من بين التوصيفات غير الدقيقة التي دأبت عليها معظم وسائل الإعلام العربية، في متابعتها وتحليلاتها للأوضاع في العراق، إلحاق مدينة النجف بمدن الجنوب، في تجاوز واضح للحقيقة الجغرافية لصالح ما يحدده أو يفترضه توصيف طائفي سكاني، يخلط بين كون النجف العاصمة الدينية للشيعة، وبين التمركز التقليدي للشيعة في المنطقة الجنوبية من البلاد بوصفها منطقة الكثافة السكانية الرئيسية لهذه الطائفة. لكن النجف في جغرافيا الأقاليم العراقية تعدُّ واحدةً من محافظات ما يعرف بمناطق الفرات الأوسط التي تضمُّ كذلك محافظات كربلاء والقادسية الديوانية وبابل الحلة والسماوة المثنى. ومن الواضح أن مناطق الفرات تنقسم إلى مناطق الفرات الأعلى والفرات الأوسط، حيث تشمل أعاليه معظمَ مناطق محافطة الأنبار بمساحتها الجغرافية الهائلة التي تشكل حوالي ثلث العراق، وعدد نفوسها الذي يشكل أقلَّ كثافة سكانية في العراق مقارنة بالمساحة الشاسعة. ومجرى نهر الفرات لا يقف عند حدود رسم هذا الخطِّ السكاني الطائفي فحسب، بل كان مصدراً لنزاعات شتى داخلية قبل أن تكونَ إقليمية، وأشهر ما يعرفه العراقيون من هذا الجانب هو التنازع بين أهالي قريتي رواة وعانة في أعالي الفرات. لكن التنازع بين أعالي النهر وهو يدخل الأراضي العراقية وبين استراحته في الوسط، يتخذ شكلاً آخر في تاريخ العراق. ففي المدونات، والمأثورات الشفهية، والتي تخضع لتعديل دائم في ما يتصل بتاريخ ثورة العشرين التي انطلقت ضد الاحتلال الإنكليزي للعراق، تبدو مناطق وسط الفرات وأعاليه خلاصة حقيقية لهذا التنازع. فمهد الثورة الكبرى ظل يتأرجح بين أعالي النهر ووسطه وصولاً إلى جنوبه، لكن المؤكدَ أن نهر الفرات بل العراق كله انضمَّ إلى الثورة التي لا يزال الجميع اليوم يحرص على جذب حبل مهدها الأول لناحيته، ويهدهده على هواه ووفق فولكلور تراثه الشفاهي. ووسط هذا التجاذب تتلخص النجف: مدينة بين صحراء وضريح وحوزة علمية، ومقبرة هي الأكبر في العالم، لكنهما الضريح والمقبرة جعلا من البيداء الهشة مكاناً صعباً على التطويع السياسي، وحاضرة صالحة للسكن بل وللتجارة والسياحة أيضاً. فمنذ اكتشاف ضريح الإمام علي بن أبي طالب بعد مرور أكثر من قرن على استشهاده، اكتسبت النجف تاريخاً جديداً انفتح على الماضي فاحتواه بقداسته، وألقى بظلاله الكثيفة والمتشابكة على المستقبل فتداخلت فيه الأزمنة، وتطلعت إليه بقية الأمكنة من العراق ومما هو أبعد من العراق. وقد يبدو من المفيد الإشارة هنا إلى إن اكتشاف الضريح تزامن مع بناء المنصور لمدينة بغداد بحسب الرواية الشيعية، ومنذ ذلك الوقت بدا أن ثمة عاصمتين: واحدة للدولة بعد ان تحولت تحولاً واضحاً من صيغتها الدينية المستمدة من فكرة الخلافة إلى دولة تتحدد بعلاقة الحاكم والمحكوم، وأخرى للدين بشكل مؤسساتي مستحدث. الأولى تدير الشؤون الدنيوية للأفراد، والثانية كهنوتية تدبر لهم طريقاً أخرى نحو السماء. لكنهما عاصمتان فشلتا فعلاً في المحافظة على المسافة النوعية بين جادتي هذين الطريقين، فلا بغداد اكتفت بدور عاصمة الدولة وتركت للأفراد اختيار طريقهم الأخرى، ولا النجف اكتفت بدور الفاتيكان الروحي، وتركت مسافة نوعية بينها وبين الدولة. وسنلاحظ أنه كلما تراجع دور