المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    "سلمان للإغاثة" يوزع 2.459 كرتون تمر في مديرية الوادي بمحافظة مأرب    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    القبض على يمني لتهريبه (170) كيلوجرامًا من نبات القات المخدر في جازان    حاكم الشارقة يفتتح الدورة ال 43 من معرض الشارقةالدولي للكتاب    البنك الأهلي السعودي يطلق محفظة تمويلية بقيمة 3 مليارات ريال خلال بيبان24    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشّن فعاليات مهرجان شتاء جازان 2025    بانسجام عالمي.. السعودية ملتقىً حيويًا لكل المقيمين فيها    إيلون ماسك يحصل على "مفتاح البيت الأبيض" كيف سيستفيد من نفوذه؟    "البحر الأحمر السينمائي الدولي" يكشف عن أفلام "روائع عربية" للعام 2024    "ماونتن ڤيو " المصرية تدخل السوق العقاري السعودي بالشراكة مع "مايا العقارية ".. وتستعد لإطلاق أول مشاريعها في الرياض    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    أمير منطقة الباحة يستقبل الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للأرصاد    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    «الإحصاء»: ارتفاع عدد ركاب السكك الحديدية 33% والنقل العام 176%    السعودية بصدد إطلاق مبادرة للذكاء الاصطناعي ب 100 مليار دولار    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    الذهب يقترب من أدنى مستوى في أكثر من 3 أسابيع    إصابة فلسطيني برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال اقتحام بلدة اليامون    العام الثقافي السعودي الصيني 2025    المريد ماذا يريد؟    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    صمت وحزن في معسكر هاريس.. وتبخر حلم الديمقراطيين    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    قصص مرعبة بسبب المقالي الهوائية تثير قلق بريطانيا    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    الاتحاد يصطدم بالعروبة.. والشباب يتحدى الخلود    هل يظهر سعود للمرة الثالثة في «الدوري الأوروبي» ؟    الإصابات تضرب مفاصل «الفرسان» قبل مواجهة ضمك    «بنان».. سفير ثقافي لحِرف الأجداد    اللسان العربي في خطر    ترمب.. صيّاد الفرص الضائعة!    ترمب.. ولاية ثانية مختلفة    ربَّ ضارة نافعة.. الألم والإجهاد مفيدان لهذا السبب    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الإصابة تغيب نيمار شهرين    التعاون يتغلب على ألتين أسير    الدراما والواقع    يتحدث بطلاقة    سيادة القانون ركيزة أساسية لازدهار الدول    التعاطي مع الواقع    درّاجات إسعافية تُنقذ حياة سبعيني    العين الإماراتي يقيل كريسبو    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    تقاعد وأنت بصحة جيدة    الأنشطة الرياضية «مضاد حيوي» ضد الجريمة    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    تطوير الشرقية تشارك في المنتدى الحضري العالمي    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صعود الشارونية وشروط اندحارها . عسكرة الانتفاضة أفقدتها الدعم الدولي ... والمطلوب "هرتسليا" فلسطينية لتوحيد الاستراتيجيات 2 من 2
نشر في الحياة يوم 05 - 10 - 2004

في الجزء الثاني من المقال، عودة الى الأسئلة الصعبة التي تطرحها الأحداث التي شهدتها فلسطين في تموزيوليو وآب أغسطس الماضيين، انطلاقاً من قطاع غزة، وامتداداً إلى مناطق مختلفة من الضفة وعنوانها الكبير: الإصلاح، على الواقع الفلسطيني، والتي تتردد أصداؤها في موضوع فساد الأنظمة والحاجة الملحة إلى الإصلاح، على امتداد الواقع العربي.
يطرح السؤال الأول إمكان المحافظة على "مكاسب" مشروع السلطة والدولة وفي الوقت نفسه قيام جبهة وطنية ذات برنامج وطني موحد، يحدد الهدف المرحلي ووسائل النضال في كل مرحلة، وتكون قرارات الجبهة ملزمة لجميع أفرقائها. أي المحافظة على القليل من "مكاسب" اتفاق أوسلو عام 1993، على رغم أنه مصاب، أساساً، بخلل قاتل هو عقد اتفاق لا ينص على وقف الاستيطان والاستيلاء على الأراضي. كما كان من تداعياته إلغاء دور منظمة التحرير، وبالتالي تقليص دور فلسطينيي الشتات إلى أدنى مستوى. فكأن المعادلة المعتمدة بعد اوسلو هي مشروع سلطة أو حركة تحرير وطني وليس الاثنان معاً، فلسطينيو الداخل لهذه المرحلة أو فلسطينيو الخارج، وليس الاثنان معاً.
