قد لا يكون اسم المخرج العراقي عبدالهادي مبارك معروفاً على نطاق واسع خارج بلده، على رغم ان مسيرته الفنية تجاوزت الخمسين عاماً من العمل في حقل الفنون الدرامية والانتاج الفني، الدرامي والسينمائي... إذ دخل هذا الفنان الفن من باب السينما عام 1947عاملاً في فيلم "عليا وعصام" الذي أخرجه الفرنسي اندريه شوتان متنقلاً من العمل بصفة "كلاكيت" الا ان أصبح مساعد مخرج ثالث ثم ثانٍ، في فيلمين أنتجا في العراق أيضاً... هما "طاهر وهرة" 1950، و"ارز وقنبر" 1951 وكانا انتاجاً مشتركاً عراقياً - تركياً بين "استوديو بغداد" و"شركة اريمان قادشلر" التركية. وما لبث ان أسس شركة صغيرة للانتاج السينمائي في بغداد كان انتاجها الأول فيلم "فتنة وحسن"، الذي أخرجه زميله الفنان حيدر العمر بعد أن كتبا سيناريو الفيلم معاً، ثم كتب عام 1955 قصة وسيناريو فيلم "عروس الفرات" الذي سيكون أول فيلم من اخراجه. مئة فيلم في نصف قرن وتوالت أعماله الدرامية بعد ذلك، وخصوصاً بعد تأسيس التلفزيون العراقي الذي شغل فيه أكثر من موقع وظيفي وفني، وقدم من خلاله أعمالاً درامية كثيرة. كما ساهم مساهمة جادة وواسعة في اعمال دائرة السينما والمسرح... وكان آخر فيلم سينمائي من اخراجه عام 1990 هو "الحب كان السبب" سبقته أفلام أخرى له من أبرزها "بديعة" عام 1986. وبعد أن أصبح رئيساً لمجلس ادارة "شركة بابل للانتاج السينمائي والتلفزيوني" قدم عدداً من الأعمال الدرامية المتميزة، قرر بعدها أن يتفرغ للانتاج الشخصي، مركزاً عمله على الأعمال الدرامية. يستعيد عبدالهادي مبارك مسيرته هذه، وهو يجد أن حصيلة نصف قرن من السينما العراقية لم تكن سوى مئة فيلم. ونسأل معه: لماذا هذا التأخر؟ وما المعوقات؟ فيقول: "المعوقات هي في أننا اعتمدنا على نجاح السينما العراقية على "دائرة السينما والمسرح"، وذلك لأن المنتجين وذوي القدرة المالية لم يرغبوا في دخول هذا المجال، فتجارة السينما في نظرهم تجارة غير مربحة. هذا سبب، والسبب الآخر هو الواقع الاجتماعي العراقي الذي هو واقع محجم بتقاليد وأعراف وسياقات مجتمعية ليس من السهل تجاوزها". وهذا، في رأيه "ما جعل عملية الانتاج السينمائي في العراق محصورة بدائرة السينما والمسرح التي أنتجت أفلاماً كانت ذات أهداف محددة... والقليل منها كان انتاجاً عراقياً خالصاً". ولماذا، في رأيك، لم تستطع دائرة السينما والمسرح الانطلاق بنشاط أكبر، حتى ضمن هذا النطاق الذي أشرت اليه؟ - للأسف الشديد ان أكثر الذين تعاقبوا على ادارة هذه المؤسسة لم تكن لهم تلك الحماسة التي ينبغي ان تكون لمن يتولى ادارتها... فهي، كما أراها، مؤسسة يفترض ان تقدم صورة العراق الفني وتقدمها الى العالم على نحو مشرف. الا انها، وللأسباب التي ذكرت، ظلت أسيرة وضع ناتج من تصور مسبق. فظلت الأجهزة الفنية والمعدات القيمة، التي لا تمتلك دول عربية أخرى نظيرها، مقتصرة على ما هو في هذا النطاق المحدود، فكنا كمن يمتلك من المؤسسة اسمها... وليس انتاجها. وحينما ترأسها أحد الأدباء الفنانين، وهو الشاعر والفنان يوسف الصائغ، كان أن وجه جانباً كبيراً من اهتمامه للسينما العراقية فأنتجت المؤسسة في فترة ادارته سبعة أفلام. إلا أن هذا المسار توقف بسبب "الحصار" الذي داهمنا ناسفاً كل شيء. اليوم إذا أردنا أن تستأنف السينما العراقية مسارها، كيف ومن أين نبدأ؟ - من خلال خبرتي وما عانيت من أجل السينما ومن أجل نشر الثقافة السينمائية أرى قبل أن نتحدث في الكيفية ان نتحدث عن الدعم الذي تحتاجه هذه الصناعة المكلفة. لقد التقيت مرات عدة وزير الثقافة العراقي الحالي، فوجدت لديه الرغبة في أن نعيد التواصل في حياة السينما العراقية، وأنا أرى ان واجب الدولة ان تعمل في هذا السبيل... والخطوة الأولى تبدأ باستقلال "السينما" عن "المسرح"، لا بد من مؤسستين بدل المؤسسة الواحدة كما هو الوضع حالياً كذلك لا بد من وجود الأجهزة اللازمة ومعدات العمل وان نضع بين أيدي من يعملون في هذا الحقل ما يساعد ويؤهل لانتاج متواصل من دون التفكير بالأرباح والخسائر - على الأقل لمدة خمس سنوات - فلدينا اليوم عدد كبير من الفنانين التقنيين الذين تخرجوا في معاهد وكليات فنية مشهود لها ونستطيع بهم ومن خلالهم قيادة قوة مثقفة لتحقيق أعمال سينمائية نبدع فيها، ولا يجوز أن نبقى على ما نحن فيه، فنحن منذ أواسط الأربعينات من القرن الماضي نعمل في هذا الحقل. الدولة ثم اقتصاد السوق من كلامك يبدو انك لا تزال تعول على الدولة، ودعم الدولة... في حين ان الاتجاه العام اليوم هو نحو "اقتصاد السوق". وزير الثقافة نفسه صرح أخيراً بذلك في ما يخص بعض المؤسسات الثقافية. فلماذا لا تفكر وتجد من يفكر معك بالمشاريع الخاصة؟ - هذا كلام معقول جداً. ولكن نحن نعيش في بلد يعد من حيث الغنى ثاني البلدان العربية... وثروتنا تحت الأرض وليتنا لم نمتلك هذه الثروة لأنها أصبحت سبباً في ارهاقنا وفي عذابنا نحن لا نستطيع الآن أن ننفذ أي عمل سينمائي ما لم يكن لدينا المال اللازم. فإذا كان بعض الشبان قد صوروا جوانب من الأهوار وباعوها لشركات وفضائيات عالمية فليس الجميع راغب بذلك. أنا لا أريد أن أنوب عن "وزير الثقافة"، ولكنني أقول له بكل حب واحترام: احمنا وادفعنا الى العمل لخمس سنوات فقط، ثم اتركنا بعدها نواصل المسار... وماذا تتوقع بعدها؟ - ستكون لدينا القدرة على العمل ضمن حال "اقتصاد السوق"، أما اليوم فنحن أسرى "راتب التقاعد" لذلك لا نستطيع في واقع امكاناتنا هذه ايجاد سينما حقيقية كما نحب ونرغب. فإذا ما تمكنت الدولة من التفكير بذلك واقتنعت بتمكيننا من ذلك بتأسيس الشركة التي نريدها... فإننا قادرون على تحقيق ما نأمل فيه من "سينما عراقية"، فنحن حماة السينما.