أتحدث عن الثقافة هنا، باعتبارها افكاراً منتجة من طبقة المثقفين الذين يعملون على تحويل الرؤى والمشاعر والمناظر والافكار الى مشهد ابداعي امام المجتمع. هذا المشهد هو ما يعمل، بدوره، على صوغ أطر العلاقات والمعارف الفردية والاجتماعية. وبهذا المعنى سأتحدث عن الثقافة العربية التي تشمل الابداع الادبي والفني ايضاً. ان سقوط نظام توتاليتاري يعني سقوط ثقافته رسمياً. لكن ليس بالضرورة ان تكون هذه النهاية الرسمية نهاية واقعية تحل محلها ثقافة بديلة. فالثقافة التوتاليتارية تبقى تعمل كمخيلة ونسق يتم داخلهما تصور الوضع الجديد والحكم عليه من زاوية الثقافة التوتاليتارية التي ترسبت في الوعي العام. ولذلك لا يمكن الحديث عن الثقافة العراقية وتحويلها الى ثقافة ديموقراطية من دون البحث عن تجليات الثقافة الشمولية في الفكر والعلاقات والاحكام والمقارنات والممارسات السياسية والاجتماعية التي تستحوذ على سلوك المثقف وافكاره. ان المثقف العراقي هو ابن الاطر التوتاليتارية في التفكير. فالشمولية هي مضمون جميع الايديولوجيات المختلفة التي تساهم في صراع الافكار السياسية والاجتماعية في الشرق الاوسط، سواء الحاكمة أو غير الحاكمة. فغير الحاكمة تخضع بدورها حتى وهي خارج الوطن، لأحكام فكرية شمولية ذات طابع ايديولوجي منسق، يغذي موقف المثقف من الآخرين، ويحكم علاقته بهم، كما يحكم على افكارهم ونشاطهم الثقافي من خلال ذلك الطابع الايديولوجي العصبوي المللي. لدينا، نحن المثقفين العراقيين، أكثر من اربعين عاماً من صراع ثقافي مرتبط بالصراع الايديولوجي وخدم في صفوفه كمنظمة دعائية أو عقائدية دوغمائية. وقد انتج هذا الصراع استقطاباً حاداً في بنية الثقافة العراقية كما في بنية المثقف كعضو في جماعة مستقطبة. وجرى عبر هذا الاستقطاب توزيع حازم لموقع المثقف. وقد عبد المثقف العراقي طوطمية هذا التوزيع بحيث غدا صفة سياسية لثقافته وسلوكه وافكاره ومواقفه وانتاجه الابداعي. ويتنوع هذا التوزيع على ما هو سياسي وفكري، وما هو حزبي وفئوي. ومن خلال هذا التوزيع انقسمت الثقافة العراقية على جبهات سياسية اكثر مما انقسمت على توجهات فنية وابداعية وتيارات ادبية وفنية. غير ان السمة العامة لهذا التوزيع وهذه الجبهات كانت غياب الحرية وانعدام الشعور بضرورتها لتحرير الثقافة من النصية الايديولوجية. فحيث يكون هناك توجيه صارم للثقافة في السلطة التوتاليتارية، وفي الشعور بالانتماء الى ايديولوجيتها، يكون هناك تعقب بوليسي لافكار الآخرين الثقافية، ورقابة عقائدية عليها. ان الثقافة في توتاليتارية صدام لم تكن اكثر من جهاز اكراه، خاضع لتوجيه وتنظيم، وفي الوقت نفسه خاضع لقلق صارم حول الثقافة الى جهاز قمع ضمن اجهزة القمع الامني والاستخباراتي، وكنا نحن ضحاياه مباشرة حيث ظهرت اسماؤنا في القوائم السود التي اشرف على تنظيمها واعدادها طارق عزيز الذي تولى وزارة الثقافة والاعلام بهدف تبعيث الثقافة وتحويلها الى جهاز حزبي حديدي. هل هذا هو واقع الثقافة العراقية اليوم؟ اي كونها لا تزال واقعة تحت تأثير المخدر التوتاليتاري من مختلف الاتجاهات وبنسب متفاوتة؟ تعاني الثقافة العراقية من هذا الواقع حتى الآن. وسيكون تطور العراق السياسي والاجتماعي نحو الديموقراطية والمجتمع المدني مرتهناً بقدرة هذه الثقافة على التحرر من ماضيها وتصفية الحساب مع سنوات طويلة من قمع الرأي واسكات الآخر واستخدام المثقف عصا لضرب الآخرين وتبرير القمع. ان التحول نحو الديموقراطية يتطلب الاتجاه نحو ثقافة ليبرالية ومدنية مستقلة قادرة على فتح الجدل والحوار ورؤية الواقع والحقائق في المجتمع. ومع الأسف قدمت الثقافة العراقية على مدى نصف قرن مضى خدمة لا تقدر بثمن لصعود الديكتاتورية بحجبها الحقائق والتعامل مع اوهام الايديولوجيات واطعام المخيلة الاجتماعية بوعي زائف. تمظهر معظم الانتاج الثقافي العراقي في صورة تماثل