لا احد يعتقد بأن محمود عباس قادر، لمجرد انه أقسم اليمين الدستورية لتولي رئاسة السلطة الفلسطينية رسمياً، على ان يحقق هدف اقامة الدولة فوراً. كما ان احداً لا يتوقع ان يسهل ارييل شارون مهمة اقامة الدولة الفلسطينية. لقد اعلن"ابو مازن"، في خطاب القسم، ان تحقيق برنامجه لن يتم بمعجزة، وإنما بعمل تراكمي طويل عبر المفاوضات. كما ان الاستراتيجية الشارونية مبنية على"الحلول الانتقالية والجزئية الطويلة المدى"بحسب تعبير عباس، والانفرادية بما يؤجل الى زمن غير محدد امكان البحث في الدولة. وبين هذين الحدّين، ثمة مواقف وافعال - سماها"ابو مازن"احداثاً تقدم عليها اسرائيل وردود الفعل الفلسطينية عليها - تعقّد الى حد كبير الفعل التراكمي، وتبرر الى حد كبير لشارون ايضاً التمسك بالحلول الجزئية وعدم الرضوخ لظروف مفاوضات الوضع النهائي. يدرك الرئيس الفلسطيني الجديد حجم التغيير الحاصل في العالم والمنطقة. ولذلك يشدد على ان الاهداف الفلسطينية تبقى ممكنة التحقيق في ظل التوافق مع الاتجاه العام الى التفاوض وفي الوقت نفسه توفير الظروف الذاتية التي يمكن ان تنجح هذه المفاوضات. وقد حصل بالفعل على ما مكنه من اطلاق برنامجه ووعوده، سواء بالدعم من الجوار عبر جولته العربية، او بالتأييد الفلسطيني عبر الانتخاب. وكما لاحظ في خطاب القسم، فقد اقترع الفلسطينيون لخطته في التعامل مع الاحتلال وايضاً لخطته في معالجة الوضع الداخلي. واي توجه اسرائيلي او الردود عليه، بما يؤزم الوضع الميداني، يكون بمثابة تعقيد مقصود لتنفيذ الخطتين. وتؤكد التجربة المرة، خلال قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات، انه كان بالامكان الامتناع عن بعض ردود الافعال من اجل انهاء العزلة المفروضة على القيادة ليس من اسرائيل التي لم تكن متضررة من تحييد اي دور فلسطيني وحسب، وانما ايضا من دول العالم، ومنها كثير من المدافعين عن الحقوق الوطنية للفلسطينيين. وعملياً، لم تؤد عملية المنطار، وبتوقيتها عشية تسلم"ابو مازن"الرئاسة رسمياً، إلا الى ما أقره شارون من وقف الاتصالات مع الفلسطينيين على كل المستويات واحكام الحصار على قطاع غزة وتنفيذ عمليات الاغتيال التي رافقته. قد لا تكون حكومة شارون بحاجة الى اي تبريرات للاستمرار في سياستها الوحشية، لكنها لن تكون قادرة على هذه الممارسة، وهي طليقة اليدين ومتحررة من اي اعتبار، عندما يكون الفلسطينيون جميعاً في موقع المدافعين عن"الخيار الاستراتيجي في السلام العادل والشامل". لقد وجه شارون الى"ابو مازن"ضربة قوية في الوقت الذي كان مجرد انتخابه، وعلى النحو الديموقراطي المشهود له، رصيداً محلياً ودولياً يساعده على الوقوف على ارض اكثر صلابة في مطالبته ببدء مفاوضات الوضع النهائي، عبر اعادة الاعتبار الى"خريطة الطريق"، وما تفرضه من التزامات على الاسرائيليين والفلسطينيين وايضاً على الاطراف الراعية لها. وبصراحة اكثر، نجح منفذو هجوم المنطار، بغض النظر عن اسماء الفصائل التي تبنت العملية، في تسهيل مهمة شارون، ونجحوا في خطف الانتصار الاخلاقي الكبير الذي مثلته الانتخابات بالنسبة الى الفلسطينيين، ونجحوا ايضاً في دفع الرئيس الفلسطيني أكثر فأكثر الى العزلة التي تتمناها له القيادة الشارونية.