العاصمة برز دور النجف. وليس غريباً في هذا الشأن إذا عرفنا إن الأهمية التالية للنجف، نعني ازدهارها العلمي بعد احتضانها للحوزة العلمية، جاء بعد سقوط بغداد بيد المغول. فأصل الحوزة مدرسة بغدادية في الفقه كان من روادها الشيخ المفيد، والشريف المرتضى قبل أن يأتي أبو جعفر الطوسي وتتأسس الحوزة العلمية بصيغتها الحقيقية على يديه ثم تنتقل إلى النجف. ومن الثابت تاريخياً إن الطوسي عاصر احتلال المغول لبغداد. وعلى هذا الأساس يعود اليوم دور النجف والمرجعية بالبروز بعد احتلال بغداد وانهيار السلطة بذلك السقوط. وفيما بدأت النجف مزاحمتها لبغداد بعد تأسيسها بقليل باكتشاف الضريح، فانتزعت منها الحوزة سريعاً، كان في كربلاء المجاورة من أضرحة شهداء الطف ما يمنحها القدرة على التنازع على حيازة العلم، واحتضان سطوحه وبحوثه الخارجية بصيغة جديدة، فظهر دور جديد لكربلاء تمثل في حوزة علمية ومدرسة خاصة داخل الفقه الشيعي تسمى لدى علماء الأصول بالمدرسة الإخبارية في مقابل المدرسة الاصولية التقليدية في الفقه الشيعي. وأبرز ما يمكن إيراده في هذا المجال أن مفصل الإختلاف الأساسي بين المدرستين يتركز حول الاجتهاد الذي دأبت عليه المدرسة الأصولية، وجاءت الإخبارية لتنحيه قليلاً لصالح تفسير النصوص برواية المعصوم. لكن هذا الإختلاف أخذ شكلاً آخر انسحب على الممارسة السياسية ودور الحوزة في الأحداث التي شهدها العراق بعد الإحتلال البريطاني وبخاصة خلال ثورة العشرين. فقد برزت مرجعية كربلاء بقيادة آية الله الشيرازي كونها تدعو إلى المقاومة المسلحة ضد البريطانيين، فيما حافظت مرجعية النجف التي كان يتزعمها آية الله كاظم اليزدي على موقف يدعو الى التهدئة بعدما وقعت النجف نفسها ضحية للعنف البريطاني باجتياح عسكري كبير. وخلال العقدين الماضيين انسحب الإجتهاد الحوزوي ما بين كربلاء والنجف على وضع التنظيمات الدينية المعارضة لنظام صدام، خلال وجودها في الخارج في الثمانينات والتسعينات، فكانت الحوزات الكربلائية والمواكب الحسينية، تقف على مسافة واضحة من الحوزات النجفية ومواكبها، بسمات وتقاليد خاصة لا تخلو من نزعات التنافس في إظهار تمايز الواحدة عن الاخرى وتفاضلها. إنهما الكوفة والبصرة الجديدتان في تظهير للتنافس الفقهي والثقافي عموماً. لكن من المهم أيضاً الإشارة إلى أن النجف وكربلاء لا تمثلان المعقل الشيعي إلا برمزية الأضرحة والمقابر التي تحتضنانها، فعدد الشيعة في كلتا المدينتين معاً لا يكاد يصل إلى عدد نفوس مدينة الناصرية ثاني أكبر مدن الجنوب من حيث عدد السكان، فهما في الواقع تمثلان معقل ما يمكن تسميته طبقة التجار الشيعة والنخبة البرجوزاية الشيعية في العراق، ومركزهما التجاري يؤكد هذا الواقع. ولعل انتفاضة التيار الصدري بصفحتيها أفرزت جانباً من هذا الواقع عندما رأينا اغلب المسلحين الذي قاتلوا القوات الأميركية في هاتين المدينتين جاؤوا من القاع الشيعي الجنوبي، في وقت جرى النظر إليهم من قبل النجفيين والكربلائيين على أنهم غرباء عن المدينتين ساهموا في تخريبهما وفي تعطيل التجارة والإيقاع الحياتي المعتاد فيهما. وعلى رغم أنهما من المدن التي قد تشهد إقبالاً كبيراً على الإنتخابات قياساً بالمدن الأخرى، لكنهما