بين الايديولوجيا والثقافة. وتحول هذا التمظهر الى مرجعية سياسية وحزبية. ولم يكن من السهل الخروج عن هذا التماثل من دون دفع ثمن الاحتجاب والتهميش - لأن منابر ايصال الثقافة الى الآخرين كانت ولا تزال محتكرة، اما من قبل السلطة أو من قبل الاحزاب. وقد خضعت الرؤية العربية للثقافة العراقية لهذا التمظهر ايضاً. فالثقافة العربية تعاني امراضاً مشابهة. كانت معظم الكتابات العربية عن الثقافة العراقية خاضعة للمنطق الايديولوجي وتتعامل مع الانتاج الثقافي العراقي من هذا المنطلق، فقامت بتقليص هذا الانتاج حجماً واتجاهاً الى اتجاهين هما الماركسي والقومي وبضمنه البعث، ثم قامت بتقليص هذين الاتجاهين الى من تعرفهم مدعومين حزبياً أو من له علاقة شخصية أو نفعية، فبرز الاتجاه الثقافي الحزبي كممثل عن الثقافة العراقية سواء في الخارج الشيوعيون أو في الداخل البعثيون. لعب مفهوم غرامشي عن المثقف العضوي دوراً سلبياً في تحديد الاتجاهات الثقافية العراقية وفي تلبيس المثقف مفهوم البطل الثوري البروليتاري الشيوعي والبعثي معاً، المثقف حامل رسالة التنظيم والحزب لايصالها الى البشر وضمهم الى كتلة الوعي الحزبي. كان مفهوم الحزب في الثقافة العراقية غيباً لا يمكن ان يرى ولكن يحس. وما يوحي به الحزب يتحول الى عقيدة ونص مقدس. وكان المثقف العراقي الحزبي يحمل رسالة الحزب باعتبارها هذا الغيب، فيتماهى مع شعوره بأنه حامل الوحي الى الآخرين، وان هذه المهمة هي تكليف عُُلوي هبط من مقام الحزب الذي لا يراه احد. فالهرمية التنظيمية طبقات سماوية لا وجود فيها للآخرين الذين يتسلمون رسائل الوحي من طريق ملائكة اللجان الحزبية. ولذلك انتشر التعسف في ثقافة المنفى العراقية بمثل ما انتشر في العراق مع فوارق الحجم والوسائل. ومثل اي مفهوم، تحول مفهوم المثقف العضوي الى دوغما لدى موجهي الثقافة والنقاد الماركسيين والقوميين العراقيين والعرب، وكانت تجربتي في المجلة الثقافية للشيوعيين العراقيين، وكوني يسارياً مستقلاً، تعكس مرارة تفضيل الحزبي والمناضل على القيمة الابداعية. يضاف الى ذلك العمل على تغييب الحرية وتقديم الفحص السياسي والرقابة الحزبية على الابداع. لقد شهدت الثقافة العراقية تطبيقاً صارماً للمفاهيم الحزبية التي تحولت الى اطار ثقافي، وهذا ما جعل مئات المثقفين المستقلين حزبياً، مع نتاجهم الثقافي، بعيدين عن دائرة التداول والنقد والمراجعات الصحافية باعتبارهم بورجوازيين صغاراً خارج مفهوم المثقف العضوي. يملك العراق إرثاً تعسفياً في السياسة والفكر والثقافة زاد في انتشاره الارث التعسفي الاجتماعي الناتج من طبيعة العلاقات القبلية والدينية. ولا يزال هذا الارث يهيمن على الموقف من الثقافة والانتاج الثقافي وعلى الحياة السياسية للعراق. وقد تعامل الاحتلال الاميركي مع هذا الارث وساعد على اظهاره بمظهر التنوع العرقي والاجتماعي والثقافي المختلف عن نظام صدام، وظلت الطبقة الوسطى بعيدة عن التأثير والظهور، فالكتلة التاريخية اليوم في العراق، هي كتلة القبيلة والقومية. ان ابرز مظاهر هذا الارث التعسفي هو فشل الثقافة المدنية في الظهور كثقافة بديلة عن الثقافة الشمولية لنظام صدام حسين. وقد فشل منتجو الثقافة المستقلون في تكوين قيم وتقاليد ومنابر ثقافية لا تملك إرث التهميش والعداء نفسه. فالمنابر المستقلة التي نشأت في الخارج بمساعدة المناخ الديموقراطي في الغرب أو بمساعدة تنظيمات سياسية دينية أو قومية، قادت نمط الحملات نفسه من التهميش والالغاء والتعامل مع الثقافة كمنبر لصوت واحد. هذه المنابر ترد على الصوت الواحد بصوت واحد، وعلى التهميش بتهميش الآخر، وعلى التعسف الحزبي تجاه الجماليات بتعسف فردي يجعل من الجماليات مزاجاً مريضاً. ان واقع العراق اليوم يخضع لتأثيرات هذا الارث ويدفع ثمنه حتى الآن. وحتى الآن يبدو ان الاحتلال، على رغم الثمن الذي دفعه العراق، فشل في