بعدما توصل الفلسطينيون والاسرائيليون الى اتفاق "اوسلو" وقبل الاعلان عنه، نصح المفكر العربي اللبناني محسن ابراهيم "الخلية الفلسطينية" التي ادارت المفاوضات السرية في اوسلو بأن تتجنب قدر المستطاع تهمة عمل "كامب ديفيد جديد" من خلف ظهر الزعماء العرب والاحزاب العربية. وحذر من مفاجأتهم بالاتفاق بخاصة انه يمس الجميع. واشار الى اهمية التصرف في المحطات الرئيسية بمسؤولية قومية، واقترح ان يقوم ابو عمار بجولة عربية يطلع خلالها الزعماء العرب، او الاساسيين منهم على الاقل، على نصوص الاتفاق ويطلب مباركتهم واسناد الفلسطينيين في معركة تنفيذه الشاقة. آنذاك، رفض اعضاء "الخلية" ابو مازن وياسر عبد ربه وابو علاء وحسن عصفور الاقتراح باعتباره يعرض الاتفاق الوليد لاخطار جسيمة ويخضعه لمناقصات ومزايدات عربية لا تنتهي، خصوصاً ان مواقف بعض الحكومات العربية منه معروفة سلفاً، وتعليله متعذر. وحبذت "الخلية" توقيعه بأسرع وقت ممكن، والاكتفاء في المرحلة الاولى باطلاع عدد محدود من الزعماء العرب على مضمونه، وتأجيل الجولة الواسعة الى وقت يحدد بعد التوقيع. لاحقاً وقع المحظور الذي حذر منه محسن ابراهيمن الامين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان. وانقسم النظام السياسي العربي بعد توقيع الاتفاق في 13 ايلول سبتمبر 1993 بين مؤيد ومعارض له. ونشأ صراع فلسطيني داخلي وفلسطيني عربي حاد، كان يهدأ احياناً ويثور مجدداً عند توقيع الفلسطينيين والاسرائيليين اي اتفاق تفصيلي جديد اشتق من "اوسلو". وحصد الفلسطينيون سلبيات هذا الصراع سنوات طويلة، وحمّلت حكومات واحزاب عربية عرفات وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية الانقسام. وتسرّع المعارضون عرباً وفلسطينيين، وقدروا ان عرفات سيفرّط بالحقوق الفلسطينية وسيقدم التنازلات التي تطلبها الادارة الاميركية واسرائيل. وطعن بعضهم في شرعيته على رغم انتخابه في عملية ديموقراطية، وواقع الحياة اكد لاحقاً خطأ تقديراتهم. ودفاعاً عن الحقيقة، اعتقد ان ظلماً كبيراً يلحق باتفاق اوسلو وصنّاعه، اذا حمّلناهم وحدهم مسؤولية انقسام الساحة الفلسطينية، وتشرذم النظام السياسي العربي الرسمي والشعبي في العقد الاخير من القرن الماضي. فالانقسام الفلسطيني والتشرذم العربي قائمان قبل "اوسلو" بزمن طويل، وتعمقا بعد حرب الخليج الثانية وغزو الجيش العراقي دولة الكويت عام 1990، وتجذرا بعد ان قاتلت الجيوش العربية بعضها بعضاً، وعجز حكماء العرب عن معالجة ذيول تلك الحرب. وهي لا تزال تعيق توحيد الموقف العربي وتفعيله في مواجهة الاخطار الكبيرة التي تحيط بالعرب جميعاً، وتربك الديبلوماسية العربية في حقل السياسة الدولية، وتشل دور النظام الرسمي العربي في دعم نضال الفلسطينيين من اجل انتزاع حقوقهم المشروعة كما اقرتها الاممالمتحدة. واذا كان لا مجال لمراجعة شاملة لدور اتفاق اوسلو وما تلاه من مفاوضات في اضعاف التضامن العربي مع القضية الفلسطينية، فيجب الاعتراف بأن هذا الاتفاق، الى جانب ايجابيته الكثيرة التي يعمل شارون على تدميرها، وتّر علاقة قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية بعدد لا بأس به من اطراف النظام السياسي العربي بشقيه الرسمي والشعبي، وتسبب في اضعاف مساندة اطراف في هذا النظام القضية الفلسطينية، ووفر لبعضهم فرصة التحلل من التزاماته القومية، والتراجع عن اعتبارها "قضية العرب المركزية". في المقابل تراجع اهتمام القيادة الفلسطينية بالموقف العربي، فركزت جهدها على نيل دعم الموقف الاميركي والاوروبي في تنفيذ الاتفاق باعتبار ان ما يرضى الاميركيين يرضي به العرب. وتوسعت الفجوة بين الطرفين، وتحولت المساندة العربية الشعبية والرسمية للنضال