في الوقت نفسه لن تكونا في منأى عن أعمال العنف التي تتجه في مثل هذه اللحظات نحو الرمزية، وما يثيره استهداف العتبات المقدسة من رسائل متعددة الدلالات والأغراض لا تستبعد أن تكون الدعاية الانتخابية واحدة منها. قد يكون تزامن عيد الأضحى مع الذروة التي تصل لها الحملات، ذا دلالة بالنسبة لمدينة تضم رفات ذوي الأغلبية من العراقيين. ولعل الكثير من العراقيين سيفاجأون قبل موعد التصويت بقليل بمشهد مؤثر عندما يجدون أن قبور أعزائهم قد اندرست او تهدمت تحت القصف الذي شهدته المقبرة في مواجهات أنصار الصدر ضد القوات الأميركية، وإن الأمر لم يعد مجرد صورة تلفزيونية لمعارك حدثت في المقبرة بل على عظام ذويهم. ولعل مصيبة هؤلاء ستهون وهم يرون إن حائط الصحن الخارجي لضريح الإمام علي، لم ينجز ترميمه حتى الآن بعد الأضرار التي لحقت به خلال تلك المواجهات. من هنا سيكون للنجف تأثير في هذا السياق عندما يعود شيعة الجنوب والوسط، إلى مدنهم وقراهم، يتبادلون الحكايات والعبر الجديدة من العاصمة الروحية قبل أن يدلوا بأصواتهم في مدنهم بل حتى في العاصمة التقليدية نفسها. والواقع أن قضية الإقبال على التصويت وفق كل التقديرات المتحصلة حتى الآن لا يمكن الركون اليها تماماً، ذلك أن ثمة فئات من الشعب ستقاطع الانتخابات لأسباب شتى، وثمة من الأفراد من سيجد نفسه غير معني بأمر ستصاحبه تفجيرات واغتيالات وأعمال عنف لا تمييزية، ليفضل البقاء في المنزل على المخاطرة من أجل قضية لم تزل غير واضحة المعالم في ذهنه. ومن الواضح أن بعض التنظيمات المتنافسة، بخاصة تلك التي تملك قاعدة جيدة وميليشيا مسلحة، متنبهة لهذا الواقع، ولهذا فهي تحرص اليوم على دفع المترددين إلى التصويت. وهؤلاء المترددون، هم إلى الآن الغالبية لكنهم قد لا يكونون كذلك صباح الثلاثين من الشهر الجاري، بعد أن يشتد الوطيس، ويتشبث كل طرف بكل ما لديه من أوراق. ولا يستبعد أن تصل حملات الحركات التي تمتلك ميلشيا مسلحة إلى المنازل العراقية وهي"تدعوهم"إلى التسجيل والمشاركة في وقت واحد. وإذا كانت النجف شكلت مشكلة انتخابية بسبب الحوزة والمرجعية التي لا زال شائعاً بأنها تدعم قائمة الإئتلاف، فإن كربلاء ذهبت أبعد من ذلك، بأن أصبح ضريح الإمام الحسين بن علي نفسه جزءاً من الحملة الإنتخابية. إذ تشيع في بغداد اليوم أغنية ذات إيقاع ملحمي، تعتمد كلماتها على قصيدة"آمنت بالحسين"التي كتبها الجواهري في أربعينات القرن الماضي، وهي القصيدة الأشهر بالنسبة لعامة الناس الذين كانوا يطالعون أبياتاً من هذه القصيدة وهم يزورون ضريح الحسين في كربلاء حيث خطت بماء الذهب ونقشت على القفص الذهبي أعلى الضريح. هذه الأغنية يروج لها على أنها جزء من الحملة الانتخابية لقائمة الإئتلاف العراقي الموحد. فليس السيد علي السيستاني وحده من يدير من عزلته في النجف الحملة الإنتخابية ويؤثر في مساراتها بقوة، ولعل طرح هذه الأغنية في التدوال اليومي في الحملة جاء متزامناً، وربما نوعاً من الرد والذهاب بعيداً نحو تصعيد التنافس في الحملات الترويجية، مع إشاعات انتخابية مضادة تفيد أن السيستاني قد توفي. كربلاء والنجف تبدوان اليوم متضامنتين في قائمة الإئتلاف ليس في رمزيتهما ولا في حوزتيهما، بل في استفادة