كارثة مدينة بيسلان والتداعيات التي اعقبتها حملت مؤشرات عدة تدل على دخول روسيا مرحلة جديدة في تاريخها المعاصر من خلال اعادة النظر في آليات تعاطيها مع المتغيرات من حولها، خصوصاً في ما يتعلق بالحرب الدولية على الارهاب. والآثار العميقة التي خلّفتها ضربات الارهابيين المتتالية أخيراً في روسيا لا تقتصر على الهياكل السياسية التي باتت مرشحة لخوض عملية صياغة جديدة عنوانها توحيد الطاقات في مواجهة ما وصف بأنه حرب شاملة تستهدف روسيا، وانما تنسحب كذلك على المزاج العام الذي بات مهيأً لقبول اي تغييرات توفرللمواطن الروسي عناصر الامن والاستقرار التي بات يتوق اليها. كثيرون في روسيا وصفوا عملية احتجاز الرهائن في مدرسة بيسلان بأنها نزلت كزلزال هز المجتمع الروسي بعنف. وأسباب ذلك لا تقتصر على الصدمة التي احدثتها قدرة الارهابيين على الافلات من التدابير الامنية الصارمة والوصول الى اهدافهم مرة وراء أخرى، على رغم حال الاستنفار الشامل التي عاشتها روسيا في الفترة الاخيرة، وكذلك ليس بسبب الوحشية التي اظهرها الارهابيون عبر قتل الاطفال بدم بارد، وليس لأن عملية الاقتحام المشؤومة اسفرت عن فاجعة لم تشهد روسيا مثيلاً لها، ولكن لأن هذه العملية الرهيبة اظهرت عجز الاجهزة الامنية في مناخ حرب مستمرة منذ سنين على الارهاب عن حماية مواطنيها، ولأن الهجوم على مدرسة فيها مئات الاطفال كشف عن الوجه الحقيقي للعدو الذي تواجهه روسيا. باختصار، زرعت هذه العملية الرعب في كل بيت روسي. وعلى رغم ان الارهابيين في مناطق مختلفة من العالم لهم تجارب لا تحصى في توجيه بنادقهم نحو صدور المدنيين وقتلهم بدم بارد، لكن التخطيط على مدار شهور لاحتلال مدرسة وتحويل تلاميذها الى دروع بشرية وإعدام عدد منهم امام اعين ذويهم شكّل نقلة غير مسبوقة لم تخطر على بال اعتى المجرمين. والشهادات الحية التي نقلها الرهائن السابقون حول ما جرى داخل المدرسة خلال الايام الثلاثة، وانتقلت في ارجاء روسيا بسرعة البرق، لم يكن لها ان تمر من دون ان تحفر أثراً عميقاً في كل بيت. والسؤال الاساس الذي غدا مسيطراً على عقول الجميع في روسيا بعد الكارثة هو: هل كان يمكن انقاذ الاطفال في بيسلان؟ وطبيعي ان هذا السؤال يفتح على اسئلة اخرى متعددة من قبيل: من كان صاحب الطلقة الاولى التي فجرت الجحيم في المدرسة؟ او هل استنفدت القيادة الروسية بالفعل كل وسائلها قبل مهاجمة الارهابيين؟ وهل ذهبت مضطرة الى اقتحام المدرسة كما اكدت الرواية الرسمية؟ ولماذا هب العالم لانتقاد الكرملين على اسلوب تعاطيه مع الازمة؟ المؤكد ان الاجابة عن هذه الاسئلة تفتح على تعقيدات بالغة، لأن من اطلق الرصاصة الاولى يتحمل نظرياً على الاقل مسؤولية نهر الدم الذي سال، لكن الاهم من ذلك التداعيات التي اعقبت عملية المدرسة، اذ بدا ان موسكو تشهد حركة سريعة لاستخدام الازمة وتوظيفها في خدمة اغراض لا تبدو وليدة الساعة، وقد ظهر ذلك مباشرة بعد الكارثة عبر اطلاق تصريحات نارية تتحدث عن انتقال موسكو الى الجبهة الامامية في الحرب على الارهاب مع ما يتبع ذلك من