بصدور قرار مجلس الأمن الرقم 1559. والذي يتعامل مع لبنان وكأنها بلد محتل تديره ميليشيات عسكرية. ويطالب من ثم"بانسحاب جميع القوات الأجنبية منه وحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية فيه"يكون هذا البلد الصغير. لكن المحوري في الصراع الدائر على الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة تضع نهاية لجولة صراع كانت حسمت موقتاً لمصلحة سورية في بداية التسعينات. ومن المعروف أن الصراع على النفوذ في لبنان كان ظل محتدما طوال فترة الحرب الأهلية بين خمسة أطراف هي: سورية وإسرائيل والولاياتالمتحدةوفرنسا من ناحية. وفصائل الشعب اللبناني والتي راهن كل منها على طرف أو أكثر من الأطراف الدولية والإقليمية المتصارعة من ناحية أخرى. واستمر الحال على هذا المنوال لى أن تمكنت سورية من حسمه لمصلحتها مستغلة وبمهارة شديدة عوامل دولية وإقليمية كان أهمها وآخرها الاحتلال العراقي للكويت، فقد أدت حاجة القطب الأميركي الساعي للهيمنة على العالم لدور سوري كان مطلوبا لإحكام عملية تشكيل تحالف دولي يصلح غطاء سياسياً مناسباً للحرب الأميركية الأولى على العراق إلى توفير الشروط الموضوعية لصفقة بدت متطافئة من وجهة نظر الطرفين. فقد قبلت سورية حينئذ أن تشارك في التحالف الدولي مقابل انفرادها بالنفوذ في لبنان، وحين وافقت الولاياتالمتحدة على الصفقة لم يكن أمام الأطراف الدولية والإقليمية الأخرى المتنافسة سوى الإذعان والانسحاب من الساحة ولو موقتاً. غير أنه كان من الطبيعي أن تنتهي هذه المرحلة من الصراع على النفوذ في لبنان عملياً في نفس اللحظة التي قررت فيها الولاياتالمتحدة احتلال العراق. فلم تكن هناك حاجة أميركية لدور سوري في حرب ثانية أصرت على شنها منفردة هذه المرة. ولم يكن بوسع النظام السوري أن يشكل غطاء سياسيا لاحتلال أميركي دائم للعراق، لأنه يصبح حينئذ فاقد لشرعية وجوده ودوره من المنظور الشعبي العربي. وفي تقديري أن الولاياتالمتحدة كانت اتخذت، وفور احتلال بغداد، قرارا بالتخلص من النظام السوري، ربما ضمن نظم أخرى في المنطقة. لم يكن ينتظر سوى طريقة الإخراج والاستقرار على ختيار الوسيلة والتوقيت المناسبين. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تبدو الآن وكأنها اضطرت لتأجيل أو حتى لتبديل الخيار العسكري بسبب انغماسها في الوحل العراقي. إلا أنها لم ولن تتخلى قط عن هدفها في إسقاط النظام السوري باستخدام كل وسائل الضغط المتاحة. ولم يكن قرار الموافقة على قانون معاقبة سورية سوى خطوة صغيرة على الطريق تسبق وتمهد لقرار بدء تحريك وتأليب الساحة اللبناية ضد سورية. والذي يبدو أنه اتخذ منذ أشهر عدة وكان ينتظر بدوره اللحظة الملائمة لإطلاقه استعدادا للخطوة الحاسمة والمتمثل في شن الضربة القاضية. ولأن الطرفين الفرنسي والإسرائيلي كانا على دراية تامة بالقرار الأميركي باستخدام الساحة اللبنانية أداة للضعط على سورية. فقد اعتبراه بمثابة تدشين رسمي لبدء جولة جديدة من صراع النفوذ على لبنان. ولم يكونا في حاجة بالطبع لدعوة مكتوبة للمشاركة!. غير أن الجديد في الأمر أن فرنسا قررت أن تدخل هذه الجولة على جناح أميركي وكشريك رسمي ومعلن وصريح للولايات المتحدة. وتقدمت الدولتان بمشروع مشترك لمجلس الأمن. وهو أمر نادر وبالغ الغرابة. أما إسرائيل فقد انتظرت صدور قرار مجلس الأمن أولا قبل أن تقرر منفردة توجيه تهديد عسكري مباشر لسورية وكأنها تريد أن ترسل إشارة إلى كل الأطراف تذكرهم بأنها ما تزال طرف رئيسي ومستقل