برزت مقولات في عهد ياسر عرفات تحتاج الى مراجعة وتقويم، ابرزها: "الدولة الفلسطينية" و"الأرض مقابل السلام"، ونحن سنلقي الضوء على هاتين المقولتين. لدى مراجعة تاريخ حركات التحرر المعاصرة والقديمة يتبين ان الدولة كانت تأتي تتويجاً لعملية تحرير على الأرض، وثمرة لانتصار حقيقي لحركة التحرير على خصمها. حصل هذا مع كل حركات التحرير في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية الخ... فما الذي حصل مع القضية الفلسطينية خلال الحقبة الماضية؟ هناك ظاهرة لم تعرفها اية قضية تحرير، وهي إعلان الدولة قبل ان يتحرر شبر منها عندما اعلن ياسر عرفات قيام الدولة في 15 تشرين الثاني نوفمبر 1988 ، وكان سبب ذلك اعلان تخلي الأردن عن ارتباطه بالضفة صيف العام نفسه، فكان هذا الإعلان بداية لتنازلات على مستوى القضية اولها الاعتراف بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بعد حرب 1967، وكانت نتيجة ذلك ايضاً وقف الطرف الفلسطيني اي عمليات عسكرية ضد اسرائيل خارج الأراضي المحتلة عام 1948. ثم اجرى ممثلو عرفات في صيف 1993 محادثات سرية في العاصمة النروجية مع ممثلي اسحق رابين، اعلن بعدها التوصل الى اتفاق في اوسلو سمي"اتفاق غزة - اريحا اولاً"، ووقع في حديقة البيت الأبيض في 1993/9/13، وكانت الثمرة الحقيقية التي جنتها اسرائيل من هذا الاتفاق وقف الانتفاضة الفلسطينية من جهة، واعتراف منظمة التحرير بالدولة العبرية وبحق اليهود في فلسطين، من دون ان يقابل ذلك اعتراف اسرائيل بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني من جهة ثانية. وكانت ثمرة اتفاقات اوسلو السماح بإقامة سلطة فلسطينية في غزة والضفة، ثم دخل عرفات الى غزة عام 1994، وكان واضحاً ان القضايا الرئيسة كحق العودة للاجئين الفلسطينيين، ووضع مدينة القدس والمسجد الأقصى، وحدود الدولة، وأبعاد السيادة، وتقاسم المياه إلخ... مؤجلة الى المرحلة النهائية، ما يعني ان هناك صورة دولة وسلطة، وأن الدولة الحقيقية مؤجلة حتى إشعار آخر. هذا الوضع كانت له نتائج كارثية على التحرير، إذ اصبحت الدولة بديلاً من التحرير، والأهم من ذلك ان القيادة الفلسطينية اصبحت رهينة الدولة المنتظرة، فاضطرت من اجل تحقيق حلم السلطة والدولة ان تقدم تنازلات لخصمها على حساب شعبها. ويتضح ذلك في موقفها من الأعمال الجهادية بشعبها، فهي معها وضدها في آن: معها من اجل الضغط على القيادة الإسرائيلية التي حنثت بوعودها في إقامة الدولة المستقلة ولحست كل توقيعاتها، واعتمدت قول رابين"ليست هناك وعود مقدسة"من جهة، وهي في حرج كبير امام القيادة الإسرائيلية والأميركية فاضطرت لإصدار تصريحات استنكرت العمليات الجهادية في الأراضي المحتلة من جهة اخرى. ثم اضطرت في مرحلة لاحقة الى تغيير الميثاق الذي قامت عليه منظمة التحرير من اجل إرضاء اسرائيل وأميركا، مما اضعف صدقيتها امام شعبها، وجعلها تنقض الأصل الذي قامت عليه وهو التحرير فشطبت كل ما يتعلق بالتحرير. ولا شك في ان هذا الموقف المتذبذب من القيادة الفلسطينية، وهذه التراجعات في مجالات عدة، أربكت الساحة السياسية، وجعلت المجاهدين والمناضلين في توتر وقلق دائمين على مستقبل نضالهم وجهادهم وتضحياتهم، وهذا اخطر ما يقع فيه شعب وتقع فيه حركة تحرير، إذ تصبح هناك فجوة بين القيادة وجماهيرها. والسؤال هو: هل كان الشعب الفلسطيني في حاجة الى دولة ام الى تحرير وطنه؟ الجواب السريع انه كان في حاجة الى تحرير وطنه، لكن وقائع السنوات العشر الماضية اشارت الى ان الجهود كانت مبذولة لإقامة الدولة وليس التحرير، وهذا ما يحتاج الى تعديل في مرحلة ما بعد عرفات. وقد ورثت الساحة السياسية مقولة اخرى من مرحلة عرفات هي:"الأرض مقابل السلام"، فهل هي مقولة سليمة طالما كانت اسرائيل تسيطر على الأرض وما زالت هي الأقوى وليس هناك اي انتصار حقيقي يدفعها الى التنازل عن الأرض، إذ ان اسرائيل تنازلت عن الأرض مرتين: الأولى مع مصر عندما تخلت عن ارض سيناء، بعد حرب رمضان عام 1973، وحصلت على ثمن سياسي كبير لقاء ذلك هو توقيع اتفاق سلام مع مصر، لتضمن اخراج اكبر دولة عربية من حلبة الصراع معها. والثانية مع لبنان عندما انسحبت من الجنوب اللبناني في ايار مايو 2000، بعدما أنزلت بها قوى المقاومة اللبنانية خسائر فادحة، وباتت خسائر الاحتلال اكثر من ارباحه. من الواضح ان تانك المرتين اللتين تنازلت اسرائيل فيهما عن الأرض كانتا نتيجة قتال ومعارك، لذلك يفترض ان تعدّل المقولة السابقة لتصبح"الأرض مقابل الانتصار". هذه بعض المقولات التي ورثتها الساحة السياسية من مرحلة عرفات، وهي مقولات غير صحيحة على إطلاقها، وتحتاج الى تعديل من اجل تصويب مسيرة الأمة نحو اهدافها. * كاتب فلسطيني.