لا أريد لهذه الأسطر أن تبدو رداً على مقالة أدونيس "الحياة"2005/1/13، أولاً لأنني لم أشأ يوماً أن أدخل في حلقة الأخذ والرد الشائعة بين المثقفين العرب كتابة وشفاهة، ولسوء الحظ شفاهة أكثر بكثير منها كتابة، بسبب ما تتطلبه هذه الأخيرة من درجة ما من المسؤولية يتنصل منها بالطبع كل كلام مرسل. والسبب الثاني هو تقديري للرجل. فأدونيس يكاد لا يضارعه شاعر عربي معاصر في تأثيره في حركة الشعر في بلادنا، هذا التأثير مرده الى ناحيتين: كتابته الشعرية، وتنظيره للأدب. ومن علامات هذا التأثير كثرة مريديه... وكثرة مخاصميه. والحقيقة ان كثرة مخاصميه نفسها تحسب له، إذ انها من علامات حضوره الكبير في خريطة الشعر العربي في العقود الأخيرة. الوجه الآخر لأدونيس هو وجهه التنويري، فمن كتبه الكثيرة الى مقالاته الأكثر يلمس المتابع المكانة الرفيعة التي يوليها هذا الرجل لمسألة الحرية. حرية المجتمع، حرية السياسة، حرية الثقافة، حرية الفكر، حرية القول... الخ. ولا تضارع هذه المكانة لديه إلا المكانة التي تحتلها مسألة تحديث مجتمعاتنا في عقله ووجدانه. ويمكن الرجوع الى عشرات النصوص التي كتبها على مدى أربعين عاماً حول هذه المحاور، فمن نقده للفكر الغيبي، الى نقده للديكتاتوريات العربية، الى نقده لنظام الملالي في إيران، الى نقده للنظام الطالباني، الى موقفه الرائع من مسألة الحجاب في فرنسا أخيراً، كل ذلك يضعه من دون لبس في صف التنويريين العرب المعاصرين أمثال: حامد أبو زيد ومحمد وعابد الجابري وصادق العظم وجورج طرابيشي ومحمد أركون وهشام شرابي وعلي عبدالرازق وعبدالله العروي... الخ. والذين يخوضون معارك فكرية قاسية نيابة عن أنفسهم، وعن المثقفين المترددين، بل أكاد أقول نيابة عن القسم الأعظم من أبناء مجتمعاتنا الغارقة في أحوال التخلف والاستلاب. من هنا، من تصوري لهذه المكانة الرفيعة، فوجئت بأن يرد أدونيس على رسالة على الانترنت وجهت من جهة مجهولة أو تكاد الى الاكاديمية الملكية السويدية التي تمنح جوائز نوبل. فلا شك في أن الأكاديمية الملكية تصلها آلاف الرسائل لمئات الأسباب، ولا أخال ان هذه الرسائل تدخل في حساباتها السنوية، وإلا لفقدت الأكاديمية السويدية الكثير من رصانتها وصدقيتها. معروف ان في سورية هيئتين لحقوق الإنسان، تنشطان في شكل شبه علني، وان كان غير مرخص حتى الآن، وتصدران البيانات من دمشق، وناشطوهما وكوادرهما معروفة، أما الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان فليست معروفة، وهي في الأغلب مكونة من أشخاص عدة، وربما شخص واحد! كما ان الأخطاء الفادحة واللغة المتوترة الواردة في نص الرسالة تظهر بوضوح مدى خفة المسألة برمتها، والتي لم تكن لتستحق من أدونيس إلا الإهمال. المسألة التي تعنيني شخصياً هي مسألة الشاعر فرج بيرقدار. وشبهة إلصاق صفة"شاعر"به أثناء اعتقاله، بينما لا يعدو كونه معتقلاً سياسياً فحسب. والحكاية يمكن سردها على هذا النحو: سُجن الشاعر فرج بيرقدار مدة تزيد على أربعة عشر عاماً، وتعرض لأهوال لا عد لها وبخاصة في سجن تدمر، مثله مثل آلاف المعتقلين السياسيين في حقبة الثمانينات من القرن المنصرم، والذين لم يتح لعدد غير معروف منهم الخروج من ذلك السجن أبداً. بسبب المعلومات التي تسربت الى خارج السجن عام 1998 عن تدهور صحته عملنا الكثير، نحن الأصدقاء المثقفين والسياسيين ووقعنا عريضة تطالب بإطلاق سراحه. اتصلت بأدونيس - من ضمن من اتصلت بهم - فقال لي: أنا لا أعرف هذا الشاعر. فقلت له انه شاعر معروف في سورية ينشر منذ السبعينات وطبع ديوانين وقصيدة طويلة في بيروت، ومن المرجح انك لم تسمع باسمه لأن دواوينه تم توزيعها في شكل سيئ، وعلى أي حال فنحن لسنا بصدد تقويم شاعريته بل الدفاع عن حريته. وقّع أدونيس العريضة بحماسة، ولكن في اليوم التالي اتصل بي وأثار معي مسألتين، واحدة سياسية وأخرى أمنية حول العريضة. تحاورنا في المسألتين، وفي النهاية قال لي: أريد سحب توقيعي لأحتفظ به لمناسبة كبيرة مقبلة. قلت: لك ما تريد. وقد أبدى أدونيس صدقاً جلياً في حديثه حيث وقّع بعد فترة بيان ال100، وهو بيان أقوى بكل المقاييس من بيان المطالبة بإطلاق سراح الشاعر فرج بيرقدار، حيث يتناول أحدهما موضوع شاعر واحد، بينما يصادم الثاني الوضع السياسي العام في سورية، ويرسم خطاً ديموقراطياً حاسماً لخروج سورية من مأزقها التاريخي المعاصر. وجدت بعد فترة ان من واجبي أن أوصل الى أدونيس ديوان فرج بيرقدار الذي كتبه في السجن، والذي تسربت مخطوطته الى بيروت حيث طبع بعنوان:"حمامة مطلقة الجناحين"، وقد قام بترجمته الى الفرنسية ترجمة باهرة الشاعر عبداللطيف اللعبي وصدر عن دار ALDANTE عام 1998 بعنوان مقترح من المترجم: NI VIVANT, NI MORT ليس حياً، ليس ميتاً وقد أرسلته باليد مع أحد الأصدقاء رغبة مني بتعريف أدونيس بشعر بيرقدار. بعد خروج الشاعر بيرقدار من السجن عام 2000، أصدر ديواناً خامساً بعنوان"تقاسيم آسيوية"عن دار"حوران"في دمشق وذلك عام 2001، ولم أحاول إيصاله الى أدونيس، لاعتقادي بأن الشاعر وقد أصبح حراً، له وحده أن يتصرف بإهداء دواوينه لمن يشاء. وليس في الأمر تزوير من أي نوع. باريس 2005/1/20