رموز القائمة الانتخابية من أثر تاريخي وتكييفه لصالح واقع ليس في إمكانه أن يكون منبتاً عن ذلك الأثر. وقد يشكل وجود عبد العزيز الحكيم رئيس"المجلس الأعلى"النجفي إلى جانب اأبراهيم الجعفري الكربلائي عن"حزب الدعوة"، وإلى جانبهما أحمد الجلبي العلماني البغدادي الملتبس الولاءات، وموفق الربيعي المعروف بمزاجه الأميركي، والعشرات من الأسماء التي أدارت خلافاً كبيراً بينها عندما كانت في المعارضة، سؤالاً عميقاً ومشروعاً يتعلق بالنكهة التي ستسفر عنها القائمة، والماركة التي تحملها في خلاصتها. الحلة والديوانية: تنافس واختلاط بين لوائح العشائر وقوائم الأحزاب المدينة الثالثة في منطقة الفرات الأوسط هي بابل الحلة المعروفة بدورها الفاعل في حضارة وادي الرافدين، لكن ما يجمعها هنا مع كل من النجف وكربلاء واد آخر، إذ احتضنت الحلة الحوزة العلمية برهة من الزمن وحافظت على مسيرة الحوزة بعد سقوط بغداد في يد المغول، بل قدمت المدينة اثنين من اكبر علماء الشيعة في تلك الفترة هما المحقق الحلي، وابن المطهر المعروف بالعلامة الحلي. وعلى رغم أنها أكبر مدن الفرات الأوسط من حيث النفوس، إلا إنها لا تمتلك هالة كل من النجف وكربلاء، اذ لا تعني الأرقام شيئاً كثيراً في تحديد اهمية المدن في هذه البلاد. فيما تكاد الديوانية تنظر إلى مدن الفرات الأوسط الثلاث الأخرى بنوع من الغبطة التي قد تنطوي في تفصيلها على شيء من الحسد لأنها لا تشاركها التاريخ كثيراً على رغم انها تشاركها الفرات بقوة، بيد أنها تركن إلى ما فيها من أضرحة ومقامات تجعلها ذات صلة بالخط الحوزوي الذي يربط الطريق بين بغداد والنجف. لكن واقع العنف في العراق اليوم يشير إلى إن هذه الطريق محفوفة بالخطر الهائل، فالطريق من بغداد إلى الحلة والديوانية، تعرف اليوم ب"مثلث الموت"في تراث المثلثات المرعبة في العراق، أو طريق الموت، بفعل سيطرة المسلحين المناهضين للحكومة والرافضين لوجود الاحتلال الأميركي، على مناطق اللطيفية واليوسفية والاسكندرية والخط السريع الذي يربط بغداد بمناطق الفرات الأوسط، وهي سمة إضافية تؤكد انقطاع العاصمة عن التواصل مع عموم تلك المناطق. غير أن الأمر ليس كذلك في محافظة السماوة المثنى التي تميل إلى الصحراء الغربية أكثر من ميلها إلى الجنوب أو الوسط، فهي تكاد تكون أهدأ محافظة عراقية اذا ما استبعدنا عن المقارنة مناطق إقليم كردستان. فالجنود اليابانيون والهولنديون الذين يخدمون في السماوة سيكون في مقدورهم أن يتمثلوا صورة الصحراء التي رسموها في خيالاتهم عن المنطقة العربية، حتى يبدو لهم العالم بما فيه العراق المحترق وكأنه حكاية في مكان آخر. بيد أن السماوة التي تعد صلة الوصل بين الصحراء والنهر والسهل، لها حضور في الذاكرة السياسية العراقية اذ كانت تضم سجناً رهيباً في الستينات يودع فيه السياسيون من كل أنحاء البلاد، حيث لا طريق للوصول إليهم في رمال الصحراء إلا عبر الأدلة والجمال، وحيث لا إمكانية للهروب إلا بمواجهة خطر الموت عطشاً أو افتراساً. وثمة أساطير تروى عن هذا السجن ومحاولات الهروب منه قبل ان يجري تحويله إلى معسكر. لكن صحراء السماوة قد تكون أكثر خضرة من"المنطقة الخضراء"في بغداد نفسها والأكثر إقبالاً من بين سائر المدن