وإذا كان فلسطينيو الداخل لم ينجحوا في فرض أطر فاعلة، خارج السلطة والفصائل، تمثل مختلف شرائح الشعب الفلسطيني وقواه الثقافية والعلمية والنقابية والاجتماعية والاقتصادية الخ، أي تلك التي يتشكل منها الرأي العام القادر على الضغط من أجل التصحيح، فإن فلسطينيي الخارج فشلوا أيضاً في تنظيم أنفسهم، وتشكيل قوة ضغط تفرض إعادة تشكيل أطر منظمة التحرير وتعبئة إمكاناتهم الكبيرة والمؤثرة ثقافياً وإعلامياً ومالياً، الأمر الذي لا بد - لو تم - من أن ينعكس، من جهة، إيجاباً على بيئات عربية يمكن تنظيمها وتوظيف طاقاتها في الصراع، ويشكل، من جهة أخرى، رافعة وعاملاً مساعداً على نهضة المجتمعات العربية وإعادة تكوين قواها المختلفة لتمارس دورها في المحاسبة والضغط لغرض الإصلاح على أنظمتها. أي، في المحصلة، توفير شروط نهضة فلسطينية وعربية من دونها لن تتمكن القضية الفلسطينية من تحقيق إنجازات استراتيجية.
إن استعادة التجربة الغنية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني طوال نحو أربعة عقود، بكل إنجازاتها وما ارتكبت من أخطاء واستخلاص دروسها وعبرها، تضع القوى الحية في المجتمع الفلسطيني أمام مسؤولية حسم العناوين الأربعة الرئيسة: السلطة القائدة، الفصائل المتعددة البرامج، الجبهة الوطنية الموحدة، تجديد منظمة التحرير، بما يضمن توفير قيادة كفية ودينامية ومبادرة، لمواجهة مشروع شارون، باعتباره الخطر الأكبر الماثل.
أما السوال الثاني وهو: هل يمكن إقامة حركة تحرير وطني ينبثق منها ائتلاف جبهوي بين الفريقين الرئيسين في الداخل الفلسطيني: الفريق القومي العلماني، والفريق الإسلامي؟ فان جوابه ان ذلك لم ينجح ذلك حتى الآن، على رغم المساعي التي بدأت في السنوات الأخيرة ولا تزال متواصلة نتيجة اشتداد الأزمة في الجانب الفلسطيني تحت وطأة حرب الإفناء غير المسبوقة التي يشنها ارييل شارون وجيشه من دون أية ضوابط: أخلاقية تحرك قوى ترفض هذه الممارسات في المجتمع الإسرائيلي، أو قانونية دولية كتلك التي تقيد تصرفات الجيوش النظامية في الحروب وتمنح الشعوب تحت الاحتلال قدراً معيناً من الحقوق. ولا يجوز التوفيق التلفيقي بين الاتجاهين الديموقراطي العلماني والديني في الصراع الديموغرافي السياسي والاجتماعي والاقتصادي في مجتمع سوي ودولة ناجزة. ويمكن الاستنتاج من تجربة نصف قرن عربي من الاستعمار والتخلف والأنظمة التوتاليتارية والحروب الداخلية تتوجها اليوم حال من الانحطاط غير مسبوقة، أنه ما لم نحقق ما سبقنا إليه الغرب، من فصل بين الدين والدولة، فلن تهتدي المجتمعات العربية إلى طريق التطور والتقدم. إنه شرط ضروري وإلزامي، وإن لم يكن كافياً بحد ذاته. ومجتمعاتنا، التي تهيم اليوم في نفق مظلم من الاحتلال والاستبداد والتخلف، لا تعرف من أين ستبزغ خيوط الفجر. لكن فلسطين أمر آخر، حيث يخوض الشعب معركة التحرير الوطني وإقامة الدولة المستقلة، فإن عدم القدرة على إيجاد قواسم مشتركة توحد القيادة والأهداف والوسائل، مع إمكان بل وضرورة التنوع ضمن الوحدة، شرط التنسيق وتوزيع الأدوار إلخ. هو بحد ذاته جريمة في حق الشعب الذي يضحي ويصمد ويلبي كل ما تطلبه منه هذه القيادة. فهل يستطيع الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، أن يفرض بالعمل المنظم والضغط الفاعل انقاذ قضيته وقيادته من التردي والتراجع المتمادي؟
والسؤال الثالث: هل يمكن تحقيق الإصلاح في مجتمع يرزح تحت الاحتلال؟
بفضل أوسلو ووهم الكيان والدولة من دون سيادة رئيس وحكومة وشرطة ومؤسسات تحت الاحتلال تمكن شارون من أن يمارس ضد الشعب الفلسطيني، بشراً وثروات طبيعية وممتلكات، ما هو أبشع من الاحتلال، من دون أن يدفع الكلفة التي تفرضها القوانين الدولية على المحتل.