حقها في ضرب اعدائها اينما كانوا. ولم تلبث لهجة الخطاب ان شهدت تصعيداً جديداً عبر التلميح تارة والتصريح تارة اخرى بدور خفي لعبه جيران روسيا مثل جورجيا او كازاخستان او اوزبكستان في الاعتداءات الارهابية. وشكل كل ذلك مقدمة لاعلان تغييرات جذرية في هياكل الدولة الروسية وإعادة بناء هرم السلطة فيها، ما دفع كثيراً من المحللين الروس الى التساؤل عما اذا كان الكرملين يهدف الى امتصاص النقمة الشعبية وحال الاحتقان التي اعقبت الكارثة ام انه يسعى لتطبيق اجندة خاصة ساهمت العمليات الارهابية الاخيرة في تسريع وتيرة تنفيذها. المدرسة الرقم واحد في بيسلان هي اكبر مدارس المدينة، وتتسع لنحو 900 تلميذ، كانت غالبيتهم الساحقة مع مدرسيهم وأفراد عائلاتهم بين الرهائن في تلك الايام الثلاثة المشؤومة. وبحسب التقاليد الروسية ترافق العائلة طفلها الى مدرسته في اول ايام الدراسة، لكن الاول من ايلول سبتمبر في هذا العام كان مختلفاً عن غيره. فما إن بدأت مراسم الاحتفال حتى انهالت الطلقات النارية حول الجموع التي احتشدت في باحة المدرسة وظهر مسلحون يرتدون ملابس سوداً وأمروا الجميع بالتوجه الى قاعة الالعاب الرياضية في المدرسة. زيرا عمرها 13 عاماً كانت بين التلاميذ وقالت ل"الحياة" انها اعتقدت في اللحظات الاولى ان ما يجري جزء من لعبة اعدتها ادارة المدرسة بإتقان لتبهر بها التلاميذ، لكن اصوات الرصاص وخيوط الدم التي سالت في الباحة لم تترك مجالاً للشك في أن ما يجري بعيد عن المزاح. ومع تدافع الحشود نحو قاعة الرياضة بدا ان الجحيم فتح ابوابه في تجربة لن تمحى من ذاكرة من بقي حياً بعد المذبحة. من المسؤول عن الكارثة؟ الجدل الذي ثار في روسيا حول العملية الدموية لم يقتصر على انتقاد اسلوب تعاطي الاجهزة الامنية معها، بل كان السؤال الذي شغل بال كثيرين هو كيف نجح عشرات المسلحين في الوصول الى المدرسة في ظل تدابير امنية غير مسبوقة اعقبت اعتداءين ارهابيين في روسيا. واللافت ان المجموعة الارهابية كانت خاضت صبيحة احتلال المدرسة معركة قصيرة على احد الحواجز العسكرية الذي يقع على بعد كيلومترات عدة من المدينة من دون ان يلفت هذا الحادث انظار الاجهزة الامنية. وأثار هذا كله موجة سخط ضد الكرملين. اضافة الى ذلك فاقم كذب السلطات من حال الغضب الشعبي. اذ ظلت الحكومة الروسية تؤكد حتى اليوم الثالث للكارثة ان عدد الرهائن لا يتجاوز بضع مئات ثم اضطرت للاعتراف بأن اكثر من 1200 شخص عاشوا المأساة. كما تعددت الروايات حول أعداد الارهابيين ووسائل وصول اسلحتهم الى المدرسة، وأخيرا لجأت السلطات الى الكذب حتى في تقدير عدد الضحايا اذ تحدثت عن نحو 300 قتيل فيما ذكرت مصادر طبية ان عدد القتلى زاد على 400 وان اكثر من 100 شخص سجلوا في عداد المفقودين بعدما تعثر التعرف الى جثثهم. وعلى رغم ان كثيرا من المسؤولين الروس اعتبروا ان هدف الاعتداء زعزعة الاوضاع في منطقة القوقاز كلها وإشعال حروب جديدة في المنطقة، الا ان محللين لم يخفوا قناعتهم بأن سلسلة الهجمات الارهابية الاخيرة استهدفت النيل من الرئيس الروسي