عرفتُ أُستاذنا الدكتور صلاح الدين المنجّد في بيروت بعد تخرجي من كلية أُصول بجامعة الأزهر بمصر عام 1970. وأذكر أن زيارتي الأولى له كانت بدار الكتاب الجديد باللعازارية (وانتقلت الدار في ما بعد الى محلة رأس النبع). وقد حملتُ اليه تحيات شيخ الأزهر عبدالحليم محمود، والأستاذ محمود شاكر المحقق الكبير للتراث الأدبي واللغوي العربي. ويعرفه الرجلان الكبيران رحمهما الله، كما يعرفه كبار علماء مصر والعالم العربي وعالم الاستشراق من أمرين اثنين: تحقيقه للأجزاء الأولى من تاريخ دمشق الكبير للحافظ بن عساكر في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، ثم ادارته لمعهد المخطوطات العربية التابع لجامعة الدول العربية لسنوات عدة كانت غنيةً بالعمل والخبرة والتعاون مع العلماء الكبار، وتخريج أجيال من المشتغلين بالتراث العربي المخطوط، جمعاً ونشراً ودراسة، وما زرته مرةً في مكتبته إلاّ قابلتُ عنده كبار الأساتذة في الدراسات العربية والإسلامية من العرب والمستشرقين. وأذكر أن الشيخ حمد الجاسر، العالم العظيم بتراث الجزيرة وجغرافيتها وتاريخها، قال لي، وقد سمعني أُجادلُ الأستاذ المنجِّد، في تاريخ احدى مخطوطات «طبقات الشافعية لابن الصلاح، استناداً الى الفهرس الذي صنعه Ahluardt لمخطوطات مكتبة الدولة ببرلين: أتظن أن الأستاذ المنجد لا يعرف رأي الوارث؟ هو يعرفه، ولديه اضافةً لذلك خبرة المئة عام الأخيرة في مسائل التراث العربي بعده! يتحدر الدكتور المنجّد من أُسرةٍ دمشقيةٍ عريقةٍ في الدين والعلم. وقد تابع دراساتٍ قانونية وعربية بباريس، ثم عمل بمجمع اللغة العربية بدمشق (وكان اسمه وقتها لا يزال: المجمع العلمي العربي) مع الكبار من أمثال محمد كُر د علي ومصطفى الشهابي وعزالدين التنوخي. وكان شديد الاعتزاز بعلاقته بكُرد علي، وبكبار الدارسين الفرنسيين والألمان للتراث العربي. وباستحثاثٍ من كُرد علي بالذات انكبّ على جمع مخطوطات تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر، وبدأ بتحقيق الأجزاء الأولى التي تتضمن أسطورة البناء، وأحاديث الفضائل، وخِطط المدينة العظيمة. وما كان هذا العمل الهائل سهلاً، ولا كان من عادة الأستاذ المنجّد الاستسهال. فقد حضّر آلاف البطاقات، وميَّز وتفحّص عشرات المخطوطات، وأخرج خلال خمس سنواتٍ المجلدات الثلاثة الأُولى. وقد صدر التاريخ كُلُّه بعدة أشكالٍ ومختصراً وتحقيقات في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، لكن نشرة المنجّد للأجزاء الأولى ظلّت النموذج لشباب الدارسين وشيوخهم. وعندما صار مديراً لمعهد المخطوطات الذي أنشأته الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية بمبادرةٍ من طه حسين، دأب على جمع صُورٍ لعشرات آلاف المخطوطات العربية من أقطار الشرق والغرب، وإصدار الفهارس لها، وإرسال الوفود من الموظفين وشُبان باحثين للتدرب والاستكشاف في المجموعات الرسمية والخاصة، كما طوَّر أقساماً بالمعهد لطرائق الحفظ والترميم، وأقام شبكةً للتعاون مع المعاهد والمكتبات المشابهة بالشرق والغرب. وكان من أهم ما أنجزه: إصدار مجلة علمية عن المعهد تُعنى بعلم التراث العربي المخطوط، وتُتابعُ نشرَ نصوص التُراث وتُراجِعُها مراجعاتٍ دقيقة. ثم إنه بدأ بإصدار الفهارس عن المجموعات المخطوطة بالمجلة وخارجها، كما أصدر سلسلةً من كتب التراث العريقة بتحقيق رجالاتٍ كبار. واهتمّ هو شخصياً بإصدار الأجزاء الثلاثة الأولى من كتاب السِيَر الكبير لمحمد بن الحسن الشيباني. وكتب بحكم معرفته بالقانون الدولي - دراساتٍ عن الشيباني والفقه الدولي الإسلامي. وعندما رأيتُ في تسعينات القرن الماضي بالولايات المتحدة الأستاذ مجيد خدّوري، الذي كتب عن الحرب والسلم في الفقه الإسلامي، ذكَّرني بدراسات المنجِّد في هذا المجال، وإسهاماته بالفرنسية في الميدان نفسه. وقلتُ له: لكنك عُدتَ لنشر السِير للشيباني وما ذكرت الرجل! فأجاب: كنتُ أريدُ ترجمة الكتاب للانكليزية فقرأت النص من جديدٍ، لكن قراءتي ما كانت موفقةً كقراءة المنجّد فمعذرة! وما جرى للمنجّد مع سِيَر الشيباني وابن عساكر، جرى له أيضاً مع فتوح البلدان