في الليل.. يلمح ظلها يتحرك بوهن بين الممرات الملتوية، ينصت الى صمت لم يعد كئيباً، ومطر هادئ في الخارج. وهناك فوق الاريكة الخشبية.. ينتظر، يراها في آخر الممر، خافضة رأسها، جسدها النحيل يتعثر في خطوات مضطربة، تختفي امام العنابر المظلمة ثم تظهر من جديد.. هائمة في بقع من الضوء المنفلتة من عنابر اخرى مازالت ساهرة يراقبها، وتلفه رعشة، يناضل دائما في إخمادها، يراها تقترب فينظر امامه ناحية الفناء، ووجهها المرهق يتسلل الى عينيه، وشعور بالدفء والحزن يهيم حولهما، ترمقه بنظرة مرتبكة، وهي تجلس بجواره. ينصت الآن الى انفاسها اللاهثة تلك التي لم يستطع صوت المطر ان يبددها.. يغرق فيها حتى تهدأ - مطره كمان النهارده. قالتها وراحت تنظر معه ناحية الفناء، ثم اخرجت من تحت ذراعها لفافة وفتحتها. - شوف!! - ليا؟! - ايوه الدنيا بردت الايام دي. راح يتحسس الكوفية الصوف، وكانت تبدو زرقاء اللون في ضوء زائغ، وأخذت هي تنظر الى الخارج ممتلئة بالخجل والوهن - لفها على رقبتك. - خليها في ايدي شويه. تاهت عيونهما في الظلام الممتد في الخارج، تحت المطر، وفكرت على الرغم منها في اطفالها، خمنت انهم الآن متكورون تحت الاغطية وابنتها الكبرى تحكي لهم الحكايات وتحذرهم من البرد وهناك في غرفة خاصة.. يتمدد زوجها فوق الفراش مستغرقاً في النوم كعادته.. فكرت انه يبدو دائماً لها كما الغريب.. ولكنها لم تدرك ذلك الا الآن.. وهي المريضة التي تتنفس بالكاد. على حافة الهاوية!! في تلك اللحظة كان الرجل الجالس بجوارها، يلمح في ضوء عابر كفيها وذلك التورم الخفيف حول مفصليها، ويفكر ان جلدهما مشدود ولامع من اثر الماء الساخن والمنظفات. قال: كل يوم دلوقتي بتمطر. - كل يوم - بعتلك الجرنان النهاردة. - ما جاش!! لف الكوفية حول رقبته بإحكام مستطرداً. دايما عبدالله يلخبط الدنيا..لفي الشال كويس على كتفك. انكمشت تحت شالها الصوف، وشعرت ان جسديهما يتلامسان خفيفاً، وتسلل اليه عطر فاح في الهواء، خمن انه يأتي منها وانه لم يدركه سوى الآن!!. - غيرتي الكولونيا؟. - ما كنتش بحط كولونيا - ..................... - ده.. مطرح الحقن - الثلاث خمسات؟ - ايوه..عمري ما حبتها. شعرت بدقاتها مضطربة، وسمعت صوت طائر بعيد قالت: كل اللي يجيلي.. يجبلي ثلاث خمسات!! - ...................... - بقيت افرقها على العيانين اللي معايا فكرت بانقباض ان هذاالنوع من الكولونيا، يضعونه دائما فوق الموتى، فأخذت تتلفت من حولها في حيرة ورأته ينظر الى الأشجار البعيدة. ولفهما صمت راحت فيه تعد شهورها الطويلة في المستشفى، وعلتها المزمنة وجسديهما اللذين تنضح منهما رائحة المطهرات. قال: عاملك انا كمان هدية. - ايه!. - دلوقتي تشوفي. وسمعت خطوات مهرولة تقترب منها، ورأت ان الذي يقف امامها، هو عبدالله، يحمل اكواب الشاي فوق الصينية، وتشممت تلك الرائحة التي تعشقها، وهي تسلم وجهها للبخار المتصاعد من الكوب، وحين انصرف عبدالله، استطاع ان يرى البهجة فوق ملامحها على رغم بقايا الضوء الشحيح، الآتية من البعيد، متحدة بالظلام. - انا عرفت انهم سمحوا لك بالشاي كل كام يوم. - عبدالله قالك؟. - ايوه - ريحة الشاي حلوة. - حلوة قوي. مالت برهافة تستند اليه بكتفها، واحس بها نحيلة ودافئة، وقال اشياء كثيرة عن ابنه الوحيد، وتخرجه المبكر من الجامعة ثم عمله في الشواطئ البعيدة. - كل ما يجبلي حاجة معاه.. شوفي!! تحسست ذلك الشيء المتكور في يده، وكان قوقعة بحرية.. كبيرة، مازالت تعبق برائحة اليود والملح، أخذت تتأملها في زرقة ضوء سماوي، تسلل من تحت الغيوم. - حطيها على ودنك. حين وضعتها ملتصقة بأذنها اليمنى، سمعت وشيش البحر - سامعة ايه؟. - استني كده!!.. - البحر. - البحر!! حاجة غريبة.. اسمع. وضعتها فوق اذنه المجاورة لأذنها اليمنى. قال: ممكن نسمعها إحنا الاثنين في وقت واحد قربي شويه. اقتربت اكثر، محاولة ان تشاركه جزءاً منها، وجهها يلتصق بوجهه - سامعة؟. في زمن بعيد، رأت نفسها طفلة تجلس عارية فوق