الفلسطيني مجرد وجهة نظر، وتراجع دور مؤسسات منظمة التحرير في تنظيم علاقة اللاجئين الفلسطينيين بالنظام السياسي العربي. واعتقد صناع القرار في اسرائيل والادارة الاميركية بأنهم نجحوا في تجريد القضية الفلسطينية من عمقها العربي، وفككوا الصراع العربي - الاسرائيلي الى مجموعة ازمات متفرقة، وعزلوا القيادة الفلسطينية عن النظام العربي واخضعوها لعملية ابتزاز واسعة. ولا يستطيع انصار طريق اوسلو وانا احدهم انكار ان اتفاق اوسلو اضعف الوحدة الوطنية الفلسطينية، وافرز تياراً انعزالياً دعا الى اعتماد الثنائية الفلسطينية - الاسرائيلية سبيلاً لمعالجة النزاع. وعمل اركان هذا التيار بوسائل وطرق متعددة، على فك ارتباط القضية الفلسطينية بعمقها العربي، وتكريس تلك الثنائية منهجاً ثابتاً في مجالات العلاقات الاقتصادية والامنية الثنائية. وسهل الاتفاق طريقهم وعززوا مواقعهم في اطار النظام السياسي الفلسطيني، وتولى بعضهم مواقع قيادية مهمة. الى ذلك، استمر تشنج علاقة السلطة ومنظمة التحرير بعدد من الحكومات العربية حتى تأبين الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون مفاوضات الحل النهائي منتصف تموز يوليو 2000. وبعد التأبين، تأكد العرب، شعوباً وحكومات، خطأ بعض التقديرات المتعلقة باستسلام الفلسطينيين. وتبين لمن يريد ان يرى الحقيقة ان عرفات لم يفرّط بالحقوق الوطنية، ولاحظ العرب والاسرائيليون ورعاة عملية السلام ان موقف القيادة الفلسطينية في مفاوضات الحل النهائي اختلف عن مفاوضات المرحلة الانتقالية، بخاصة في شأن قضايا الارض والقدس واللاجئين. ولاحظ الجميع ان تساهل المفاوض الفلسطيني في الاولى قابله تشدد في الثانية، واعتبر بعضهم هذا الموقف تطرفاً... وتأكدت قوى حركة التحرر العربية ان انصار الثنائية الفلسطينية - الاسرائيلية اقلية ضئيلة في الشارع الفلسطيني وفي الاطار القيادي المقرر، وان بروز دورهم في مرحلة ما لا يعني ضعف التيار المؤمن بالتضامن العربي وقومية الصراع ضد اسرائيل. وبعد انفجار "انتفاضة الاقصى والاستقلال" اواخر ايلول 2000، اهتز النظام السياسي العربي بشقيه الشعبي والرسمي، ازاء مشاهد المواجهات غير المتكافئة مع قوات الاحتلال. وظهرت بداية صحوة من مرحلة السبات العميق التي عاشها العرب على مدى عقد من الزمن. وتحركت الشعوب العربية بقوة تضامناً مع ناس الانتفاضة، واستنكرت، من المحيط الى الخليج، تدنيس شارون ساحة المسجد الاقصى وقتل الشيوخ والنساء والاطفال بدم بارد، واستعادت القضية الفلسطينية عمقها العربي. واظن ان حركتها القوية كانت ايضاً بمثابة رسالة احتجاج شعبية شديدة اللهجة على استمرار التمزق العربي، ودعوة الى احياء التضامن واغلاق كل الطرق امام استفراد اسرائيل والاستعمار القديم والجديد بالشعب الفلسطيني وبأي من الدول العربية. واكدت التظاهرات العارمة التي اجتاحت شوارع كل العواصم العربية في بداية الانتفاضة، وانعقاد القمة العربية مرتين خلال سنة... الخ للشعب الفلسطيني وقيادته، في الوطن والشتات، ان قضيتهما لا تزال حية في ذهن الشعوب العربية وحكوماتها. ولمس الفلسطينيون انها لم تفقد موقعها المميز الذي احتلته في الفكر السياسي العربي منذ العام 1948 حتى 1990، وظلت قضية العرب المركزية كما كانت دائماً. وانتعش دعاة تنسيق الموقف الفلسطيني مع الدول العربية. ولام بعضهم نفسه على شعار "يا وحدنا"، الذي رفعوه ابان حصار اسرائيل مدينة بيروت عام 1982 وكرروه في بداية الانتفاضة. واستمد الناس في الضفة وقطاع غزة من الموقف العربي الشعبي والرسمي، قوة وعزيمة جديدتين، وصعّدوا مواجهتهم ضد الاحتلال، ورفعوا شعارات اكدت وحدة النضال والمصير العربي المشترك، وهتفوا في الشوارع، "من مراكش للبحرين