عند حقيقة أن الأسير الأساسي سمير قنطار لم يُطلَق. أما أن يكون المقابل ل427 أسيراً عربياً إطلاق عقيد في الاحتياط وتسليم جثث ثلاثة، فأمر لم يهمّ المُنتشين. وتولى المراقبون التذكير بأنها المرة الثانية تعترف بها اسرائيل بالحزب عملياً. قبلذاك، وفي نيسان ابريل 1996، حصل"التفاهم"الشهير، المرعيّ أميركياً وفرنسياً، وكان مفاده تحييد المدنيين وإجازة التقاتُل بين الطرفين، حزب الله الاسلامي ودولة الله اليهودية. وبالانجاز والتقشف، اكتسب نصر الله مواصفات معروفة في بعض قادة توتاليتاريين. فهؤلاء لم يستهوِهم الفساد وصغائر الأمور، بل شدّتهم اليها ملحمية التاريخ والسمو الى صورة مرسومة لهم في نظامهم المعتقدي. ونصر الله، بهذا المعنى، إيديولوجي من طراز رفيع، يجزم عارفوه بأنه مقيم على انتظار لحظة القدوم المهدي. له تمثّل إيران-ولاية الفقيه ما كانته موسكو الزمنية للشيوعيين وما عليه الفاتيكان الروحية للكاثوليك في وقت واحد. فما يربطه بها، إذاً، ليس"العمالة"بالتأكيد، بل الإيمان والعقيدة. وكلما قلّت المعرفة العقيدية زاد الإيمان والاستعداد للبذل في سبيله، على ما هو مألوف في متشددي العقائد ينشدونها بمعارف متواضعة. وفي هذا، بذل الرجل كثيراً، فرأى أن"إيران القلب ونحن اليد"، ولم يتردد في الانحناء، في احتفال شهير بطهران، وتقبيل يد علي خامنئي على مرأى كاميرات التلفزيون. وباجتماع المواصفات التي فيه، على خلفية من التمرّس في الأمن، ساس نصر الله حزبه بطريقة تغاير الدارج. فقبله، كان"حزب الله"أرحب قليلاً، ليبتدىء معه شيء من عبادة الشخص دشّنها التكريم الاستثنائي الذي أحاط بمصرع الأمين العام السابق عباس الموسوي. والحق أن مصرع الأخير، على يد عدوه، أسبغ هالة على الحزب لم يعد في وسع نصر الله، الآتي من ثقافة تضج بالسادة والمعصومين كما تضجّ بالشهداء، إلا أن يثمّرها. هكذا بتنا نراه يُكثر من المناسبات الخطابية فيبدو في واحدتها أشد ثقة وتمكّناً من سابقتها، تزداد سخريته وهو يخطب، ازدياد الكلمات والعبارات المنتفخة التي يهدد بها ويتوعد. وسمعنا، كذلك،"فرقة الإسراء"الموسيقية التابعة للحزب تنشد له الأناشيد، كما انتشر في أوساط محازبيه هتاف صنعته مُخيّلة جديبة التخيّل:"يا ألله يا ألله/ احفظ لنا نصر الله". وفي السياق إياه، بات من ألقابه المكررة الاستخدام"الأمين العام على الدماء". وضاعف الثقةَ التي في كلامه، كما ضاعف حماسة استقبالها لدى جمهور شكّلته قلة التجارب وكثرة السِيَر المتقطّعة، ذاك النزوع الى التأسيس. فالقائد والمقودون تجمعهم معرفة محدودة بتاريخ الصراع العربي-الاسرائيلي، هي ما يتيح لهم رفع جرعة التباهي الظافري كما لو كانوا يباشرون التاريخ من صفر. وربما كان القليل المعروف من ذاك التاريخ، والذي ارتبط بقيادات سنية، مصرية وفلسطينية، سبباً آخر للتباهي. ذاك أن الدخول الشيعي الى الحلبة قابل للتأويل دخولاً جدياً أولاً، بدليل تحرير الجنوب. فلم يكفّ الحزب، لهذا وذاك، عن تقديم صورة ساذجة وطفلية، بل كيتشية الى الحد الأبعد، عن مقاومة إعجازية. وفي ذلك ساعده تطلّب شعبي لا تعوزه الأسباب، سرى في العالم العربي كله، قوامه رؤية اسرائيل تُهزم ولو مرةً، وإلا فرؤيتها تضعف، وإلا، وهذا أضعف الإيمان، تأليف ضعف لها وتصديقه. لكنْ لأن نصر الله لم يعد أولاً بين متساوين، على ما كانت حال الأمناء العامين السابقين، غدا صعباً الوقوع على مركز آخر في الحزب يملك سلطة قرار. فنعيم قاسم، الحامل نقيصةَ الصدور عن"حزب الدعوة"وشبهة التأثّر بفضل الله، ليس نائب الأمين العام الا لقباً، على ما يُجمع العارفون بالحزب. وهو، كما يضيفون، ذو أهواء وأمزجة ثقافية قد تخاطب بعض المحيطين بالحزب الا أنها لا تخاطب عتاة الحزبيين. وإذا كان التخفي وعدم التعمم حائلين دون وصول عماد مغنية الى الموقع الأول والمعلن، بقي ملحوظاً ذاك التكثير في المناصب داخل بيروقراطية الحزب. فتبدو القيادة، وهي لا تتم بالانتخاب بل يعيّنها نصر الله، مجموعة"أمراء"لا يلتحمون الا في القرار العسكري. فهاشم صفي الدين، مثلاً، رئيس"المجلس التنفيذي"، وابراهيم أمين السيد رئيس"المجلس السياسي"، وحسين الموسوي