وحركة التحرير الوطني كما السلطة، هما الآن أمام ثلاثة خيارات:
الأول: التسليم بانتهاء تجربة أوسلو، وحل مؤسسات الكيان الناشئ، وعودة قوى المقاومة إلى بناء كوادرها وقياداتها بالسرية المطلقة، وبالتالي عودة الاحتلال بكل مقوماته ومطالبته بتطبيق ما تفرضه المواثيق الدولية. وتستدعي هذه الحال إطلاق جميع الخيارات من الدولة المستقلة إلى الدولة الثنائية القومية أو دولة الحقوق المتساوية على كامل التراب الفلسطيني.
الخيار الثاني: الاستمرار في استنفاد تجربة أوسلو. ويتطلب ذلك، في أحد جوانبه، تطوير مؤسسات السلطة وتوفير شروط فاعليتها، خصوصاً لجهة الكفاية والشفافية، وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني من طريق الانتخاب والاضطلاع بدورها في مراقبة السلطة من جهة، ورفدها بعناصر قوة إضافية في مواجهة الاحتلال من جهة أخرى. كما يتطلب الدراسة المعمقة لأساليب النضال والاستفادة من تعددها وتنوعها والدراية الكاملة في استخدامها في هذه المرحلة أو تلك.
الخيار الثالث: إيجاد المعادلة الخلاقة في المزج بين إيجابيات بقاء السلطة والكيان/الدولة قيد البناء، على أن تتسم السلطة ومؤسساتها بالفاعلية في خدمة شعبها وبالكفاية والنزاهة والشفافية. وفي الوقت نفسه إقامة الجبهة الوطنية والقيادة الموحدة والبرنامج الوطني المشترك، وإحياء أو تجديد منظمة التحرير كإطار جامع ومنظم لإمكانات ومؤسسات الداخل والخارج.
والسلطة التي ستستمر في إدارة أمور المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، في كل الحالات، مطالبة بتصحيح أوضاع مؤسساتها: في القضاء والتربية والتعليم والاقتصاد وغيرها. كما أن القيادة الموحدة المنبثقة من الجبهة الوطنية مطالبة بتنفيذ برنامجها الموحد بحزم وكفاية. ولا تقوم هنا، في أي شكل، ذريعة الاحتلال، كمبرر لاستمرار الفساد المستشري بكل أشكاله المادية والبيروقراطية والمحسوبية والانتهازية وعدم الفاعلية والكفاية في أجهزة السلطة. كما لا تقوم أية حجة لبقاء الجانب الفلسطيني من الصراع المتعدد القيادات والبرامج والوسائل، من دون تنسيق أو ترشيد.
يبقى الوجه الخارجي لمأزق القضية الوطنية الفلسطينية: الإسرائيلي، والعربي، والدولي.
