كيف نحكم على حركة أو حركات الاهتمام بالتراث العربي؟ هل بالاستمرار في تناسخ مخطوطات التراث؟ أم بالاقبال على طباعة النصوص القديمة، أم بالقيام بتحقيقها أو تحريرها؟ إن اعتبرنا الأمر الأول، فإن اليمنيين والموريتانيين ظلوا ينسخون المخطوطات ويستجلبونها وبخاصة مخطوطات القرآن والنحو والفقه الى السبعينات من القرن الماضي. لكن إذا اعتبرنا طباعة النصوص دليلاً على الاهتمام بها، فإن الأوروبيين طبعوا القرآن الكريم في القرن السادس عشر. وكذا الأمر في ما يتعلق بتحرير النصوص أو تحقيقها. فقد نشروا نصوصاً طبية وفلكية عربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. كما نشروا نصوصاً أدبية وتاريخية منذ القرن الثامن عشر. ولا يمكن الحديث عن حركة طباعة عربية قبل القرن الثامن عشر. لكنها ما اهتمت بنشر النصوص المخطوطة إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي ذلك الوقت كان المستشرقون تجاوزوا الطبع والنشر الى ما صار يُعرف بالعناية أو التحرير أو التحقيق. ولكي نعرف معنى الاعتناء أو التحقيق، يكون علينا أن نتأمل مثلاً نشرة سلفستر دي ساسي لنص"كليلة ودمنة"عام 1817م. عمد الرجل الى جمع خمس مخطوطات من الكتاب، وقارن في ما بينها من حيث العمر وقِدَم النسخ، وجودة النص، واتخذ الباريسية من بينها أمّاً، ثم راح يُثبت اختلافات النسخ في حواشي الصفحات، وكتب في النهاية دراسة تقديمية تقنية وصف فيها عمله على النص ومخطوطاته، ووعد بكتابة دراسة منفصلة عن الكتاب، وعن ابن المقفع، وعن القصص على ألسنة الحيوانات في الأدبين العربي والفرنسي. ولست أدري ان كان الرجل وفى بوعده. لكن هذه الطريقة في النشر المحقّق ما كانت من اختراعه أو اختراع ريكرت وفيستنفلد، بل أخذوها جميعاً عن العاملين في نشر التراثين اليوناني والروماني وتحقيقهما ابتداء بالقرن السابع عشر. وناشر المخطوطات العربية محظوظ بما لا يقاس مقارنة بسائر التراث العالمي ربما باستثناء التراث الصيني. فالكثرة الساحقة من المخطوطات العربية الباقية لها أكثر من نسخة، ويمكن في كثير من الأحيان تتبع تاريخ نسخها وتناقلها ونصوص تملكاتها وطرائق التعامل معها منذ ما بعد القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي وحتى القرن التاسع عشر. بيد أن التحقيق يفترض عملاً آخر أكثر صعوبة وتعباً. فلا بد من جمع مخطوطات الكتاب المتوافرة، وحتى أواخر القرن التاسع عشر ما كان الشرقيون عرباً ومسلمين يعرفون غير المكتبات الموقوفة، التي ما كانت تملك فهارس علمية، عرّفهم على صناعتها المستشرقون الأوروبيون أيضاً. ويأخذ كثيرون منا على القناصل والرحالة والتجار والمستشرقين الأوروبيين طرائق جمعهم للمخطوطات العربية من المجموعات الخاصة والأسواق بالمدن العربية منذ مطلع القرن التاسع عشر. لكن تلك المشتريات أو المقتنيات آلت في الأكثر الى مكتبات عامة أوروبية وأميركية، وجرى الاهتمام بترميمها وحفظها وفهرستها وأخيراً تصويرها لئلا تكثر العودة للمخطوط الأصلي الهش. وما اختفى حُبّ المكتبات والكتب من المشرق، بدليل المجموعة الهائلة التي رجع اليها كل من حاجي خليفة في"كشف الظنون"، وآغا بزرك الطهراني في"أعيان الشيعة". وقد بدأ المصريون والأتراك يقتنون الكتب التي يطبعها المستشرقون منذ خمسينات القرن التاسع عشر، وبدأ البولاقيون العاملون بمطبعة الدولة ببولاق الدكرور - محلة على أطراف القاهرة القديمة - ينشرون النصوص دونما تحقيق، لكن مع تدقيق لغوي مثالي. ونعرف أن بعض المصريين بدأوا حضور مؤتمرات المستشرقين في ثمانينات القرن التاسع عشر. ونعرف جيلاً أول من المحققين أشهرهم أحمد زكي باشا وأحمد تيمور وعبدالعزيز الميمني الهندي/ الباكستاني. وحدثت الانطلاقة مع افتتاح المكتبات العمومية أو مجموعات المخطوطات، وظهرت أجيال من جامعي المخطوطات، ومن شبان المحققين الأفذاذ. بيد أن الجيل الثاني من أهل التحقيق = جيل محمود شاكر أنكر أفضال المستشرقين، وقال انه يعبُّ من المعرفة بالتراث العربي. نعرض في ما يأتي بحوثاً قدمت في مؤتمر بجامعة آل البيت، في الأردن، كان اسمه:"مؤتمر تحقيق التراث العربي". ولنا عودة أخرى لهذا الموضوع ذاته، لتتبع سحر التراث، والعمل الثرّ الذي يزدهر في جنباته منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.