مسؤول الشؤون البلدية، وهناك"رئيس المكتب السياسي"، ومسؤولو المناطق، واليهم يتجمع النواب في"كتلة الوفاء للمقاومة". وتجد جدية القيادة في بُعد"حزب الله"عن زبونية الإدارة اللبنانية ما يزكّيها. فالحزب يبدو على قطيعة مع عالم تخلله الفساد دوماً، حتى أن المستفيدين منه أنفسهم لم يترددوا في تعييره بفساده. وما بين بُعد عن علوم الدين التي يُكتفى بعموميّها، وبُعد عن فساد الادارة التي يُطمح الى بديلها، شق راديكاليو الطائفة طريقهم الى السلطة المجتمعية، تعبّدها الأموال الايرانية ومصادر الدخل الأخرى. وبما يشبه شخص نصر الله، أديرت مؤسسات الحزب، التي بها يخترق الصلبَ الاجتماعي، بكفاية ملحوظة. فإلى"مؤسسة الشهيد"، أنشئت الهيئة الصحية وتلك التربوية والزراعية، فضلاً عن"مؤسسة جهاد البناء"الايرانية الأصل. وقُدّر، عام 1999، ان 1300 شخص من أبناء الشهداء والأسرى استفادوا من تقديماتها حيث أمّنت لواحدهم ضمانات دراسية وصحية بقيمة 1650 دولاراً. وتنطوي الهيئة الصحية على خمسة مستشفيات بمئات الأسرّة، تقلّ أسعارها بنسبة الثلث عن مثيلاتها في المستشفيات التجارية الأخرى، وعلى 32 مستوصفاً وعيادة ومدرستين للتمريض. وبأرقام تعود الى 2000، تشمل المؤسسات التربوية 12 مدرسة غير مجانية يتبع بعض مدرّسيها دورات تأهيل يقام بعضها بالتنسيق مع المراكز الثقافية الفرنسية. أما"جهاد البناء"التي نشأت ل"دعم صمود المدنيين"عبر إصلاح الأضرار الناجمة عن القصف الاسرائيلي، فرممت وعمّرت آلاف المنازل والمحال في الجنوب، ثم أضافت الى نشاطها الأصلي أنشطة بنائية وتلزيمية أخرى. وبدورها، شملت المؤسسات الزراعية مركزين للتأهيل والتجريب الهادفين الى خفض كلفة الانتاج. ومن خلالها قدم الحزب قروضاً يصل واحدها الى ثلاثة آلاف دولار، بفوائد مخفضة، لنحو ألف مزارع صغير. وفي تقديرات اجمالية ان اللبنانيين الذين يستفيدون من مؤسسات الحزب يبلغون 10 في المئة من السكان. ومن الأرقام التي تتردد أن 90 ألف تلميذ، من أصل 120 ألفاً هم مجموع ثانويي الضاحية، كانوا يدرسون، عام 1998، في مدارس الحزب. فإلى"مدارس المهدي"، هناك"مدارس الهادي"و"خديجة الكبرى"، والأهم"مدارس المصطفى"ذات الأقساط الأعلى. وهناك أيضاً المنح الكثيرة التي يقدمها الحزب لطلاب لا يدرسون فحسب في مدارسه، بل في مدارس وجامعات خاصة أخرى. وأما المستشفيات، بما فيها أكبرها"الرسول الأعظم"في الضاحية فتطبّب المحازبين مجاناً، فيما تعمل العلاقات القرابية على توسيع شبكة المستفيدين منها، خصوصاً أن مرضى هذه المستشفيات، وعلى عكس مثيلاتها التجارية، لا تتقاضى أكلاف خدماتها مُقدّماً. وهو عالم يمكن القول إنه تام محكم، لجميع الأعمار والأجناس والطبقات والمهن، يمتد من روضات الأطفال الى المراحل الثانوية العليا، فضلاً عن الحوزات والحوزات النسائية، و"كشافة المهدي"، والنوادي والجمعيات والمساجد الخاصة بالحزب وتلفزيون"المنار"والاذاعات الخاصة الكثيرة ومجلات"المنطلق"و"البلاد"و"العهد"و"مركز الامام الخميني الثقافي"والمراكز الأخرى المشابهة في بيروت وبعلبك والجنوب مما يتم تسييره بالتعاون مع المستشارية الثقافية الإيرانية، وكذلك دور النشر والشركات ووكالات الطبع والنشر والتوزيع، والحركة النقابية الخاصة والحضور في عدد من الأجسام النقابية الطالبي منها والمهني. وعلى العموم، يُلاحظ في سلوك"حزب الله"على الجبهات هذه أكثر من وجهة وسياق. فهناك الاستعاضة عن دولة شبه غائبة، تركت له شطراً من الإعالة والتنمية مثلما تركت له، بموجب اتفاق الطائف، الحدود الجنوبية. بيد أننا نجد أيضاً ما لا يُستهان به من مداخيل تتجمع في يد الحزب فيما يمضي في نشر أفكاره وتعاليمه وفي مدّ شبكات تأثيره. فإذا ما تولّت مدارسه التي تعلّم"ولاية الفقيه"وتوابعها، الى المناهج الرسمية، انتاج شريحة من المتعلمين المؤمنين، تولّت مصالحه، التي يُدار بعضها عبر طبقة من المقاولين المقربين منه، انتاج فئة اجتماعية مرشحة لأدوار سياسية وقيادية في مناطقها. وهذا إذا ما كان يوسّع"المجتمع المضاد"الحزب اللهي، كما يعمّقه، فإنه يُكسبه عناصر هيمنة كاملة لدولة ظل يقف على رأسها حسن نصر الله.