أ- اسرائيلياً: لا بد للقيادة الفلسطينية من أن تطرح على نفسها وعلى مجتمعها وشعبها: ما الذي أدى إلى هذا التراجع المريع في تأييد عدالة القضية الفلسطينية في أوساط أقلية ولكن واعدة من الإسرائيليين اليهود وتحديداً منذ ما بعد كامب ديفيد صيف عام 2000؟ وما الذي يحول دون إعادة تكوين نواة إسرائيلية وفق تصور استراتيجي لكسب مزيد من الإسرائيليين اليهود لدعم مشروع الدولة الفلسطينية؟
مجتمع بكامله، تقريباً، ينزاح يميناً، وقوى صغيرة، ولكنها كانت تمتلك الحجة والتأثير، تتلاشى وتضمحل، حتى بدت المجاهرة بتأييد الحق الفلسطيني في المجتمع الإسرائيلي موقفاً مكلفاً يعرض صاحبه للعزل وحتى للاعتداء. وإذا كان إيهود باراك وبعده آرييل شارون، وأجهزتهما الإعلامية داخل إسرائيل وخارجها، نجحا في إقناع الإسرائيليين وكثير من القوى النافذة في العالم بأن القيادة الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، فوتت فرصة الحصول على 95 في المئة من الضفة وكامل قطاع غزة ومعظم القدس الشرقية، في كامب ديفيد، ثم في الخطوط الكبرى والأفكار التي طرحها الرئيس بيل كلينتون في أواخر كانون الأول ديسمبر 2000، فما الذي أدى إلى ذلك، وما هي مسؤولية القيادة الفلسطينية؟ وما هو التقصير الذي ارتكبته في عدم تقديم الحجة الدامغة على أن باراك كان في كامب ديفيد مخادعاً ومتلاعباً ولم يقدم حلولاً مقبولة؟ كذلك فإن الغموض أحاط بموقف السلطة من عناصر تسوية طرحها كلينتون، واعتقد الكثيرون أنها شكلت اقتراحات قابلة للنقاش وأنها تسمح بالعودة إلى طاولة المفاوضات.
إن عدم طرح هذه الأسئلة في حينه من جانب القيادة الفلسطينية للنقاش علناً، ثم اختيار العسكرة سلوكاً طاغياً في مواجهة الاحتلال على ما عداه من أشكال النضال الشعبي التي أغنتها الانتفاضة الأولى وأبدعت في ابتكارها، كل ذلك من دون تبصر بالظروف الإسرائيلية والعالمية التي كانت ولا تزال تحتم دينامية مرشِّدة لأشكال النضال الملائمة في كل مرحلة من مراحله.
ب - عربياً: مضت أربع سنوات على اندلاع أحداث الانتفاضة الثانية. ومن نافل القول إن الأداء العربي كان مخزياً إزاء ما حفلت به هذه السنوات الأربع من أحداث جسام أرهقت القضية الفلسطينية وأطاحت الكثير من المكتسبات التي حققتها في سياق نضال شعبها الطويل. فالتماهي بين السياستين الأميركية والإسرائيلية المتلازمتين عهد شارون/بوش أربك الأنظمة العربية، بعد أن امتدت نار حرب الرئيس الأميركي على "الإرهاب" إلى وسط المنطقة مهددة رؤوس الأنظمة بالذات، فانصرفت مذعورة إلى تدبير أمورها، غير عابئة بما يفعل شارون بالشعب الفلسطيني وقضيته.
أما الشعوب التي ظلت تهب وتنطفئ، ثم تهب وتنطفئ، إلى أن استقرت على اللامبالاة، والانصراف البائس إلى ما تغرقها به الفضائيات العربية من برامج تفريخ المغنين والمغنيات والألعاب والتسلية والربح السهل، فكأنها، وقد أنهكتها الأنظمة طوال نصف قرن ونيف واستنزفت طاقاتها، أعلنت استقالتها من دورها في صنع الشأن العام، مستسلمة إلى التخدير اللذيذ الذي تحقنها به يومياً هذه الفضائيات. وتحتاج الشعوب العربية إلى القيادة والتنظيم لتعود إلى الدور والفاعلية. فاستعادتها مما هي فيه ليست بالمعجزة ولا هي بالمستحيلة.
والقيادة والتنظيم هما ما يحتاج إليه أيضاً الشعب الفلسطيني الذي فشلت "قياداته" في تنظيمه وفي قيادته في الداخل والخارج. وإزاء المخاطر التي تواجهها القضية اليوم، لا يمكن الادعاء أن طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته موظفة توظيفاً سليماً وفاعلاً في مواجهة هذه المخاطر.