في معادلة الصراع على لبنان ليس بوسع أحد ايا كان تجاهله!. وإذا كان صدور القرار 1559 يعد هزيمة سياسية لسورية، فإن لبنان والتي أصبحت الآن في مهب الريح. هي المرشحة لدفع أبهظ الأثمان. وفي جميع الأحوال فإن هذا القرار يصب بوضوح في انجاه تحقيق مصالح مؤكدة للطرفين الأميركي والإسرائيلي وبلحق في الوقت نفسه أضراراً مؤكدة بمصالح الطرفين السوري واللبناني. أما فرنسا فتبدو الأن وكأنها تمارس مقامرة غريبة أملاً في أن تكسب كل شيء، وهو أمر يتطلب في الوقت نفسه أن تكون مستعدة لكي تخسر كل شيء! ربما يبدو القرار 1559 منظورا إليه بعيون سورية ضعيفاً وبلا"لون أو طعم أو رائحة"وفقا للتعبير المستخدم في بعض التعليقات الرسمية، وقد يكون ذلك صحيحاً من الناحية القانونية البحتة. فالقرار صدر بالغالبية المطلوبة بالكاد وامتنع عن التصويت عليه ستة أعضاء من بينهم عضوان دائمان هما روسيا والصين. وهو قرار لا يوجه إدانة صريحة لسورية أو حتى يشير إليها بالاسم خصوصاً في فقراته العاملة. وصدر في إطار الفصل السادس وليس السابع من الميثاق. ولذلك لم يأت مصحوبا بآليات تنفيذ أو بمهلة زمنية تفرض بعدها عقوبات. يضاف إلى ذلك أن القرار برمته مشكوك في دستوريته لأنه يشكل خرقاً واضحاً وفاضحاً للفقرة السابعة من المادة الثانية من الميثاق والتي تحرم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء إلا في إطار الفصل السابع من الميثاق. غير أن القرار يرتب بمجرد صدوره. الصحيح إجرائياً بصرف النظر عن مدى الشكوك التي تحيط بدستوريته موضوعيا نتائج سياسية بالغة الإهمية ستثير تفاعلات خطيرة في المنطقة يصعب على الحكومتين السورية واللبنانية السيطرة عليها، وربما تكون هذه التفاعلات مجرد التمهيد الذي يسبق العاصفة والذي يهدد بانفجار جديد كبير يبدو أن إسرائيل تسعى إليه وتخطط له وتعتقد الولاياتالمتحدة خطأ كعادتها أن بمقدورها أن تتحكم فيه وأن توجهه لخدمة أهدافها الاستراتيجية في المقام الأول. فالولاياتالمتحدة تدرك أكثر من غيرها أن الشروط المطروحة على سورية تعجيزية ويستحيل عليها تنفيذها. ذلك أن انسحاب سورية كلياً من لبنان. وتفكيك بنية المقاومة المسلحة التي يقودها حزب الله وما يسمى بالوجود الفلسطيني المسلح في لبنان وطرد مكاتب المنظمات الفلسطينية الرافضة للتسوية بالشروط الإسرائيلية لا يعني في نهاية المطاف سوى شيء واحد وهو تسليم لبنان بالكامل للنفوذ الإسرائيلي - الأميركي المشترك وتعريض أمن النظام والدولة والمجتمع في سورية لتهديد المباشر، ولأنها تعرف أن النظام السوري ليس من البلاهة إلى الدرجة التى تجعله يمسك بنفسه بحبل المشنقة المراد لفه حول عنقه، فمن الواضح أن الولاياتالمتحدة لم تكن تهدف من وراء السعي إلى إصدار قرار من مجلس الأمن سوى عزل النظام السوري دولياً، وإظهار الحكومة اللبنانية بمظهر السلطة غير الشرعية المغلوبة على أمرها والمفروضة من الخارج، وإحداث شرخ عميق في الحياة السياسية اللبنانية يمكن استخدامه عند الضرورة لتفجير فتيل حرب أهلية جديدة في لبنان. وللأسف ارتكبت الديبلوماسية السورية بإصرارها على تعديل الدستور والتمديد لإميل لحود خطأ قاتلاً مكّن الولاياتالمتحدة من تحقيق الجزء الأكبر من أهدافها في تلك المرحلة. لقد كنت ولا أزال واحداً من المتفهمين لدوافع الأمن السوري الذي يبدو متطابقا تطابقا كبيرا في هذه المرحلة على الإقل مع متطلبات الأمن القومي العربي ومن المؤيدين للكثير من مواقف سياستها الخارجية المدفوعة بهذا الهاجس. غير أنني لا أستطيع