للبلاذري. فقد أعاد تحقيقه على مخطوطاتٍ أخرى بعد نشرة دي غويه في القرن الماضي، وألحق بالنشرة ذات الأجزاء الثلاثة مسرداً مقارناً بالأعلام والأماكن (شأن صنيعه مع ابن عساكر)، فاستفاد من ذلك كثيرون في ما بعد، دون أن يذكروا اعتمادهم على نشرة الأستاذ صلاح الدين! وتابع المنجّد في بيروت والسعودية خلال النزاع الطويل في لبنان، اهتماماته التراثية. فنشر نصوصاً عدةً ونادرة. لكنه أقبل أكثر على الدراسات والأثبات والفهارس، ودائماً في التاريخ وما يُقاربه، وقضايا تحقيق المخطوط العربي، والخطّ العربي، ومسائل الكوديكولوجيا. فقد فهرس للمؤلفات عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكتب معجماً للنساء، وآخر للخطّاطين والنسّاخين. كما نشر نصوصاً ودراساتٍ عن الأُمويين، وأعلام التاريخ والجغرافية العربية، وعن دمشق لدى الرحّالة والجغرافيين المسلمين، وعن المشرق في كتب المغاربة والأندلسيين. كما كتب تاريخاً للديبلوماسية الإسلامية استناداً الى نص لابن الفراء، وكان له رأيٌ دقيق في «رسالة النبي الى هرقل» والتي كان يملكُ الرقّ، الذي كتبت عليه، الثري والسياسي اللبناني الراحل هنري فرعون ثم انه عرض أخيراً انجازات الاستشراق الألماني في كتاب. وفي عامي 2006 و2009 عُدت بالذكرى والإفادة الى نشرات الدكتور المنجّد وتحقيقاته ودراساته في مُناسبتين. الأولى عندما أقام مجمع اللغة العربية ودار الكتب بالقاهرة ندوةً عن «شوامخ المحققين» فسمعتُ محاضرةً جيّدةً عن أعمال المنجّد في مجال نشر التُراث والدراسات حوله. والثانية عندما ألقيتُ محاضرةً بمكتبة الاسكندرية عن الأصول الفكرية لنشر التراث العربي بين المستشرقين والعرب، فرجعتُ الى دراسةٍ للأستاذ الراحل عن بدايات الإفادة العربية من أُصول التحقيق للنصوص، التي طورها المستشرقون. وقد احتكم الراحل في دراسته الى مكتبة والده، والتي ضمّت مئات النصوص الفقهية واللغوية المنشورة من جانب المستشرقين والعرب في الرُبع الأخير من القرن التاسع عشر. وقد قام هو بدراسةٍ مقارنة ودقيقة، استطاع من خلالها أن يحدّد بدايات التأثُّر، واتجاهات ذلك التأثر وحدوده، مُستنتجاً أن الأعمال العربية في مجال نشر التُراث بدأت بإعادة نشر ما نشرهُ المستشرقون من دون الإفادة من طرائقهم. ثم أقبل العربُ على نشر نصوصٍ لم ينشرها المستشرقون. وفي مطالع القرن العشرين بدأ بعضُهم يقلّد المستشرقين في مسائل قراءة النصّ على مخطوطات عدة وذكر فروق النُسَخ وعمل الفهارس، وفي القاهرة وحيدر أباد ودمشقوبيروت واسطنبول. يأتي الدكتور المنجد في طليعة الجيل العربي الثاني من أجيال قراءة النصّ العربي قراءةً علمية من طريق النشر والتحقيق، بعد جيل أحمد زكي باشا ومحمد كُرد علي وعبدالعزيز الميمني ومحمد بن تاويت الطنجي. وهو جيلٌ تحققت في عهده الشراكة العلمية مع المستشرقين لجهتين: التفوق في القراءة والنشر، والنِدّية في كتابة الدراسة حول التُراث، وبالتالي البدء بإعادة كتابة التاريخ العربي، في سياقاتٍ نهضوية. علمتُ يوم 26/1/2010 بوفاة د. جمال عطّار بمرضٍ عُضال، فتذكرتُ أنه كان آخرَ من اصطحبتُ الى الأستاذ المنجّد في أواسط التسعينات من القرن الماضي، لتوجيهه في أطروحته عن الجاحظ وفكره السياسي. وأنا أعملُ الآن على تحقيق جزءٍ من كتاب البلاذُري: أنساب الأشراف، فلا يكاد يمرُّ يومٌ إلا وأعود فيه الى نشرة الأستاذ المنجّد لكتاب البلاذُري الآخر: فتوح البلدان، وقد كان هذا صنيعي في السنتين الماضيتين عندما كنتُ أعملُ على تحقيق المجلد الخامس من تاريخ ابن خلدون (وهو يضمُّ تاريخ الأمويين والعباسيين حتى المتوكّل) في المشروع الكبير الذي يشرف عليه ويقوده العلاّمة الأستاذ ابراهيم شبّوح، بحيث يصدُرُ التاريخ الخلدوني كله في أربعة عشر مجلداً. وقد تبين لي أن ابن خلدون ينقل أحياناً عن فتوح البلدان، وربما عن تنبيه للمسعودي (في شأن الصوائف والشواكي ببلاد الروم)، وليس عن الطبري وابن الأثير وحسب - ولا مصدر لتصحيح أسماء الأماكن وتواريخ الغزوات غير ملاحظات الأستاذ المنجد وتعليقاته وفهارسه على نشرته للفتوح. فرحم الله صلاح الدين المنجّد العالم والأستاذ ورجل الخلق والمروءة.