فمن هو المسؤول عن هذا التردي؟ ولماذا لا تنجح المحاولات المبعثرة، في فلسطين وساحات عربية عدة، التي تحاول أن تحل محل الحركات والأحزاب القومية واليسارية التي انتهت بانتهاء الحقبتين الناصرية والسوفياتية؟ لقد تمكنت قيادة حركة المقاومة الفلسطينية، منذ أوائل الستينات إلى أواسط السبعينات، من استنهاض "الشارع" العربي، وقيادة المرحلة مع أحزاب وقوى عربية، على رغم ما شاب تلك المرحلة من أخطاء، بعضها كان قاتلاً فلسطينياً: أداء الفصائل في سنوات الحرب في لبنان، عربياً: غياب الديموقراطية والحريات، واعتبار الأحزاب والقوى التقدمية العربية الأنظمة المستبدة المتولدة من انقلابات عسكرية أنظمة ثورية تستحق الدعم.
وإذا كانت محاسبة قيادة الداخل وتصحيح مسارها، هي مسؤولية الشعب الفلسطيني في الداخل، فإن فلسطينيي الشتات، بإمكاناتهم المتنوعة الهائلة، لم يبادروا إلى تنظيم أنفسهم، ولا إلى استلهام العناصر الإيجابية في تجربة حركة المقاومة في الستينات من القرن الماضي، للإسهام في تنظيم إمكانات المجتمعات العربية والدفع بها إلى ساحة الصراع.
ويمكن الجزم بأن الوضع كان ليكون أفضل كثيراً عما هو عليه، لو أن الشعب الفلسطيني في الداخل راقب، بواسطة مؤسساته التمثيلية المنتخبة، السلطة وحدّ من تردي المستوى القيادي في شتى ممارساتها. ولو أن الشعب الفلسطيني في الشتات بادر إلى تنظيم نفسه، وتعبئة كل إمكاناته وإمكانات القوى الشعبية المساندة في مختلف المجتمعات العربية.
ج - دولياً: لا يخلو برنامج حركة تحرير وطني من مهمتين رئيستين، الأولى تتعلق بالتأثير في مجتمع الدولة المعادية والسعي إلى كسب أكبر عدد من قواه المؤثرة. وأبرز مثلين ناجحين قريبين زمنياً هما الجزائر وفيتنام.
أما المهمة الثانية فتتركز على كسب الرأي العام العالمي، من خلال الشرعية الدولية الأمم المتحدة، ثم تجييش أشكال التأييد المختلفة في أكبر قدر ممكن من مجتمعات الدول. ونالت القضية الفلسطينية تأييداً لا مثيل له من جانب الأمم المتحدة الجمعية العامة ومجلس الأمن وإن كان الفيتو الأميركي مستنفراً دائماً لمصلحة إسرائيل، ثم من جانب المجتمع الدولي خلال عقود عدة. وأسهم ذلك، إلى جانب نضال الشعب الفلسطيني، في اتساع الدعم العالمي لعدالة القضية الفلسطينية.
وشهدنا في الأمس القريب مثلاً آخر هو مسألة الحرب الأميركية على العراق، التي رفضت الأمم المتحدة منحها الشرعية الدولية، كما عبّرت شعوب العالم، من خلال التظاهرات الصاخبة، عن رفضها لتلك الحرب. فأحرج ذلك إدارة الرئيس بوش، وأضعف تحالفاتها، وأثر في اندفاعها لتحقيق أهدافها الاستعمارية في الشرق الأوسط انطلاقاً من كسب الحرب في العراق.