على الأنتخابات، وقد تسجل أعلى المعدلات في هذا السياق على رغم ان عدد سكانها لا يكاد يزيد على نصف مليون نسمة اي الأقل من بين المحافظاتالعراقية الثماني عشرة. ويمكن في هذا السياق رصد الكيفية التي استعدت بها قائمة الائتلاف العراقي الموحد للإنتخابات بان أطلقت محطة فضائية وارضية تلفزيونية سمتها الفرات، واتخذت لها شعاراً من الأخضر المشعّ الشعار الإسلامي التقليدي وهي بالتالي لن تحتاج إلى فضائيات حكومية أو اقليمية لدعم حملتها الإنتخابية، لكن السؤال يبقى عن القدرة الذاتية التي تمتلكها هذه القائمة لإطلاق فضائية خاصة تنافس بها الفضاء الملتبس. حتى الآن نجحت هذه القائمة بحملتها نجاحاً كان من شأنه استفزاز القوائم الأخرى. وراحت هذه الأخيرة تبحث في الإساليب الكفيلة بالحد من هذا التقدم، فصعدت اعتراضاتها على استعمال الرموز الدينية من قبل هذه القائمة في حملتها. وهنا تبدو"القائمة العراقية"التي يرأسها إياد علاوي منافسة قوية لقائمة الإئتلاف العراقي الموحد، بخاصة في الحلة والديوانية التي تشير التوقعات إلى ان نسبة المقترعين فيها قد تصل إلى 80 في المئة كونها من المناطق التي تصنف على أنها ذات استقرار أمني، وإن من يحق لهم التصويت في هاتين المحافظتين قد يصل إلى مليون شخص. أهمية"القائمة العراقية"لا تتأتى من طبيعة مرشحيها، أو من تاريخ الأحزاب والتيارات المنضوية فيها، فالواقع أن لا أحزابَ حقيقية تنضوي في هذه القائمة. لكنها تنبع من وجود علاوي نفسه على رأسها، وشعاره الذي رفعه وهو"القيادة القوية والوطن الآمن". وثنائية القوة والأمن التي يعنيها علاوي في شعاره، تأخذ بعداً آخر عندما نعرف انه شكل تحالفاً لا يستهان به مع عدد من شيوخ عشائر الفرات الأوسط، بدأ منذ أزمة النجف في الخريف الماضي، واجتياح الفلوجة بعد ذلك، ولم يوفر مالاً ولا دهاء، في سبيل تقوية هذا التحالف بخاصة بالهبات والوعود التي أغدقها على شيوخ العشائر، ليتشكل"مجلس أعيان العراق"و"تجمع الوفاء للعراق"وهما خليط من شخصيات مستقلة من وجهاء العشائر ورجال الدين الذين لا ينتسبون لأحزاب دينية. وسيكون إسم الشيخ حسين الشعلان رأس الحربة لعلاوي في مناطق الفرات الأوسط، وهو من العائلة نفسها التي ينتمي اليها حازم الشعلان المنافس في قائمة"عراقيون"التي يرأسها غازي الياور. وكذلك الحال مع حسين الصدر في كربلاء والنجف، وهو عميد آل الصدر. كما يجري التركيز على هذا التوصيف في الحملة، فيما سيشكل نزار حبيب الخيزران رئيس عشائر العزة في ديالى وفلاح حسن النقيب السامرائي رئيس الهيئة العراقية المستقلة وحاتم مخلص التكريتي أبرز الوجوه السنية في القائمة. وهنا لا بد من التأكيد على أن الحديث عن"مقاطعة سنية للانتخابات"يبدو نوعاً من"الميديا المهولة"التي لا تستند كثيراً إلى الواقع. وربما كان الحديث عن إمتناع إجراء الانتخابات في المدن السنية هو الأرجح، ذلك ان النخبة السنية مبثوثة في كل القوائم المتنافسة بلا استثناء، وإذا كان الحديث يجري عن قيادة شيعية لأغلب تلك القوائم، فإن ثمة قيادات سنية شكلت قوائمها الخاصة على النهج ذاته من بينها قائمة الدكتور عدنان الباجه جي وقائمة الرئيس غازي الياور وقائمة"كتلة المصالحة والتحرير"برئاسة مشعان الجبوري