تقديم نموذج ديموقراطي بديل، فقد انسحب هو الآخر ليتناغم، بمستوى ما، مع هذا الارث ويعتمده، تاركاً له، تحت توجيهه، السيطرة لترتيب عراق المستقبل على أسس التعسف والقوة الفردية للنظام. ان تحقيق افكار ومفاهيم مثل الديموقراطية والمجتمع المدني والتعددية وحرية التعبير وسيادة القانون واحترام الدستور، والانتخابات الحرة والنزاهة والشفافية تلقى في العراق اليوم فوق الجميع، في شكل قريب لحد ما، مثلما كانت تلقى في الخطاب التوتاليتاري لنظام صدام حسين، منزوعاً منها فحسب، ضرورة التضحية من أجل القائد الملهم، والحزب القائد. اي انها تلقى فوق المواطنين وليس بينهم. وتتعرض هذه المفاهيم والافكار لنقد تهكمي اكثر مما تتعرض للجدل والنقاش الواقعي لأن الحوار مقطوع ولأن الارث الرسمي والحزبي يفتقر الى ثقة المواطنين. ذلك يعني ان ثقة العراقيين بأنفسهم قوية ولم تستطع كسرها اجراءات صدام القمعية. وثقة العراقيين بأنفسهم تقابلها عدم ثقتهم بشعارات وثقافة الاحزاب السياسية. فالعراقيون وصلوا الى قناعة بأن الشعارات التوتاليتارية السابقة ليست سوى دعاية فارغة من المحتوى والحقيقة، كما ان الخبرة الثقافية الاجتماعية للعراق لا تزال عفوية بحساسيتها تجاه الخداع الثقافي والايديولوجي ويمكن ان تتطور الى ثقافة تقود الوعي الجديد، وعي المجتمع ومتطلباته لا وعي الحزب والسلطة ومتطلباتهما. نحن، هنا، نشخص الفراغ الحاصل بين النخب السياسية والثقافية وبين الرأي العام، اذ لا يزال عمل النخب بعيداً جداً عن عكس آمال الرأي العام وطموحاته واهدافه. واكثر من ذلك، وقعت النخبة في الوله الايديولوجي بحيث عجزت عن ان تعكس آمالها وطموحاتها هي، فأهدرت الزمن والثقافة في عكس رغبات وطموحات الزعامات السياسية لاحزابها. ولذلك تجد ان الانتاج الثقافي العراقي في شكل عام، يعكس صراع النخب في ما بينها دفاعاً عن تلك الزعامات وطموحاتها المعلفة تماماً باسم الحزب، ولا يعكس لا أملها وطموحاتها كنخب ولا يعكس طموحات وآمال الرأي العام الذي وجد في الثقافة انعكاساً للايديولوجيا. تعمق هذا الفراغ ازمة الانتقال الى ديموقراطية متحررة من هيمنة العقل الحزبي الضيق الافق الذي يحتكر الثقافة والسلطة والمنابر والوظائف الرسمية في الدولة ويماهي بين الدولة وسلطته بحيث تتحول الدولة الى مؤسسة حزبية كما الصحافة والاعمال وثقافة المجتمع، ويحول المجتمع المدني الى مؤسسات ملحقة بالسلطة لمواصلة الاكراه والتمييز. هذه الصورة القاتمة اليوم لا تعني ان المستقبل سيكون كذلك على رغم الصعوبات التي تحيط بفكرة التخلص من إرث ثقافة نظام صدام. ان ما هو مهم للثقافة العراقية هو ممارسة اكبر قدر ممكن من الوضوح، وفصل المفاهيم الجمالية والابداعية عن الضلالة الايديولوجية، وعزل التلفيق الثقافي عن جوهر الثقافة، وكتابة الثقافة كتعبير عن أمل ورؤية للعالم كي يعيش فيه الآخرون حتى لو كان مستوى الكتابة فردياً. فالثقافة الفردية حتى لو لم تسع لذلك تتحول في نهاية الامر رؤية للنفع العام. ان مجتمعاً مثل المجتمع العراقي واجه على مدى تحولات القرن الماضي طمساً وتمزيقاً للهوية من جميع الاحداث وجميع التيارات الايديولوجية والشعارات. وكان الثمن باهظاً كلف حياة ومصير ملايين العراقيين، وسيكون هناك صراع بين الثقافة الالغائية السائدة وبين الثقافة التعددية المستقلة التي ستستفيد من نظام المقارنات المعاصرة الذي صار العراقيون يمارسونه في عصر العولمة الفضائية. لقد قدر لجيلي والاجيال اللاحقة ان تعيش في داخل العراق أو خارجه استلاباً ثقافياً ساهمت العوامل التي ذكرناها في تكريسه. واذا كان المثقف يخشى افتتاح مرحلة تنويرية تمهد لنهضة ثقافية عراقية فان تطور العراق السياسي والاجتماعي نفسه سيواجه اعادة انتاج ثقافة ذرائعية وتبريرية تقبض ثمن تزييفها لواقع ومستقبل الانسان العراقي الذي لا يريد ان يواصل دفع الثمن. * كاتب عراقي مقيم في لندن.