توفي قبل فترة في الولاياتالمتحدة المخرج العراقي كامران حسني الذي بعد ان برز كمؤسس للسينما العراقية في الخمسينات من القرن العشرين استقر في المهجر طوال الأربعين عاماً الأخيرة من حياته. صديقه وبطل فيلمه الأول "سعيد أفندي" الفنان العراقي الكبير يوسف العاني كتب هذه الكلمة للمناسبة يتذكر فيها الفيلم وصاحبه وشيء من العصر الذهبي للفن العراقي. في بداية حماستنا الواعية في أواخر الأربعينات، كانت احلامنا كبيرة في مجال السينما. ان يكون لنا فيلم أو افلام عراقية، بالقدر الذي يتلاءم وتصوراتنا آنذاك. ان نتجاوز تجارب مرت فيها السينما المصرية، وان تحذو حذو أفلام شاهدناها في السينما الايطالية الجديدة، وتتراءى أمامنا افلام مثل: سارق الدراجة، وامبرتودي، معجزة في ميلانو، سترومبولي، وروما مدينة مكشوفة. وتتردد في ذاكرتنا اسماء الواقعية الجديدة في السينما: روسلليني، فيسكوتتي، رفارالي ودي سيكا. كنا مهووسين بما نشاهد ونسمع ونقرأ. وكان ما يجري على الساحة السينمائية العراقية، لا سيما بعد الفيلم العراقي الاول "عليا وعصام" ثم ما نراه من افلام المغامرين الجهلة ومحاولات من خاضوا تجارب صغيرة متواضعة. كل ذلك لم يكن في قناعاتنا ذا أثر لما نريد ونحلم به. حتى في تجربة الاستاذ عبدالجبار ولي حينما عاد الى الوطن يحمل مرحلة دراسية تختلف عما من كان قبله من المخرجين السذج او الجهلة - كما قلت - كانت كلها اقل من الطموح، كنا نريد من يقف مخرجاً درس الاخراج تخصصاً او مصوراً درس ومارس التصوير ليكون في موقع البناء المؤثر في الآخرين. في ذلك الظرف والحركة الثقافية والفنية تتوهج في مجال الفن التشكيلي والموسيقى والمسرح والشعر طبعاً. وتحديداً قبل 48 عاماً أي في عام 1955، وصل الى بغداد شاب انهى دراسته السينمائية في الولاياتالمتحدة وجاء يحمل، كما قال عنه أصدقاؤه الذين كانوا يعرفونه قبل سفره، الكثير من المشاريع الفنية والسينمائية بالذات، وكان أولها اصدار مجلة عن السينما! أخذنا العجب نحن الذين نحلم بعمل سينمائي عراقي متميز يقوده فنان درس السينما فناً وصناعة وثقافة - كما أشرت - لماذا لا يفكر هذا الشاب بانتاج فيلم سينمائي عراقي كما فعل زميله الذي عاد قبله - عبدالجبار ولي - الذي أخرج فيلم "من المسؤول" لشركة سومر التي اسهم فيها؟ والتقينا هذا الشاب العائد حديثاً للتعرف اليه، والى طموحاته وخططه وما هي حكاية مجلة السينما وليس عندنا "سينما" بالمفهموم العلمي والعملي؟ كان كتلة من حيوية غريبة تشوبها فوضوية لا أول لها ولا آخر، لكنك تلحظ في داخله ومن خلال مجمل حديثه أو احاديثه وكلماته وحتى اشاراته، ان الهدف الكامن وراء كل ما يقول "سينما" وبالذات تقديم فيلم سينمائي عراقي يحمل صورة لامكاناته الذاتية لكنه لا يحمل التصور المكتمل لهذا الفيلم. انه يريد الاشياء دفعة واحدة وليس لديه شيء واقعي سوى اصدار مجلة السينما. ليس هناك نص، وليست لديه تقديرات للامكانات التقنية المتوافرة آنذاك، وليس لديه بعد ذلك تصور لمدى القدرات الفنية، والتمثيلية بالذات الا بالقدر الذي يتذكر قبل ان يسافر لدراسة السينما. لكنك تشعر من خلال اصراره انه يملك كل شيء! فكان عليه والحال هذه ان يبدأ في تهيئة الجو والتصور المستقبلي للفيلم الذي سيقدمه مستقبلاً. ولكن متى؟ لا يدري. المجلة التي سيصدرها ستكون نافذة لما يريد! صورة ترسم في ذهن القارئ والمشاهد.. اقول المشاهد واعني من يمر في شوارع بغداد ليقرأ لافتات عريضة وملونة تعلن عن صدور مجلة اسمها "السينما" وان المجلة تكشف عن اسرار مارلين مونرو. إنها اعلانات وبيانات كما يفعلون في الانتخابات في أميركا! جلب الانظار وأثار التساؤل والفضول عن هذه المجلة وما بعد هذه المجلة! وأصدر كاميران مجلة السينما في 21 أيلول سبتمبر 1955. وكانت مجلة تنقل الينا ما في السينما الاميركية من مظاهر ومواضيع مختلفة وتراجم في الثقافة السينمائية والمسرحية. وكان الاقبال عليها شديداً وحافلاً. وشيئاً فشيئاً استقطبت المجلة عدداً من المحررين من الشباب كان من بينهم بدري حسون فريد، سامي عبدالحميد، وصالح سلمان، وانا، وآخرون.. لنطرح فيها وجهات نظرنا في السينما والمسرح آنذاك. واختار كاميران وشريكه عبدالكريم هادي الحميد، المحامي والفنان، قصة "شجار" للمرحوم القاص ادمون