لا تدري بالضبط كيف أتتها تلك الفكرة حين راحت تنظر إليه جامدة فوق الرصيف المظلم، على بعد خطوات قليلة منه حيث كان يجلس على باب دكانه منزوياً فوق مقعده، ملصقاً وجهه بالجدار وضوء يتسلل إليه من الداخل واهناً. كان ينظر إلى البحر. قالت بنظرات زائفة لمحت خلالها عينيه الذاهلتين: - حلمت بابنك. حدّق إليها طويلاً ولم ينطق بكلمة، كانت شفته السفلى ترتعش خفيفاً، فقفز الى رأسها ولده، ذلك الشاب الجميل الذي غرق ذات صباح باكر منذ ايام قليلة. - أسكن هنا - ... - بجوار الدكان - ... كنت أراه حاول أن يبدو يقظاً فراح يفتش في جيوبه عن شيء ما، صدره يصفر من أثر دخان متراكم. قالت وهي تشير إلى داخل الدكان: - في آخر مرة كان يقطع الجبن الرومي. وكادت أن تتراجع حين جفلت من غرابتها وحلمها المزعوم الذي تملكها فجأة. اختلست نظرة الى شرود عينيه ثم قالت بسرعة أدهشتها: - جاءني في المنام، قال إن أخبرك إنه سعيد، هناك، نعم ويحبك، سعيد جداً. راحت تنظم أنفاسها وهي تنظر ناحية البحر وسمعته يردد خافتاً: - سعيد!! أخذ ينظر في عينيها طويلاً ثم الى الشاطئ حيث طيور بيضاء تتجمع فوق الصخور في الظلام. - حلمتِ بابني؟! - نعم ... كان يمشي هناك ويضع مقدمة الكاب خلف رأسه و... لمس بيده اسفل رأسه وهمس: - كان سعيداً؟ - أجل. جلس فوق مقعده حائراً ثم قام من جديد والتفت بجسده ناحية البحر وهو يشيح بيديه ويردد خافتاً بضع كلمات: - هو بخير... كان يضع الكاب كما اعتاد. التفت اليها، رأسه يميل قليلاً صوب الأرض، قلبها يدق سريعاً وسط كلمات متناثرة عن الحلم. ابتعد خطوات قليلة واختفى في بقعة مظلمة فوق الرصيف. ضمنت انه ربما يريد ان يخلو بنفسه، فالتقطت انفاسها وهي تلمح داخل الدكان الكاب معلقاً فوق مسمار في الحائط بجوار مصباح صغير طُلي بالبرتقالي الباهت الذي حجب لون الكاب الأصلي الأقرب الى الرمادي، هكذا خُيل إليها انها رأته بكاب رمادي. التفت لتراه يخرج من ظلال الرصيف الى ضوء باهت وهو يحمل يديه كمن يتحدث الى آخر، اضواء السيارات تعبر وجهه سريعاً. حين اقترب منها رأت عينه دامية فراحت تنظر عند حذائه وهي تسمع صفير أنفاسه. قال هامساً: ربنا يكرمك. خُيل إليها أن ابتسامة عبرت وجهه. في اليوم التالي رأته كما اعتاد أن يجلس بعد موت ابنه ملصقاً وجهه بالجدار، ينظر الى البحر ورفيق يجلس بجواره، حين عبرت امامه أوقفها وهو يشد على يدها مصافحاً وهامساً لرفيقه بشيء ما. كلما مرت يفسحون لها الطريق وكان يرتدي الكاب ويقف على طرف الرصيف يراقبها حتى تبتعد. كاتبة مصرية