لم تعد الشعوب العربية تصدق "فزاعة" الحروب الخارجية لكي تسكت عن الأخطاء الداخلية، وتعض على الجرح. ولم تعد الأخطار الخارجية تبرر تأجيل الاصلاحات ومحاربة الفساد. في الحرب على العراق تناهت أصوات يسارية تقول:ألى متى نظل نتغاضى عن الجرائم التي ترتكب في حق شعوبنا بحجة أن الأولوية الحالية هي لمواجهة الاحتلال المقبل؟ في فلسطين، عندما بني "السور الكبير"، وصارت الأراضي الفلسطينية وسكانها في سجن كبير، تفجرت التناقضات بين الفلسطينيين أنفسهم، بعدما كانوا يتوحدون في مواجهة الاسرائيليين، ويؤجلون مشكلاتهم في ما بينهم بطريقة بدت وكأنها تصدير صراعاتهم الى الخارج الأسرائيلي عبر العمليات الفدائية. والأجدى بهم الآن أن يلتفتوا الى مشكلاتهم، ويحلوا مشكلة من يتسلم الأمن بعد الانسحاب من غزة. في لبنان، في التسعينات، بعدما فشلت حرب التحرير ضد الوجود العسكري الأجنبي، عادت الفصائل والميليشيات المسيحية التي تحالفت مع بعضها، لتتقاتل على خلفية من يحكم المناطق. وكانت تلك تجربة وعبرة للتاريخ. و"العدو" الحقيقي الحالي لم يعد الغريب، بل الداخل، وعلاقة الداخل بالخارج. لم يعد الفلسطيني "الغريب"، كما كان يسمى، هو سبب الحرب في لبنان. فهناك حروب لم يكن فيها وجود لأي فلسطيني على الأرض، منها حرب الالغاء بين الجيش اللبناني والميليشيات في المناطق الشرقية لبيروت. وهناك حروب غامضة وعبثية. في الحرب اللبنانية ظن اللبناني أنه يحارب من أجل وطنه وطائفته المهددة، فإذا به يجد، بعد انتهاء الحرب، أن زعماءه كانوا متحالفين مع أعدائه في مشروع شامل ومتقدم. والماركسية أفرطت بتفاؤلها في وضع آمالها. فغالبية الثورات في التاريخ لم يكن فيها وجود وتحرك للجياع والطبقات الكادحة. وحتى الانقلابات على بعض الأنظمة الملكية التي جاءت في الدول العربية، لم يكن هدفها السلطة الشعبية، بل التخلص من حكم مدعوم من الاستعمار البريطاني، والانتقال الى نظام بورجوازي يتوافق مع المتطلبات الاقتصادية المتطورة. وتبين لاحقاً أنه لا يستطيع إلا أن يكون مشابهاً للنظام الراسمالي الأميركي ومدعوماً منه، ويسير في مداره. والدعوات الناصرية للوحدة بين الدول العربية، ومواجهة الأحلاف الأستعمارية، كانت في تناقض وتناحر دائمين مع الطريق اليساري الدي اتخذه عبدالكريم قاسم في الدعوة الى الوحدة ومحاربة الأحلاف الاستعمارية. فصحيح أن الناصرية كانت ضد حلف بغداد البريطاني، ولكن بعدما قضى عليه عبدالكريم قاسم، وحاول أن يكون امتداداً للسوفيات في مواجهة المصالح الأميركية، أقامت الناصرية الوحدة بين دول كانت مهددة بانقلابات شيوعية، ورفضت الوحدة التي حاول اقامتها قاسم مع دول مجاورة. العبرة من كل هذا السرد التاريخي أن الوعي يتنامى بين الشعوب، وصارت هذه لا تهتم بالحروب مع الخارج. فهي تعرف أن أهم الحروب هي التي تخاض في الداخل ضد الفساد. فالصراع الحقيقي ليس بين قوميات وبلدان مختلفة، بل بين الشعب وفئات تعمل ضد مصالح الشعب في الداخل كما في الخارج. لبنان - بيتر قشوع