الرمال وزبد الموج يتدحرج خلفها، ويلامس جسدها الصغير، امها تراقبها على بعد خطوات منها، وهي تساوم بائع عجوز للودع والاصداف. ازاحت الودعة بعيداً عن اذنها وقالت - انا سمعت الصوت ده قبل كده نظر الى عينيها الواهنتين.. استطردت بمرح - هاسمعها لعواطف. فكر ان ابتسامتها عذبة على رغم علتها الجسدية.. قال يسألها عواطف: - لسه تعبانة؟. - قوي. لامست اصابعه الكوفية، وهو يتمنى لو تبتسم من جديد تلك الابتسامة، ورأته ساهما، فعادت تلصق اذنها بالودعة، وهي تقرب رأسها منه، ليشاركها من جديد، وراحا ينصتان بصعوبة، الى ذلك الوشيش الغامض، وهو يسند رأسها بكفه خوفا من اصطدامها بطرف الودعة وتشممت على الرغم منها تلك الرائحة الحادة، تنبعث من فمه، مزيجاً من دواء وعفن، فكرت ان لفمها ايضا نفس الرائحة، ادركت للمرة الاولى، ان صاحب الرائحة لا يشمها، استسلمت للبحر الساكن بين اذنيها، وهي تغمض عينها بثقل، ورأت نفسها من جديد طفلة فوق ذلك الشاطىء البعيد، تجلس فوق الرمال عارية، وهي تحتضن ابنتها الصغرى، وهي عارية ايضاً. ابتسمت وهي تتخيل نفسها مازالت طفلة، تحتضن صغيرتها وقد استسلمت لصدرها والهواء، وكانت امها كما هي هناك.. على بعد خطوات منها جميلة وقوية،. تساوم البائع العجوز. ابتسمت من جديد، وكان هو يسند الودعة الى اذنها مبتعداً عنها.. ويتأملها وثمة شيء بعيد يحاول ازاحته بغموض، يضغط فوق رأسه، يتشبث بعينيها المغلقتين، التين لم يرهما من قبل هكذا، لكن ذلك الصرير المألوف والموحش في آن يطفو في رأسه ويسيطر عليها، فراح ينصت إليه وهو يهرول فوقه، في الطابق الاول، يخمن بثقل صاحب الجسد الممدد الآن فوق الفراش ذي العضلات ثم رآها ساهمة، ممسكة بالودعة في حجرها!. قالت بخفوت: عملوا العملية لبدر؟. - مش عارف. - مفيش حد من اهله معاه. - ............................ - يمكن واحد جديد. - ............................ - بيجروا بالسرير. - ............................ اخذ صرير العجلات يتلاشى، حتى خفت، وراحت تفكر في شيء يؤنسها وهي ترتشف بقايا كوب الشاي. وفكر انه لمح زوجها في احدى المرات، وكان اطول واقوى مما رآه من قبل!! - عمل ايه اسماعيل بالتليفون؟. تعرف انه يحب ان يحكي تلك القصة من جديد، وانه لا يملها ابدا قال كأنه ينطق الاسم للمرة الاولى: اسماعيل!! - مين اللي اتصل الاول؟. - اخذ نفساً عميقاً، مستمتعا بالهواء الممزوج برائحة المطر ثم استرسل: بعد الدكتور ما نسي الموبايل بتاعه التليفون اياه ده.. راح العيانين كلهم يخلوا اسماعيل يتصل بأهاليهم.. واحد.. ورا.. الثاني. - هو الللي كان بيعرف يتصل. - طبعاً. - وبعدين جه دور اسماعيل. - ايوه.. اسماعيل مالوش حد.. مقطوع من شجرة قعد يفكر يتصل بمين.. وبعدين، ما حدش عارف جاب الرقم ده منين. - اخترعه. - ورد اخونا.. وقعد اسماعيل يقول انا اسماعيل.. انت ناسي اسماعيل.. شارب حاجة؟! انا في المستشفى.. الله يخرب بيتك.. وقامت القيامة!! ضحكا تلك الضحكات المتكررة .. الواهنة قال: بعدما شتم العيانين كلهم والراجل اللي مش فاكره والدنيا.. العنبر كله مش عارف يوقف الضحك. انا اسماعيل يا ابن ال........ الناس صحيت والدكاترة. - وعايز يكسر التليفون. ظلا يضحكان، حتى عاد الصمت من جديد.. وسط المطر الهادئ وعبر رجل في الظلام امامها، ممسكاً بيد طفل صغير.. أخذا يتبعانه بنظراتهما، حتى اختفى في نهاية الممر. قالت: الراجل ده بيمشي زي جوزي. - شيفاه في الظلمة!! - لما راح عند النور اللي هناك. - ................... تسترسل في كلمات خافتة، ممزوجة بنعاس، ثم تخبره انها تشم رائحة ابنتها الصغرى، ذات الخمسة أعوام، وسيلمح على رغم الظلام والوهن ابتسامتها الرائعة وهي تقول: ريحتها حلوة. كانت تسير في الممر الطويل بخطواتها المضطربة، من دون ان تلتفت خلفها. وكان عبدالله في تلك اللحظة يقترب منه وهو يحمل صينيته ويقول بمرح. - المطر لسه. - لسه. لملم الكوبين، واختفى بسرعة.. وظل مكانه ينصت الى المطر في الخارج. * كاتبة مصرية.