ربما لم يحنْ الوقت بعد للبحث في العوامل النفسية المحرّكة للأفعال وردود الأفعال في العراق الآن، بَيدَ أن التحالفات التي تنفرز بين العراقيين منذ سقوط نظام صدام حسين، لا تخلو من هواجس تاريخية غير معلنة، لكنها موجودة وكامنة، تعمل على بلوّرة المواقف كلما ازداد غموض مصير العراق. إعلامياً، تردّد الفئات العراقية الضالعة في الأحداث حرصها على مصير العراق ووحدته. لكن عملياً يبدو كأن الجميع مُقدم على الانتحار، هم وعراقهم! ذلك إن التحالفات تأخذ شكلاً طائفياً وعرقياً، وتفلت الردود عن الضوابط المألوفة في كل حوار"وطني"يناقش وحدة الكيان العام أو مصيره، وبذلك يساهم القلقون من غموض المصير في زيادته تشوّشاً! وتمعن أعمال القتل اليومية، التي تحمل هوية الأصوليين وأسلوب"القاعدة"في حمل الفئات العراقية على شقّ خنادق الخوف وعدم الثقة، كل طرف إزاء الطرف الأخر، مما جعل الكلام عن الوحدة الوطنية بمثابة مصيدة تريد كل فئة من خلالها ابتلاع الفئة الثانية وحقوقها ورؤيتها للمستقبل، وتشير طبيعة التحالفات التي قامت إلى أنّ العراق أشبه بمجموعة شعوب، فقدت صوابها وهي تواجه محنة مشتركة، ينظر كل شعب إليها بعصبية تاريخية مميزة، وبوجهة نظر عدائية، تبعدانه عن الجماعات الباقية. فالشيعة الذين توحّدوا في قائمة لخوض الانتخابات، يتلقى عدد من أحزابهم الدعم من إيران التي تموّل المقاومة السنيّة الساعية لمنع الانتخابات تجنباً لتثبيت حقائق جديدة تحرمهم من سيطرة على الحكم عزّزها صدام حسين طوال الثلاثين عاماً الماضية. والسنّة الذين عرفوا بمواقفهم القومية من القضايا العربية جعلوا سورية، بعلم نظامها أو عدمه، قاعدة لأعمال المقاومة ضد قوات الاحتلال، فيما تنسّق دمشق، التي يرفع نظامها شعارات قومية براقة، مع طهران علناً للتأثير في مجرى الصراع العراقي، والذي يتّخذ سمة طائفية، قد يؤدي إلى تحقيق أهداف إيران الخاصة بإقامة كيان شيعي في القسم الجنوبي تفرض عليه حماية من نوع ما باسم المذهب، أو الجوار. والسنّة، أيضاً، الذين أقاموا حكومات علمانية، ونجحوا في إدارة شؤون الدولة على هذا الأساس، سلّموا رايتهم في مقاومة الاحتلال إلى جماعات أصولية القاعدة تلعب بعقولها طموحات خيالية مثل إقامة دولة دينية ملتحية نموذجها الأمثل حكومة"طالبان"الفاشلة. في الشمال، إذ رتّب الأكراد حياتهم ضمن إدارة ذاتية، تقلقهم الآن فكرة منطقة فيديرالية للجنوب، مبكّرة، وذات طابع طائفي، يسعى إليها أحمد الجلبي، وهو شخص غارق في الديون، دائماً يبحث عن مهمة، أو منصب، يسمحان له بالاقتراض لتسديد قروض أقدم تتراكم عليها الفوائد في البنوك الغربية! ومثلما يحدث في كل حالات الاهتياج العام، تلزم الصمت غالبية كبيرة من العراقيين، تنتمي إلى الفئات المتحاربة نفسها، لكنهم يفضلّون التنازل عن وزنهم الاجتماعي على الانخراط في صراع عسكري وسياسي ينحدر إلى مستويات خطيرة من المغامرة والضياع. فما يُنسب إلى المثلث السنّي من تمثيل لموقف الطائفة ليس صحيحاً، لأن سكان هذه المنطقة التي تجمع بين الرمادي والفلوجة وتكريت وما بينها من قرى ومدن لا يكاد يبلغ ثلاثة أرباع المليون نسمة، فيما يوجد في منطقة الاعظمية وحدها في بغداد ما يقارب مليون سنّي، جميعهم ذوو نزعة قومية ولهم مساهمات كبيرة في إدارة الدولة منذ تأسيسها، وعرفوا بتحضّرهم، قياساً إلى سكان الرمادي والفلوجة، الذين احتفظوا بتقاليد بدوية ونزعة طائفية مما جعل متطرّفاً مثل الزرقاوي يجد بينهم الكثيرين ممن يستجيبون لمنهجه في وضع المتفجرات في الأسواق، وأمام المدارس، أو على أبواب الجوامع، وأبشع من ذلك قطع الرقاب أمام كاميرات الفيديو. اعتماداً على هذه الحقائق، لا يكاد سكان المثلث السنّي يمثلون خمسة في المئة من سنّة العراق، وفي الأسبوع الثاني من هذا الشهر تقدّمت أحزاب سنّية، بعضها له دور تاريخي في المعترك السياسي، بقوائم منفردة أو مؤتلفة للاشتراك في الانتخابات التي قاطعتها"هيئة علماء المسلمين"وهي تضمّ رجال دين سنّة اجتمعوا بعد نشوب القتال في الفلوجة، وحصروا مهمتم بالدفاع عن موقف سكان مثلث الرمادي - الفلوجة - تكريت من الاحتلال. وبين الشيعة أيضاً فئات علمانية متنورة لا تحترم النزعة الطائفية، التي وسمتها إيران بالتخلّف، وترفض تدخّل الجوار في شؤون العراق لأنها تدرك خطر التأثيرات الخارجية على الكيان السياسي للعراق. إضافة إلى ذلك، يوجد مسيحيون، وذوو ديانات أخرى، وتركمان، وصابئة، ممن لا يجدون في مصلحتهم، ولا أمنهم، الضلوع في نزاعات محتدمة وغامضة. إذن، إضافة إلى الاحتلال، فإن فئتين من سكان العراق يزيدان بسلوكهما الغموض الذي يلفّ مصيره ككيان مستقل، الأولى: تمثلها قلّة من السنّة ممن أغدق عليهم صدام حسين ليشكّلوا عماد نظامه القمعي، ولا يحتملون الآن مسألة فقدان السطوة التي وضعتْ بين أيديهم. والثانية: كثرة من الشيعة الذين يطالبون بحصة عادلة في الحكم توازي عددهم، لكنهم لم يتخلّصوا بعد من التأثير الإيراني عليهم! وقد تكون النسب الآنفة غير دقيقة تماماً، لكن التحالفات القائمة تكشف طبيعة الخلاف الحاصل بين العراقيين في الوقت الراهن، وتمثل الدمامل النفسية التي كانت تنتظر انهيار النظام السابق لتخترق سطحاً رقيقاً ظلّت تختفي تحته. كاتب عراقي.