وتراجعت القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، إلى المرتبة الثانية، بعد العراق، لدى شعوب العالم لسببين: الأول: العمليات التي استهدفت القتل العشوائي للمدنيين الإسرائيليين داخل إسرائيل. والثاني: ظهور الصراع أمام العالم وكأنه حرب بين جيشين ودولتين. ونجح الإعلام الإسرائيلي والصهيوني والمساند له في إبراز الضحايا المدنيين الإسرائيليين للعمليات الفلسطينية وكأن الإسرائيليين وحدهم يموتون في هذه الحرب. كما نجح في تثبيت صورة الصراع بين قوتين عسكريتين تمارسان القتل المتبادل، والانتصار والهزيمة المتبادلين. وغالباً ما غابت في خضم هذا التشويش صورة الجيش المحتل والشعب الرازح تحت الاحتلال. وينبغي الاعتراف بأن بعض الإعلام الفلسطيني بدءاً بإعلام القوى الإسلامية ثم تبعته كتائب شهداء الأقصى، وفصائل أخرى أسهم، أحياناً، في تغذية وهم الحرب المتكافئة، فلا يقع هجوم للجيش الإسرائيلي مثلاً، إلا وانتظر العالم بناء لوعود فلسطينية الرد الفلسطيني، فيظهر الهجوم والرد كأنهما شبه متكافئين، حتى ولو كان حجم الخسائر هائلاً في الجانب الفلسطيني، وطفيفاً في الجانب الإسرائيلي.
وصار احتساب نسب القتلى من الجانبين مؤشراً لتحديد نتيجة الصراع. ويبدو من أدبيات بعض الفصائل الفلسطينية أنها اعتبرت بلوغ شبه التكافؤ في عدد القتلى 1 إلى 3 مثلاً مؤشراً جيداً لقرب ارتفاع الشكوى والإرهاق في المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي الاقتراب من لحظة العودة إلى المفاوضات بأحجام جديدة للطرفين تقررت على أرض المعركة. بل أن ثمة في السلطة من يعوّل على ما سماه عضو اللجنة المركزية لحركة فتح هاني الحسن "توازن أزمات" بين فلسطين وإسرائيل: "إسرائيل عندها أزمة خانقة اقتصادية وأمنية، والفلسطينيون عندهم الأزمة نفسها، ولذلك يجب أن نصمد أمام شارون لأنه مجبر على إيجاد حل ...". وقد وصل الوضع إلى هذا التوازن بفضل "الانتفاضة المجيدة". "الحياة" 5/8/2004.
نجح الجيش الإسرائيلي، في بدايات الانتفاضة، في استدراج المقاومة الفلسطينية كي يصبح طابعها الغالب العسكرة واستخدام السلاح. وآن الأوان لطرح مواضيع العسكرة والسلاح والعمليات الانتحارية ضد المدنيين في إسرائيل لنقاش جاد وصريح تشارك فيه النخب الفلسطينية في السلطة وخارجها في الداخل والخارج، لاستخلاص عناصر برنامج وطني للمرحلة المقبلة من الصراع.
ثم، هل صحيح أن الانتفاضة أوصلت الوضع بين الجانبين إلى "توازن أزمات" س"يجبر" شارون على إيجاد حل يقبل به الفلسطينيون؟ وهل هذا هو حقاً ما ينبئ به مسار الصراع، حيث يقتل شارون ويدمر ولكنه يمضي أيضاً في بناء الجدار والمستعمرات في الضفة؟ أم أن هذا "التوازن" وهم آخر يشبه أوهام أوسلو؟ وأن إحباط مشروع شارون يحتاج إلى قراءة معمقة لسنوات الانتفاضة الأربع فلسطينياً وإسرائيلياً وعربياً ودولياً وإمعان النظر في مسارها وفي أوضاع قواها ومجتمعها؟ ولعله يحتاج أيضاً إلى إعادة النظر في استلهام "النموذج اللبناني" خصوصاً لدى التنظيمات الإسلامية، للاختلاف الجذري بين الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية ومنها القدس، وبين وجوده في جنوبي لبنان.