أن أفهم وفي حدود ما هو متاح لي من معلومات كيف أصبح الأمن القومي السوري رهنا بإرادة فرد واحد في لبنان ومتوقفاً على استمرار رجل بعينه في موقع رئاسة الدولة حتى لو اقتضى الأمر تجاوز كل الخطوط الحمراء والدخول في المنطقة المحرمة والخطرة. ومن المؤكد أن هذا الخطأ السوري القاتل سيتيح لكل المعادين لسورية وللمقاومة، بل للعروبة وللإسلام فرصة سانحة للتأكيد على أن القضية الحقيقية في المنطقة لا تكمن في الاحتلال الأميركي والإسرائيلي لأجزاء من أراضيها، وإنما في استبداد أنظمتها وعدائهم الغريزي والفطري للديموقراطية. وربما يكون بوسع الحكومة الفرنسية أن تبرر موقفها بعدم تجاوب الحكومة السورية مع نصائحها المتكررة. وأن تدعي أن مشاركتها في صوغ مشروع القرار الذي عرض على مجلس الأمن ساعد على التخفيف من حدته ونزع المخالب والأنياب التي كانت الولاياتالمتحدة تريد أن تسلحه بها. فقد يكون ذلك كله صحيحا. غير أنه يتعين على فرنسا أن تدرك في الوقت نفسه أنه من دون تأييدها ودعمها ما كان يمكن لهذا القرار أن يمر أو يعرض مشروعه اصلاً على مجلس الأمن، وأنها قدمت لسياستين الإسرائيلية والأميركية في المنطقة خدمة جليلة ومجانية تعرض كل رصيدها الإيجابي السابق للخطر وتهدده بالتبديد. وهي خدمة تبدو مجانية لسبب بسيط وهو أن قدرة السياسة الفرنسية على توجيه مسار الأحداث المقبلة أو السيطرة عليها قد تكون محدودة، وربما معدومة، فقد حصلت الولاياتالمتحدة وإسرائيل على ما يريدان وسيمضيان في مخططاتهما قدما بالتنسيق مغ فرنسا إن خضعت لشروطهما بالكامل أو من دونها. وعلى اي حال فإنني لست من أنصار البكاء على اللبن المسكوب. وأفضل أن أوجه بصري وأمعن فكري في ما هو قادم لتدارك وقوع الأسوأ، والذي يبدو وكأنه قدر محتوم كتب علينا جميعا ولا فكاك منه. ولذلك أرى أنه بات من الضروري أن تتجمع أولا كل القوى الوطنية اللبنانية الحريصة على مستقبل لبنان والأمة العربية. سواء تلك التي أيدت ترشيح لحود أو عارضته، وأن تتفق على مخرج لبناني بحت، وفي استقلال كامل عن سورية للأزمة الراهنة، وأنا على ثقة أن قرارها لا بد وأن يأخذ في اعتباره مصالح سورية الاستراتيجية والأمنية، والتي لا يمكن أن تنفصل عن المصالح الوطنية الحقيقية للشعب اللبنائي. وفي رأيي أنه يتعين على سورية أن تتجاوب مع هذا القرار حتى ولو كان العدول عن تعديل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية في إطار توافق على شخصية مارونية قادرة على تحقيق المصالحة الوطنية وعدم المساس في الوقت نفسه بوضع المقاومة قبل تحقيق تسوية شاملة وعادلة للصراع العربي - الإسرائيلي. وفي تقديري ايضاً أن لحظة الأزمة الراهنة ربما تتيح رغم قساوتها فرصة نادرة أمام النظام السوري لكي يثبت أنه ينتهج منهجا مغايراً ومختلفاً عن منهج الأنظمة العربية الأخرى والمتمثل في منهج:"أنا ومن بعدي الطوفان"، وربما تكون وسيلته الوحيدة في ذلك هو الإقدام الجسور على إجراء إصلاح سياسي حقيقي وشامل ومخطط يستهدف تقوية حصون الدفاع الاجتماعي والاقتصادي، وليس نشر الفوضى والثرثرة السياسية وحماية الدولة والمجتمع حتى ولو كان الثمن الذي يتعين دفعه في نهاية الطريق وعند الوصول إلى المحطة المستهدفة، هو تغيير النظام نفسه. فمن الأشرف والأكرم لأي نظام يدعي الوطنية أن يسلم الراية بمحض إرادته لنظام تختاره الجماهير بنفسها من أن يسلمها رغم أنفه لنظام عميل تأتي به الدبابات الأميركية والإسرائيلية أو لمجهول تفرزه فوضى الغضب الشامل. * كاتب وأكاديمي مصري.