هنري ميلر 1980-1791 هو من دون شك واحدٌ من أكثر الكتّاب الأميركيين تجديداً في القرن العشرين وأحد أرباب الرواية السير-ذاتية. من أهم كتبه نذكر بخاصة روايتي"مدار السرطان"1934 و"مدار الجدي"1939 اللتين كانتا محور جدلٍ واسع في أميركا وأوروبا نظراً إلى طابعهما الإباحي، لدرجة مُنع إصدارهما في الولاياتالمتحدة لفترة طويلة. وقد سمحتا لميلر بالظهور على الساحة الأدبية ككاتب طليعي فريد على مستوى تحرير الأخلاق والغرائز. وستثبّت سمعته هذه ثلاثيته الشهيرة:"الصلب الجميل"التي تتضمن"سيكسوس"1949 و"بليكسوس"1953 و"نيكسوس"1960، والتي تبيّن اليوم أنها في الحقيقة رباعية بعد ظهور تكملة"نيكسوس"التي كانت منتظرة في حينه، وهو نصٌ يتألف من 112 صفحة بقي في حوزة وارثيه من دون نشر إلى أن حصلت دار"أوترومان"الباريسية أخيراً على حقوق نشره باللغة الفرنسية تحت عنوان"نيكسوس 2"تزامناً مع نشر النص الأصلي بالإنكليزية لدى دار"توم تومسون"الأسترالية. وبخلاف الكثير من الكتب المزيّفة التي نُسبت إلى ميلر بعد وفاته، يبيّن مترجم الرواية كريستيان سيروزيي أصالتها من خلال التصحيحات التي يحملها النص المطبوع على الآلة الكاتبة والمنفّذة بيد الكاتب شخصياً. ومع أن هذه الرواية ليست أفضل ما كتبه ميلر، إلا أنها أجمل وأهم الكتب التي نُشرت بعد وفاته. الأمر الذي يحول دون اعتقادنا بأن السبب وراء هذا التأخير في إصدارها هو قيمتها الأدبية الضعيفة. وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن السبب هو انتظار وارثيه مبلغاً كبيراً من المال لم يُعرض عليهم من قبل، لو لم يُصرّح مدير دار"أوترومان"بأنه اشترى حقوق نشر هذه الرواية بأقل من أربعة آلاف دولار. كما يستحيل أن يكون السبب حفاظ وارثيه على سمعة ميلر نظراً إلى الطابع الإباحي للفصل الأخير من الرواية. فمقارنة بكتبه السابقة، يبدو هذا النص بريئاً للغاية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الفصل بالتحديد هو في الواقع جزء من رواية"نيكسوس"الأولى حذفه الناشر الأميركي"غروف"من دون موافقة ميلر. ولعل هذه"الخيانة"هي التي كانت وراء تخلي هذا الأخير عن مشروع هذه الرواية وبقائها بالتالي غير منجزة. وعلى شكل دليل سياحي ممتع وخفيف، يروي ميلر في هذا النص وقائع رحلته الشهيرة إلى أوروبا عام 1928 برفقة زوجته جون التي نجدها تحت إسم منى. وستقوده هذه المغامرة التي تدوم ستة أشهر إلى إنكلترا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وهنغاريا وبولونيا ورومانيا. لكن معظم أحداث الرواية تقع في باريس التي ستفتن الكاتب بشوارعها وحاناتها ومكتباتها ومسارحها ومتاحفها وتمثّل بالنسبة إليه مصدر طاقة لا تنضب ومحفلاً للثقافة والفن اللذين كان يفتقدهما في مدينة مولده، نيويورك. ففيها سيكتشف أسرار العيش بلا قيود أو ممنوعات ويتفتح على ملذات الجسد والروح التي ستُشكّل وقود معظم رواياته. وبالفعل، يُطلق اليوم على فترة الثلاثينات في باريس تسمية"سنوات الطَيش والجنون"لتميّزها بنشاطٍ ثقافي واجتماعي لا مثيل له في العالم وبتجمعات من مختلف المبدعين، خصوصاً في منطقة"مونبارناس"الشهيرة. وفي هذا السياق، تشكّل رواية ميلر شهادة حية وقيّمة حول تلك الفترة ولكن أيضاً حول انطباعات هذا الكاتب الكبير وطريقة عيشه خلالها. ويمكن النظر إلى هذه الرحلة كبحثٍ عن الكتابة ومكان للتدريب والاختبار. فبطل الرواية، فال، الذي يختبئ وراءه ميلر، يجوب عالم الأدب وفقاً للمناقشات واللقاءات التي يقوم بها في باريس مع كتّاب وفنانين أوروبيين كبار. والدرس الأول الذي يستخلصه من ذلك نجده في الجملة الآتية:"أي شخص قادر على صف كلماتٍ، الواحدة تلو الأخرى. لغة كل يوم هي مثل لوح غسيل. أما الكتابة فشيء آخر، تشبه إيقاعاً مستمراً على حافة هاوية. إلى حد اليوم، لم أكتب كلمة واحدة. أمضيتُ وقتي في دعك ثيابٍ، ثيابٍ وسخة. عليّ أولاً أن أعرف من أنا، وإلى أين أنا ماضٍ، ولماذا أنا هنا. عليّ أن أتحوّل إلى يتيم، أن أتعلّم لغتي وأن أتوقّف عن أخذ دروس في الموسيقى، وهلمّ جرّا. عليّ أن أتخلص من كل هذا المتاع الذي كوّمته... وأعني الأدب"."نيكسوس 2"إذاً هو أيضاً فرصة يستغلها ميلر للبوح إلى القارئ بتأملاته العميقة حول"مهنة"الكتابة.