ثمة من يعتقد أن خيار الدولتين سقط مع مشروع أوسلو برمته. أسقطته الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالعمل الثلاثي الأبعاد الذي شكل سمة عامة تشمل هذه الحكومات جميعها: توسيع الاستيطان في الأراضي المحتلة" تفعيل شعار: القدس الموحدة عاصمة إسرائيل الأبدية" تفعيل "حق العودة" اليهودي لملء فراغ في البلد يفترض أن يشغله حق العودة الفلسطيني. ثم جاء العهد الشاروني ليسد الثغرات والثقوب التي كانت لا تزال تشكل أملاً للفلسطينيين للنفاذ منها إلى دولة عتيدة. وإذا كان إخلاء سبعة آلاف يهودي من قطاع غزة الذي لا يشكل بالنسبة إلى صهيونيين كثر جزءاً من "ارتس يسرائيل" يحوّل أحد أبطال حروب إسرائيل آرييل شارون إلى "خائن" للصهيونية وتحِل كتلة رئيسة من المستوطنين واليهود الإسرائيليين قتله، فمن يجرؤ على الحديث عن إخلاء 250 الف يهودي من الضفة الغربية، بكل ما تمثل هذه المنطقة في التراث اليهودي؟ أما القدس الشرقية التي استوطن فيها أكثر من 200 الف يهودي، فقد ضمها العهد الشاروني فعلياً وأحاط القدس الكبرى بجدران إسمنتية وبأسوار من المستعمرات وبمساحات خالية وخنادق وأسلاك يتوخى أن تجعلها، كأمر واقع لا عودة عنه، بمنأى عن أية مفاوضات فلسطينية إسرائيلية. أما "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين، فإضافة إلى الإجماع اليهودي الصهيوني على رفضه واستنهاض العهد الشاروني موجة جديدة من الهجرة، تمكن شارون من الحصول على "وعد" ملزم من السلطتين التنفيذية والتشريعية الأميركية ومن الحزبين الرئيسين في الولايات المتحدة، بأن تكون عودة الفلسطينيين محصورة بالدولة الفلسطينية متى قامت! أما متى تقوم هذه الدولة وأين... فهو موضوع آخر، لعله يتشكل وفق "الأمر الواقع" الذي ترسيه إسرائيل على الأرض، والذي شكل بنداً رئيساً في "وعد بوش" لشارون الذي يطيح "وعد" الدولة للفلسطينيين.
يقف الفلسطينيون اليوم، بسلطتهم وفصائلهم، بداخلهم وشتاتهم، أمام "حقائق" جديدة أرستها الشارونية طوال نحو أربع سنوات خلت، تتجاوز في الحقيقة السياسة الفلسطينية، والاستراتيجية المرحلية، وأشكال المقاومة التي مورست خلال السنوات الأربع الماضية وسمتها الرئيسة: العسكرة.
لقد انفردت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 بمشروع أوسلو ظناً منها أنه سيحقق البرنامج المرحلي للمنظمة: دولة فلسطينية على كامل الضفة والقطاع عاصمتها القدس الشرقية. وكانت قيادة المنظمة تعتقد أنها قدمت كل ما تستطيع من تنازلات، قبل بدء المفاوضات، بقبولها 22 في المئة فقط من مساحة فلسطين الانتداب، بينما اعترف لها قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 ب47 في المئة من هذه المساحة. هذا، في حين أن الجانب الإسرائيلي، بعد أن حصل على الاعتراف التاريخي الفلسطيني بدولته على 78 في المئة من أرض فلسطين، اعتبر أن اتفاق أوسلو هو للتفاوض والمساومة على ال 22 في المئة الباقية وليس سقفاً للتنازلات الفلسطينية.
لا تنفع العودة إلى الماضي إلا لاستخلاص الدروس والعبر. لكن، لا شيء يبرر الكثير مما حصل وأيضاً مما لم يحصل فلسطينياً منذ أيلول سبتمبر 2000، تاريخ بدء الانتفاضة الثانية، انتفاضة الأقصى، انتفاضة الاستقلال والسيادة الوطنية. وخصوصاً بعد الحدث الذي هز الولايات المتحدة والعالم في 11/9/2001.