نفسه. فبوتين الذي وصل الى الكرملين بعد تعهد اطلقه بإعادة الامن الى الروس وجدد ولايته قبل شهور تحت شعار تسوية الملف الشيشاني والنهوض بأوضاع الروس المعيشية لم يتمكن بعد من الوفاء بأي من وعوده، خصوصاً بعد ظهور تحالف يميني قوي خاض ضده حرباً مفتوحة وجدت تمويلاً سخياً لها من جانب حيتان المال الذين انتقلوا الى المعسكر المناهض للرئيس الروسي بعد سلسلة ضربات وجهها اليهم. وتسود تكهنات في الاوساط القريبة من الكرملين بأن هذه المجموعات المعارضة انتقلت الى العمل في شكل حاسم من اجل هزيمة بوتين بالضربة القاضية وتحالفت لتحقيق هذا الغرض مع اقطاب الانفصاليين الشيشان الذين وجد معظمهم في العواصم الاوروبية ملجأ آمناً. ويفسر هذا الخطاب الرسمي الروسي الذي تحدث عن "تحالف واسع معاد لروسيا" واعتبر ان ثمة حرباً مفتوحة اعلنت على موسكو تشارك فيها اطراف عدة. وبحسب محللين روس، فإن التحالف يضم دولاً جارة لروسيا مثل جورجيا التي وصلت ازمتها مع موسكو الى حافة الانفجار العسكري اكثر من مرة. ومعلوم ان الجورجيين يتهمون روسيا بدعم الانفصاليين الأبخاز فيما يعتبر الروس ان جورجيا شكلت دائماً ساحة خلفية للانفصاليين الشيشان ومنطلقاً لشن هجماتهم ضد موسكو. وكان لافتاً ان المسؤولين الروس سارعوا بعد الكارثة مباشرة الى اطلاق التهديدات بشن عمليات عسكرية لضرب الارهابيين في معاقلهم خارج الاراضي الروسية. وعلى رغم ان كثيرين شككوا في جدية هذه التصريحات، لكنها شكلت مؤشراً على عزم موسكو على استغلال الوضع الذي نشأ بعد الكارثة الى اقصى درجة ممكنة. واللافت ان التهديدات الروسية طاولت مناطق في آسيا الوسطى، اذ اتهم مسؤولون روس كازاخستان وأوزبكستان بتسهيل مرور الإرهابيين عبر اراضيهما، وفتح ذلك على اسئلة عدة حول قدرة روسيا على تنفيذ تهديداتها، خصوصاً انها ستصطدم في كل من هذه الدول بالولاياتالمتحدة التي تحتفظ بوجود عسكري في منطقتي آسيا الوسطى وشمال القوقاز. لكن المحللين الروس اجمعوا على ان موسكو لن تذهب الى مواجهة مفتوحة مع واشنطن وأن التصريحات النارية لا تزيد على محاولة لامتصاص النقمة الداخلية وتحويل الانظار الى خارج روسيا. غير ان المفاجأة جاءت من جانب الولاياتالمتحدة نفسها، اذ شكل تأكيد سفيرها في جورجيا بأن منطقة وادي بانكيسي الحدودية مع روسيا ما برحت معقلاً للإرهابيين رسالة واضحة الى موسكو بأن واشنطن قد تدعم تحركاً اقليمياً روسياً شرط ان يتم تنسيقه سلفاً مع الادارة الاميركية. ودفع ذلك كثيرين في موسكو الى الحديث عن تقارب جدي بين موسكووواشنطن ستشهده الفترة المقبلة على خلفية الحرب المشتركة على الارهاب قد يتلخص في اقتسام مناطق النفوذ في هذه المنطقة، لكنه طرح تساؤلات حول الثمن الذي ستقبضه واشنطن اذا ثبت وجود تحول من هذا النوع. وذهبت التكهنات الى وجود صفقة لمبادلة احياء النفوذ الروسي الاقليمي في ايران التي ما برحت موسكو تصر على مواصلة التعاون معها في المجالات النووية. من جانب آخر شكك كثير من الباحثين الاستراتيجيين الروس في قدرة موسكو حالياً على تقليص خطر الهجمات