وقائمة"تجمع الوحدة الوطنية العراقي"برئاسة الدكتور نهرو محمد عبد الكريم وقائمة"التجمع الوطني"برئاسة حسين الجبوري والعشرات من القوائم الأخرى. بل إن قبيلة شمر، وهي أكبر القبائل العربية السنية على رغم ضمها لجناح شيعي واسع، تتمثل في هذه الانتخابات بأبرز فخذين فيها وهما الياور والجربا. ولن يكون التحدر المناطقي والعشائري والطائفي بعيداً عن أعين حتى الأحزاب"التاريخية"المعروفة بعلمانيتها التقليدية. ينطبق الحال في هذا السياق على قائمة"اتحاد الشعب"التابعة للحزب الشيوعي العراقي برئاسة حميد مجيد موسى الذي يتحدر من الفرات الأوسط ومن محافظة الحلة تحديداً، وينطبق ايضاً على وزير الثقافة في الحكومة الموقتة مفيد الجزائري. ولهذا أهمية في مجتمع لم يعتد بعد التصويت على أساس المعرفة التاريخية والعملية للتيارات بل وفق انحداراتها المناطقية، وقد تجد"اتحاد الشعب"في الحلة والديوانية دعماً لها يضيف أصواتاً لمرشحيها. ولن تبدو قائمة"عراقيون"التي يرأسها الياور ذات حظوظ كبيرة، لكنها لن تكون معدومتها بالتأكيد. فعلى رغم ان وزير الدفاع الحالي حازم الشعلان المنحدر من الديوانية مرشح عن هذه القائمة، إلا أن الشعلان ذهب بعيداً في مواجهة أبناء هذه المدن ونعتهم بأوصاف قاسية خلال مواجهات النجف في الخريف الماضي، ولعل استحقاق الانتخابات سيكون مناسبة لاختبار مدى تأثير ذيول تلك المرحلة على الحملات الانتخابية في الفرات الأوسط. وربما لهذا أيضاً كانت قائمة"عراقيون"بأبرز ممثليها، الياور والشعلان، من بين الجهات التي دعت الى تأجيل الإنتخابات، مما يشير إلى أن استعدادها لدخول هذا الإستحقاق لا يزال غير مكتمل. وإضافة إلى الشعلان، يشكل وجود حاجم الحسني وزير الصناعة في الحكومة الموقتة مشكلة أخرى للقائمة. فهو ترشح لمنصبه الحالي عن الحزب الإسلامي العراقي، لكنه رفض الانسحاب من الحكومة على رغم طلب حزبه منه ذلك، وها هو اليوم يخوض الانتخابات فيما أعلن حزبه انسحابه منها. وإذا ما تجاوزنا المشكلات الداخلية للقوائم المطروحة فإن الواقع يقول إن في العراق اليوم مشكلات يومية قد تشكل عبئاً فور انتهاء الانتخابات. فتظاهرات حملة الفوانيس في مدن العراق، على سبيل المثال، أظهرت أعداداًً هائلة من الناس الذين قد لا يؤيدون تياراً سياسياً بذاته قدر تأييدهم ل"التيار الكهربائي"كما يشيع بنوع من النكتة السوداء في العراق الدامس الليل والملتبس النهار. تظاهرات حملة الفوانيس هي الصورة الأخرى التي لا يمكن إزاءها لأي من هذه التجمعات أن تقدم فانوساً سحرياً بديلاً عن مئات الآلاف من الفوانيس التي أضحت تفتقر حتى للوقود، ناهيك عن أزمة الوقود المستشرية في بلد النفط، ووصولاً إلى أزمة مياه في بلد يخترقه نهران من أقصاه إلى أقصاه، وتتفرع عنهما أو تصب فيهما عشرات الأنهار الأخرى من شمال البلاد حتى جنوبها. مشكلات لم تنجح الحكومة الموقتة في التقليل من وطأتها على المواطنين، وربما لهذا اتخذ الإئتلاف العراقي الموحد من الشمعة الصغيرة شعاراً له، أو لعله يتعلل في ذلك بالمثل الصيني المأثور، أو لأنه يريد أن يقول للناس، برمزية ما، إن الفانوس السحري ليس في حوزة أحد، وكل ما يمكن ان يقدم الآن هو ضوء شمعة لاجتياز النفق ليس أكثر. كاتب وباحث لبناني.