صبري. وتقرر ان أكلف انا بكتابة السيناريو والحوار بعد موافقتي على النص - القصة - والذي كان قصة قصيرة ذات حدث موجز وصغير. قرأت القصة فأعجبت بالشخصية الرئيسة، المعلم سعيد افندي، وما يمكن ان يخرج منها من احداث حياتية أخرى وشخوص مستوحاة من حياة هذا المعلم وظروف يمكن لها ان ترسم وقائع ترتبط بالفرد العراقي والانسان في كل مكان. وافقت، وجلسنا نتحدث انا وكامران. وشرحت له وجهة نظري. وطرح لي تصوره في ان ننطلق بالقصة في اجواء عراقية رحبة. بلا استوديو. في البدء، أفرحني هذا الموقف ورحت اتحدث له عن تصوري في اختيار اماكن تعكس حياة الناس وترسم صدقهم واصالتهم. واتفقنا على الأسس وتركنا التفاصيل. وبدأت اكتب واسلم له الاجزاء التي اكملها وأقرأ له الحوار "العراقي" النابع من بيئة الناس ومستوى كل شخصية وحضورها. وكان كامران - رحمه الله - يضحك ويبتهج بل يبالغ بفرحه ويدعوني كي اكمل العمل.. لأنه يريد ان "نبدأ" فقد مل وضجر.. والمجلة ليست الا معبراً للعمل.. وطلب أن تأخذ المجلة دورها منذ الآن في اعلام ينبه الناس الى ما نعمل خطوة خطوة ومرحلة مرحلة تسويقاً وتمهيداً لما سيكون في الفيلم وادراكاً لمراحل العمل صعوبة أو فرحاً أو ابداعاًَ. وبدأت أكتب، انا وصالح سلمان، حقلاً ثابتاً في المجلة تحت عنوان "سعيد أفندي" متابعة اسبوعية منذ اليوم الأول لبدء التصوير. في البدء وقبل أن نضع اقدامنا على ساحة العمل الفعلي اجتمعت اللجنة المشرفة على الفيلم وهي: كامران حسني - المخرج، عبدالكريم هادي الحميد - المنتج، وابراهيم جلال - مساعد المخرج، وجعفر السعدي - مساعد مدير الانتاج والممثل، وانا الكاتب والممثل. اجتمعنا واقسمنا جميعاً "أن نعمل باخلاص، ومسؤولية وألا نسمح لأي خطأ او غش ينطلي على المشاهد اذا ما عرفنا ذلك. اما اذا لم نكن ندري بذاك الخطأ، سواء كان فنياً او غير فني، فتلك مسألة تتعلق بقدراتنا واستيعابنا. وهذا أمر خال من القصد او التقصير". وتوجهنا لنصور أول مشهد في الفيلم، في مدخل "الحيدر خانة"، وسعيد افندي يخرج من بيته الى السوق ويشتري "صماطة" من جاره العطار - المرحوم عبدالرحمن فوزي - وصوت بلبل اذاعة بغداد يتعالى والمذيع قاسم نعمان السعدي يعلن "هنا بغداد". وتوالى العمل بروح الجماعة. وقد ضم مجموعة من الممثلين المجيدين ومعهم سيدة فاضلة تقدمت لتشاركنا العمل، ولتكون هدية ثمينة للسينما والمسرح العراقي والحركة الفنية المناضلة والباسلة هي: فخرية عبدالكريم المدرسة المفصولة آنذاك والتي اتفقنا جميعاً على ان نسميها بمحبة واعتزاز: "زينب". وبدا كامران شعلة متقدة يتحرك بلا حدود، يدري ماذا يريد. ويحسب حساب ما سينجز، يبتكر ويتوسل بأدوات بدائية هي الأخرى، كي لا نكون بحاجة الى عاكسات الضوء. ما دام هناك الورق الفضي في صناديق الشاي. الكاميرا عنده عين يلتقط من خلالها حياة مبدعة في ادائها طبيعية في سلوكها وتصرفها. وكنت اهمس في أذنه احياناً وبتواضع لو. كذا وكذا. لأن الفكرة التي نريد. كذا وكذا. فيصرخ ويطور الحال ويظل هو سيد الموقف.. رحمة الله عليه. وكانت بعد ذلك ازمة اجازة الفيلم للعرض.. كنت في المانيا وكانوا كلهم في بغداد. وتأخرت الاجازة واوشك الفيلم ان يمنع. وللتاريخ والحقيقة. وبعد مرور 47 عاماً على عرض الفيلم أنقل ما قاله ممتاز العمري - مدير الداخلية العام - الذي راقب الفيلم وأبقاه اسابيع. من دون موافقة رسمية قال لي: "كانت التقارير تأتيني من اكثر من مصدر ضد الفيلم والذين عملوا في الفيلم. لكنني أشاهد الفيلم. فأحس "ما بينو شي" وأشعر بمتعة ومحبة ولكنني بعد ان انتهي من المشاهدة واكون مع نفسي، اقول "لا. بينو شي". لكن شنو هذا الشي؟. ما اعرف". وبعد مشاهدات كثيرة قرر الاستاذ ممتاز ان يجيز الفيلم وأخذ كتاب الاجازة الى وزير الداخلية آنذاك: سعيد قزاز وقدمه للتوقيع فرفع سعيد قزاز رأسه قائلاً: والتقارير التي وصلتنا؟ قال له ممتاز العمري: "معالي الوزير هذا فيلم سينمائي يفخر به العراق". فوقع سعيد قزاز على اجازة الفيلم. وعرض الفيلم في 6-11-1957 ليترك الأثر الكبير، والصدى الذي اكد القدرات العراقية المبدعة والواعية ليقف في الصدارة المخرج كامران حسني ويسجل الريادة الاخراجية المثقفة في العراق، بجدارة واعتزاز. رحمة الله عليه. * فنان سينمائي ومسرحي عراقي.