الارهابية في الاراضي الروسية ووضع آليات فاعلة للدفاع عن مواطنيها. وعقد كثيرون مقارنات بين الآليات التي استخدمتها الولاياتالمتحدة بعد هجمات 11 أيلول والوسائل التي قد تستخدمها موسكو في الحرب على الارهاب. ولفت كثيرون الى ان اهم نقاط الضعف الروسية تكمن في طبيعة اراضي روسيا المترامية الاطراف وطبيعة جيرانها وتوزيعهم الذي يضعف امكانات روسيا في ايجاد وسائل كفيلة بحماية اراضيها والدفاع عن نفسها اذا دعت الحاجة. ويعني ذلك ان القادة العسكريين الروس لديهم قناعة مطلقة بأن من المستحيل على روسيا خلال الفترة الحالية حماية اراضيها من دون ابداء مرونة وقبول المعادلات الاقليمية الجديدة في المنطقة بما في ذلك تحالفات جيرانها مع الغرب، وعمليات تمدد حلف الاطلسي شرقاً، وتوسيع الاتحاد الاوروبي بانضمام جمهوريات سوفياتية سابقة اليه على رغم معارضة موسكو، وأخيراً حلول الولاياتالمتحدة ضيفاً دائماً في المنطقة. إعادة بناء الدولة لمحاربة الإرهاب وفي كل الاحوال سارع كثيرون في روسيا الى وصف مأساة المدرسة بأنها 11 أيلول جديد يستهدف روسيا. ويبدو ان توظيف الكارثة سار خطوة اخرى نحو ربطها بالملف الشيشاني. والاكيد ان مجزرة المدرسة التي شكلت ضربة قاصمة الى سمعة الاجهزة الامنية وأدائها شكلت بالمقدار ذاته ضربة للمسألة الشيشانية بعدما اصرت موسكو على الجمع بين قادة الانفصاليين في سلة واحدة، وظهرت تحليلات عدة في موسكو مفادها ان بيسلان شكلت نقطة تحول اساسية في التعامل مع الملف الشيشاني، وفق المبدأ القائل ان "القتلة كشفوا عن وجوههم" وانه لا محل بعد ذلك عند الاطراف الدولية للدفاع عن عدالة القضية الشيشانية. والمؤكد ان اصرار موسكو على الربط اثر كل عملية مماثلة بين شامل باسايف وأصلان مسخادوف هدف الى تحقيق هذه الغاية. واذا كان باسايف لم يخف وقوفه وراء اكثر العمليات دموية في تاريخ روسيا الحديثة، فإن مسخادوف دان في كل مرة هذه العمليات ودعا الى الجلوس الى طاولة المفاوضات من اجل التوصل الى تسوية مقبولة للطرفين. لكن الكرملين تجاهل الفارق بين الزعيمين وعمد الى خلط الاوراق لتمرير تسويته في الشيشان وهي التسوية التي ما زالت تراوح مكانها منذ وصول الرئيس بوتين الى سدة الحكم. ويبدو ان موسكو قررت بعد العملية الاخيرة دخول معركتها الاخيرة مع مسخادوف. ولا يستبعد كثيرون قيامها بعملية واسعة تهدف الى القضاء تماماً على التمرد في الشيشان وطي صفحة المواجهات التي غدت اخيراً عائقاً امام بوتين بعدما كانت على مدار السنوات الاخيرة مصدر قوة للاجهزة الامنية وأحد العناصر اللازمة لتحقيق توازن القوى الداخلي الذي ظل قائماً على رغم هشاشته حتى الآن. ويشير محللون الى ان الخطوات التي اعلن عنها الرئيس الروسي لإعادة بناء هياكل السلطة وتعزيز سلطاته وتجميع النفوذ في يده تستدعي اغلاق الملف الشيشاني ولو الى حين. والواضح ان حال الانقسام الواسع في المجتمع الروسي حيال قرارات بوتين تستدعي تقديم قربان لها. ولا يستبعد ان تغدو الشيشان مرة اخرى وسيلة لاقناع الغاضبين بأن ثمة تقدماً يجرى تحقيقه على الارض.