شعب واحد لا شعبين" و "من غزةورام الله الى بيروت شعب واحد لا يموت". وتراجع انصار الثنائية الفلسطينية - الاسرائيلية واصيبوا بنكسة قوية، وبدّل بعضهم جلده واختفى من الاخبار التي تبثها وكالات الانباء وشبكات التلفاز العربية والعالمية. ومع اشتداد الازمة وتصعيد اسرائيل اجراءاتها العنصرية ضد الفلسطينيين سلطة وشعباً، وصمت الادارة الاميركية على هذه الاجراءات، عاد النقاش اخيراً حول دور العمق العربي في اسناد الموقف الفلسطيني، يتصدر الندوات الكثيرة التي تعقدها مراكز البحوث والدراسات في الضفة والقطاع. ويتساءل الفلسطينيون في جلسات السمر الطويلة التي يفرضها الحصار على الناس في كل القرى والمدن والمخيمات عن اسباب تراجع التحرك العربي لنصرتهم في مواجهة عدو لا يرحم مريضاً او ضريراً او تلميذاً، ولا يميز بين شيخ او طفل او امرأة. ويركز الباحثون على سبل تفعيل الموقف العربي الرسمي والشعبي في اسناد الفلسطينيين في هذه الفترة العصيبة من محنتهم الجديدة القديمة. واذا كانت قوى حركة التحرر الوطني العربية، من المحيط الى الخليج، وضمنها القوى الوطنية والاسلامية الفلسطينية، لم تتعود مراجعة مواقفها والاعتراف بأخطائها، فالمصلحة القومية المشتركة تفرض على الجميع اعادة النظر في المواقف التي ثبت خطأها، والشروع في رسم توجهات سياسية تتلاءم والمرحلة الجديدة التي عبرها المشروع الصهيوني في المنطقة، وعبرتها العلاقات الدولية بعد احداث 11 ايلول. وأظن ان استمرار التمترس عند حساسيات المرحلة السابقة وتبرير الاخطاء الصارخة يندرجان تحت بند "فهلوة مرحلة التراجع والانحطاط" التي عاشها النظام السياسي العربي. وبصرف النظر عن النيات فإن استمرار صورة النظام السياسي العربي في مظهر الرجل المريض العاجز عن الفعل، يساهم في تشجيع اسرائيل والقوى الاقليمية والدولية على رفع درجة استهتارها بالعرب، ويسهّل على شارون المضي قدماً في مخططه الرامي الى استسلام الفلسطينيين وتركيعهم. ولا جدل في ان انتصار شارون على الفلسطينيين يفتح شهيته لاخضاع العرب لارادته. وناس الانتفاضة بمختلف اتجاهاتهم، من اصغر بالغ حتى الشيخ احمد ياسين زعيم "حماس"، يعتبرون حصار شارون مقر عرفات في رام الله حصاراً للحكومات والزعماء وقادة الاحزاب والنقابات والاتحادات الشعبية العربية، ولكرامة العرب في كل عواصمهم. ونجاحه في كسر شوكة الفلسطينيين وقهرهم وتدمير مشروعهم الوطني لن ينقذ الكرامة العربية، بل سيمرغها في وحول نكبة جديدة اكبر من نكسة حزيران يونيو 1967، ولا يخرج حركة التحرر العربية من دائرة الصراع مع اسرائيل، بل يغرقها في معالجة ذيول هذه الهزيمة لسنوات طويلة. واذا كانت صرخات نساء غزة والضفة من على شاشات التلفزيون تحرق اعصاب الوطنيين العرب، فهي في الوقت ذاته تقطّع اوصال الروابط القومية. والفلسطينيون، شعباً وسلطة، يعتقدون ان بإمكان الحكومات والاحزاب والنقابات العمالية والاتحادات الشعبية العربية والكتاب والمثقفين مساندتهم في صورة اكثر فاعلية، وتعزيز صمودهم في هذه الجولة الحاسمة من الحرب الظالمة المفروضة عليهم. وهم مقتنعون بأن الوضع اكثر خطورة مما يعتقد بعضهم، والمطروح ليس مصير زعامة عرفات للشعب الفلسطيني، بل مستقبل الجيل الحالي من الفلسطينيين ومستقبل النظام السياسي العربي برمته. وهم لا يطلبون المستحيل، ومعركة بهذا الحجم تستحق عقد قمة عربية مصغرة فوراً وعدم انتظار القمة العادية المقررة في آذار مارس في بيروت. وتستحق تشكيل وفد من الملوك والرؤساء يتوجه الى رام الله ومنها الى واشنطن وباريس ولندن... ويؤكد للرئيس الاميركي وللزعامة الاوروبية رفض منح شارون حق تعيين قيادة الشعب الفلسطيني وتقرير مصير المنطقة. * عضو المجلس الوطني الفلسطيني.