ما الذي حال دون صوغ استراتيجية موحدة خلال السنوات الأربع المنصرمة بمشاركة قيادات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات؟ استراتيجية توحد البرامج، وتحدد المراحل، وترشّد الوسائل. ولماذا يجب أن تظل الصهيونية وإسرائيل، بعد قرن ونيف من الصراع، متفوقة في التخطيط والتنظيم؟ ولماذا لم يعقد، منذ بدء الانتفاضة الثانية مؤتمر واحد شامل لفلسطينيي الشتات يساعد على وضع هذه الاستراتيجية وينظم تعبئة الإمكانات والطاقات؟ لقد كان في إمكان متمول فلسطيني واحد، أن يجمع مرة في السنة أفضل الطاقات السياسية والعلمية والفكرية الفلسطينية ويضعها أمام مسؤوليتها في صوغ الاستراتيجية المنشودة. فلماذا لم يقدم على ذلك أي متمول فلسطيني، وما أكثرهم؟ وبكلام آخر: لماذا لا يكون للفلسطينيين هرتسليا"هم" ** وهم أحوج إليها من الإسرائيليين، وهي في متناولهم مالاً وكفايات سياسية وعلمية؟
لم يفت الأوان. والدعوة الإصلاحية المحقة والملحة لمختلف مؤسسات السلطة الفلسطينية، وكذلك الاحتمال القوي بانسحاب إسرائيل من قطاع غزة، والمضي قدماً في الاستيطان وبناء جدار الفصل العنصري، كل ذلك يؤكد ضرورة عقد مؤتمر وطني فلسطيني يحضره ربما مفكرون عرب يشاركون في النقاش، يشمل الداخل والشتات، لصوغ استراتيجية فلسطينية للمرحلة المقبلة، تلتزم بها السلطة والفصائل وغيرها من التنظيمات الفلسطينية في الداخل والخارج. ماذا يبقى من مبررات إقامة الجدار مثلاً، أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، إذا قررت جميع فصائل المقاومة ونفذت وقف العمليات على أنواعها داخل إسرائيل؟.
لا تملك القضية الفلسطينية "ترف" انتظار شفاء الجسم العربي من العاهات التي أقعدته وأصابته بالشلل عبر سلسلة من الهزائم والنكبات منذ هزيمة 1967 حتى الحرب الأميركية الممعنة في تدمير العراق بمشاركة وتدبير صهيونيين واضحي البصمات. فالقضية الفلسطينية المهددة اليوم كما في عام إنشاء إسرائيل 1948 هي مسؤولية فلسطينية بعد أن تنصل العرب، وانقسموا بين وسطاء وغير مبالين. وبعد أن صار واضحاً أن الدور العربي في القضية الفلسطينية متلازم مع شروط تحقيق نهضة عربية في مجالات الديموقراطية والحريات والتنمية.
ليست هزيمة المشروع الشاروني أمراً مستحيلاً، فقد وصل هذا الجنرال المتهور إلى رأس السلطة كتعبير عن انحطاط السياسة في إسرائيل بعد انهيار حزب العمل واليسار الصهيوني ووصول رجال المافيات والعصابات إلى المستوى القيادي في حزب الليكود، وغياب الزعماء الإسرائيليين الكبار. فليس آرييل شارون دافيد بن غوريون ولا حتى مناحيم بيغن، ولا ظروف 2004 الدولية مماثلة لظروف 1948. وأعتقد، جازماً، بأن الأداء القيادي الفلسطيني في السنوات الأربع الأخيرة، لم يكن في مستوى التحالف الشاروني البوشي، كما لم يكن معبراً عن كفايات الشعب الفلسطيني وديناميته وقدرته على التضحية، فكان ذلك بالتالي جزءاً من أسباب تردي الوضع إلى ما هو عليه.
إن تصحيح الوضع الداخلي الفلسطيني، ومناقشة أحداث أربع سنوات من عمر الانتفاضة الإيجابي والسلبي من النتائج والتحرك الدينامي والمنظم للنخب والهيئات الشعبية الفلسطينية في الداخل والخارج، وعقد مؤتمرات سنوية جامعة تنظمها جمعية "التعاون"؟ هي المهمات الملحة اليوم لإنقاذ القضية الفلسطينية. فالفلسطينيون هم "أم الولد"، على الأقل إلى أن ينهض العرب ويدركوا وهم يتحسسون جلودهم أن الصهيونية المتحالفة مع الاستعمار بأشكاله المختلفة، تهدد أنظمتهم وكياناتهم وثقافتهم وحضارتهم، بل إن التطرف الإسرائيلي يهدد حياتهم، إذ يسعى إلى أن يضع في يد كل إسرائيلي قنبلة نووية.
* مدير مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.
** مؤتمر سنوي يعقد في هرتسليا وتشارك فيه النخب السياسية والفكرية في الحكم والمجتمع الإسرائيليين ويناقش قضايا اسرائيل الأساسية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.